مات دامون على الدراجة النارية وخلفه على المقعد جوليا ستايلز، وهو يشق طريقه بأسرع ما يستطيع في شوارع أثينا. في الخلفية مظاهرة. ووراءه سيارة سوداء تطارده وتطلق النار عليه. المطاردة طويلة، وتشمل الانتقال من زقاق إلى آخر، والقيادة السريعة في شوارع مزدحمة، وقيادة الدراجة فوق سلالم طويلة تربط بين الأحياء. في مجملها، مطاردة طويلة تستغرق نحو ربع ساعة من فيلم «جاسون بورن»، وتنتهي بمعركة بين مات دامون وبين قاتل محترف (فنسنت كاسِـل).
على الشاشة، الفصل مؤلف من مشاهد عدة، كل منها يمر في دقيقة أو نحوها، وكل مشهد مؤلف من ثلاث ثوان إلى خمسة. كل شيء يقع في سرعة والمشاهد يتابع ما يدور في لهفة هذا الوضع المعقد، ولو أنه يدرك أن البطل لا يموت… وإن مات ففي نهاية الفيلم وليس في مطلعه.
* من ألف إلى باء
الحال هو أن تصوير ما يقترب من ربع ساعة مؤلّـف من مواد تكفي لساعتين أو أكثر. تدخل جميعها أنبوب اختبار المخرج ومدير التصوير، ويتم حذف معظمها والحفاظ على الأفضل منها قبل أن تتوجه هذه النخبة من اللقطات إلى التوليف، حيث يقوم فنان المونتاج باختيار ما يريد وما يراه صالحًا لتأليف النسخة الأخيرة تبعًا لدرايته بما هو مطلوب من الفيلم ومتوقع منه.
في حالة هذا الفيلم، وتبعًا لأعمال المخرج بول غرينغراس ونسبة لطبيعة السلسلة فإن المطلوب هو إيقاع سريع يؤدي إلى ممارسة المونتير (كريستوفر راوز هنا) لسيادته في اقتناص اللقطات. قطعها ومزجها والاختيار بينها قبل إنجاز الدقائق التي سنراها على الشاشة.
في كل هذا الجهد، ما زال التصوير يتم بمنأى عن النتائج. على الشاشة، الحركة لا تتوقف. مشهد المطاردة ذاك (الذي هو واحد من مشاهد عدة من النوع) يمر بسرعة المذنّب الفضائي. في الواقع يقوم مدير التصوير بوضع الكاميرا وتأسيس الإضاءة ووضع إشارة بدء (قد تكون رسمًا بالطبشور) وأخرى في النهاية. مات دامون سينطلق بدراجته من هذه النقطة القريبة من مدير التصوير إلى نهاية الأمتار الخمسة عشر المحددة له، حيث سيستدير يسارًا خارجًا من اللقطة. في الوقت ذاته، هناك طلقات تصيب سيارات مصطفة إلى جانب الطريق. هذه سيتم تصويرها (أو ابتداعها على الكومبيوتر) لاحقًا. المشهد المصوّر لا يحتويها حتى وإن كانت ستظهر للمشاهدين.
إذ ينطلق مات دامون بإشارة متفاهم عليها وبالسرعة القصوى يستدير إلى اليسار ويغيب. المخرج يعجبه ذلك أو لا يعجبه. مدير التصوير، باري أكرويد، قد يكتشف خطأ ما. سيعاد التصوير. لقطة مثل هذه قد تُـصوّر مرتين أو خمسة. ما بين تهيئة المشهد والحصول على اللقطة التي تعجب المخرج قد يمر نصف يوم، أو بضعة أيام كما كان الحال مع أليخاندرو غونزاليز إيناريتو عندما أنجز فيلمه الأخير «المنبعث» (مشهد البداية حين هجوم الهنود الحمر على معسكر للبيض، وتم تصويره لأيام عدة بمعدل ساعتين فقط في كل يوم تبعًا لإضاءة محددة من النهار).
في كل الأحوال، وبصرف النظر عن عدد اللقطات، وكم يقتضي تصويرها من الوقت، فإن تصوير اللقطات ما زال على حاله منذ البداية الأولى للسينما: انطلاق من العلامة أ إلى العلامة ب، ثم التوقف. إذا ما كانت اللقطة لوجه يمر بخلجات عاطفية، فإن له أيضًا بداية ونهاية منفصلتين عن المحيط الذي يمر به الممثل أو الممثلة.
* الفيلم في لقطة
قليلة هي الأفلام التي يتم تصويرها في لقطة واحدة تتحوّل إلى مسيرة متـصلة لا تنقطع. لا يجد معظم المخرجين أنفسهم معنيين بمثل هذا الأسلوب؛ لأنه خاص جدًا وينتمي إلى أفلام ذات شروط. لكن ألكسندر سوخوروف فعل ذلك بنجاح منقطع النظير في «سفينة روسية» (2002) الذي صوّره تيلمان بوتنر، وهو خبير تصوير بالدجيتال واكب العمل على أكثر من مائة فيلم أوروبي. ذلك الفيلم من 99 دقيقة تبدأ من أول لقطة وتنتهي بها. الكاميرا تتحرك كما هو مخطط لها كذلك قرابة 2000 كومبارس، على كل منهم أن يتقن ما سيقوم به تبعًا لتمارين أجريت. أي خطأ فادح سيعني إعادة التصوير بأسره وليس للقطة أو مشهد.
في سنة 1958 قام أورسون وَلز بتحقيق فيلم «لمسة الشيطان». والبداية كانت لقطة واحدة تشمل المشهد بأسره وتتكون من ثلاث دقائق ونصف أذهلت المشاهدين آنذاك، ولا تزال مثيرة للإعجاب اليوم: كاميرا راسل مَـتي تبدأ بلقطة ليلية قريبة ليدين تحملان متفجرة. لا نرى وجه الرجل، لكنه يستدير في اللحظة التي تستدير الكاميرا إلى اليسار لنرى رجلا وامرأة قادمين من عمق الشارع. الرجل يركض والكاميرا ترتفع عنه. نراه كاملاً. يضع المتفجرة في السيارة التي سيستقلها القادمان ويهرب. الكاميرا تواصل ارتفاعها بينما تغادر السيارة المرآب وتختفي وراء بناية من طابقين. الكاميرا تواصل حركتها صوب اليسار وتهبط فوق مستوى الأرض بقليل مستقبلة السيارة التي باتت الآن قادمة في مواجهتها؛ فإذا نحن في شارع مزدحم مع رجل بوليسي على تقاطع الشارع. تنسحب الكاميرا إلى الخلف. تستدير السيارة إلى اليمين. تتركها الكاميرا تمضي وتركز على رجل وامرأة آخرين يمشيان في شوارع المدينة المزدحمة بالمشاة والسيارات والعربات. لكن السيارة المفخخة تعود وتقف عند حاجز الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة. السيارة تغادر الكاميرا من جديد، حيث تنفجر خارج مجال الرؤية.
سنشاهد في «أنا كوبا» (1964) لقطة بداية مشابهة تستمر لأكثر من عشر دقائق صوّرها سيرغي أوروسفسكي تحت إدارة المخرج ميخائيل كالاتوزوف. سباحة أخرى مع الكاميرا تصعد وتهبط الفضاءات المختلفة، كاشفة عن مشاهد داخلية وخارجية وهابطة من أعلى المبنى لنهايته كما لو كانت طائرة مروحية صغيرة.
ألفرد هتشكوك لم يصوّر «حبل» (1948) بلقطة واحدة. لم يكن هناك ديجيتال آنذاك، بل كان عليه أن يستبدل بكرة الفيلم كل 12 دقيقة. ما قام به هو دمج الفواصل على نحو اعتقد المشاهدون يومها أنه صوّر الفيلم بأسره (80 دقيقة تحكي قيام أستاذ بكشف جريمة قتل ارتكبها طالبان شابان بحق ثالث) بلقطة واحدة. مديرا التصوير ويليام سكال وجوزف فالانتين أحسنا التورية في قصة تقع بأسرها في شقة صغيرة واحدة.
في نهاية المطاف، لا يختلف المنطلق الرئيس: خطّـة عمل تنطلق في رحلة قد تقصر وقد تطول، وتستبعد المونتاج أو تقرّبه وتعتمد عليه. النجاح يعود إلى موهبة المخرج في معرفة ما يريد وكيف سيحققه وما سيؤول إليه العمل أمام المشاهدين. في مقدّمة هذا الجهد يبرز مدير التصوير وقدراته على تنفيذ ما يراد له. الخطّـة تتحوّل إلى قانون عمل، ودور مدير التصوير تنفيذها على أفضل وجه لتحقيق اللغة الفنية التي يريدها المخرج لعمله.
9:54 دقيقة
سحر السينما يتجلى من خلال عدساتها
https://aawsat.com/home/article/738766/%D8%B3%D8%AD%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%85%D8%A7-%D9%8A%D8%AA%D8%AC%D9%84%D9%89-%D9%85%D9%86-%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%84-%D8%B9%D8%AF%D8%B3%D8%A7%D8%AA%D9%87%D8%A7
سحر السينما يتجلى من خلال عدساتها
لقطاتها القصيرة مؤثرة والطويلة أخّـاذة
- تورونتو: محمد رُضا
- تورونتو: محمد رُضا
سحر السينما يتجلى من خلال عدساتها
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة