إذا كان هناك على وجه الكرة الأرضية منطقة أمان مطلق فهي مكة المكرمة، والبيت الحرام خصوصًا. هناك حيث يأمن الطير والشجر والدواب والسباع، وحتى هوام البدن من الاعتداء عليها أو حتى تخويفها أو تهييجها أو إيذائها.
هذه الحرمة كانت قبل الإسلام وبعده، حتى إن النابغة الذبياني في معلقته التي يمدح بها النعمان بن المنذر ملك الحيرة، ومطلعها «يَا دَارَ مَيَّة بالعَليْاءِ، فالسَّـنَـدِ/ أَقْوَتْ، وطَالَ عَلَيهَا سَالِفُ الأَبَدِ»، يُقسم بمن منح الطيرَ الأمانَ في مكة متبرأ مما اتهم به عند النعمان، بالقول:
والمُؤْمِنِ العائِذاتِ الطَّيْر يَمْسَحُها
رُكْبانُ مَكَّة بَيْنَ الغَيْلِ والسَّنَدِ
لذلك فثمة حرمة تتعلق بالمكان، وحرمة تتعلق بالزمان، وحرمة تتعلق بالإحرام.. وكلها تقيد الإنسان من أي اعتداء لفظي أو جسدي أو حتى الشعور نحو الآخر بالازدراء والتعالي، ولذلك فرض على الجميع في الحج والعمرة لبس ثوب واحد بلون واحد يمنع عنهم التباين والتمييز. وكما منحت الحصانة للشجر والحيوان، فقد حاز الإنسان على أعلى درجات الحماية: «وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنا»، ومن استجار به بلغ مأمنه. وقد ارتبطت حرمة دمه وماله وعرضه أينما كان، بحرمة مكة والبيت الحرام: «إن دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَة يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا».
هنا يصبح من الضروري تحييد هذه المنطقة، وموسم الحج عن أي اشتباك أو خلاف سياسي، بل تحييد هذا الموسم وهذا المكان عن الشأن السياسي بشكل مطلق، لأن السياسة طبيعتها الخلاف وتقسيم الناس وتصنيفهم. فمنذ حاول السياسيون استغلال المكانة المعنوية والروحية للبلد الحرام والبيت الحرام لأغراضهم، أفسدوا هذه الشعيرة واعتدوا على هدوئها وسكينتها. بل إنهم أحدثوا انقسامًا بين الناس الذين دعاهم الله أن يأتوا إلى هناك، لكي يظهروا وحدتهم وتواصلهم وتعاطفهم.. أصبح المكان مشحونًا بالصراعات السياسية والآيديولوجية، وهو المعني أولاً وأخيرًا بالسلم ومنع الاعتداء حتى على البيئة والحيوان.
محاولات تسييس الحج خاطئة وعبثية، لأنها تفرّغ هذه العبادة من محتواها الروحي والإنساني وتجعلها ساحة صراع سياسي بين القوى المتنافسة. ومحاولات زج السياسة في الحج هي إحدى إفرازات استيلاء جماعات الإسلام السياسي على السلطة، ويجرى توظيفها وممارستها لأغراض مصلحية آنية لا علاقة لها بالدين ولا بمصالح الحجاج.
أليس الأجدر للناس أن يأتوا إلى مكة متجردين من خصوماتهم السياسية التي حولت بعض بلدانهم إلى خراب وأفسدت حياتهم.. فينعمون أيامًا بأجواء ملؤها الطمأنينة والسكينة والسلام، علّهم يجدون بعدها الطريق نحو إصلاح شأنهم، أم أن عليهم أن يلاقوا ربهم بقلوب مشتعلة بالكراهية والغضب.. وهم يعلمون أن الإيمان لا يجتمع في قلب لا تعمره المحبة.
بدل أن يتصارع المسلمون في الموسم الذي أمروا أن يضعوا أحقادهم وكراهياتهم وأضغانهم جانبا ويدخلوا في السلم كافة، عليهم أن يجعلوا من فريضة الحج موسمًا للإخاء والمحبة والتواصل وتذويب الخلافات، وأن يعذر بعضهم بعضًا ويرحم بعضهم بعضًا، ولعلهم يقدمون نموذجًا راقيًا في تفعيل مقاصد الحج الكبرى وتحقيق غاياته.. هذا لا يتم إذا اعتقد أحد أنه يمكنه اختطاف الحج لغايات سياسية، ولا يتم بالضرورة إلا إذا تم تحييد هذا الموسم عن أي صراع أو خلاف سياسي.
حج بلا سياسة!
حج بلا سياسة!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة