أنجز فجر أمس 86 فنيًا وحرفيًا مهمة تغيير كسوة الكعبة، في الوقت الذي كان فيه ضيوف الرحمن يستعدون لمغادرة مشعر منى إلى مشعر عرفات. يشار إلى أن مشعر منى يبعد عن المسجد الحرام سبعة كيلومترات، فيما يبعد مشعر عرفات نحو 20 كيلومترًا، ما يعني أن تعداد الحجاج الموجودين في المسجد الحرام لحظة استبدال الكسوة يساوي صفرًا.
وبدأت مراسم تغيير كسوة الكعبة المشرفة، عقب صلاة فجر أمس الأحد، في مشهد مهيب على يد 86 فنيًا وصانعًا، ولم يتم الانتهاء من هذه المهمة إلا بحلول صلاة العصر، ما يعني أن العملية استغرقت من الوقت نحو عشر ساعات.
وأكد الرئيس العام لشؤون الحرمين الشريفين عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس، إنزال الكسوة القديمة وإبدالها بالكسوة الجديدة التي تمت صناعتها من الحرير الأسود الخالص المنقوش عليه آيات من القرآن الكريم في مصنع كسوة الكعبة المشرفة في مكة المكرمة.
من جهته، أعلن مدير عام مصنع كسوة الكعبة المشرفة محمد عبد الله باجودة، عن أن السلطات السعودية جهزت الكسوة الجديدة بما يقارب 22 مليون ريال (5.9 مليون دولار).
وجاء استبدال كسوة الكعبة أمس جريًا على عادة الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي في مثل هذا اليوم من كل عام، حيث يتم استبدال كسوة الكعبة المشرفة القديمة، لتلبس كسوتها الجديدة.
ويعود التقليد المعتاد في تغيير كسوة الكعبة إلى عصر ما قبل الإسلام، حيث عدّت كسوة الكعبة المشرفة من أهم مظاهر الاهتمام والتشريف والتبجيل لبيت الله الحرام، ويستمر العمل فيها حتى صلاة العصر اليوم.
والمعروف أن الحكومة السعودية استحدثت مصنعًا لكسوة الكعبة، وعمدت إلى تجهيزه بجميع الاحتياجات اللازمة، لتواصل فيه ما تم التعارف عليه من تبجيل الكعبة والاهتمام بها.
ويأتي عدنان بن إسماعيل الجد الأعلى للرسول صلى الله عليه وسلم هو أحد من كسوا الكعبة، ولكن الغالب في الروايات أن (تبع الحميري) ملك اليمن هو أول من كساها كاملة في الجاهلية بعد أن زار مكة ودخلها دخول الطائعين، وهو أول من صنع للكعبة بابًا ومفتاحًا.
وفي عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان من الطبيعي ألا يشارك الرسول صلى الله عليه وسلم في إكساء الكعبة المشرفة قبل فتح مكة المكرمة، وذلك لأن المشركين لم يسمحوا له بهذا الأمر، إلى أن تم فتح مكة، فأبقى صلى الله عليه وسلم على كسوة الكعبة، ولم يستبدلها حتى احترقت على يد امرأة تريد تبخيرها. فكساها الرسول صلى الله عليه وسلم، بالثياب اليمانية.
وبعد وفاة رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم كساها الخلفاء الراشدون من بعده، أبو بكر وعمر بالقباطي، وعثمان بن عفان بالقباطي والبرود اليمانية. حيث أمر عامله على اليمن يعلى بن منبه بصنعها، فكان عثمان أول رجل في الإسلام، يضع على الكعبة كسوتين، إحداهما فوق الأخرى. أما علي بن أبي طالب فلم يذكر المؤرخون أنه كسا الكعبة، نظرًا لانشغاله بإطفاء الفتن التي حدثت في عهده. ومنذ فتح الكعبة إلى يومنا هذا، انفرد المسلمون بكسوة الكعبة المشرفة دون غيرهم، حيث لم يأخذ هذا الشرف سواهم منذ عام الفتح.
وفي العهد السعودي، أوضحت الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، أن كسوة الكعبة المشرفة كانت ترسل إلى السعودية من مصر عبر القرون، باستثناء فترات زمنية قصيرة ولأسباب سياسية، إلى أن توقف إرسالها نهائيًا من مصر سنة 1381هـ الموافق لعام 1961 ميلادي، حيث اختصت السعودية بصناعة كسوة الكعبة المشرفة إلى يومنا هذا.
والجدير بالذكر أن الاهتمام السعودي بصناعة الكسوة يرجع إلى ما قبل عام 1961 وتحديدًا يعود إلى عام 1925، وذلك حين توقفت مصر عن إرسال الكسوة بعد حادثة المحمل الشهيرة في العام السابق 1924، فلما كان عام 1925، وحان وقت مجيء الكسوة الشريفة من مصر، منعت الحكومة المصرية إرسال الكسوة المعتادة للكعبة المعظمة مع عموم العوائد مثل الحنطة والصرور وما إلى ذلك، التي هي من أوقاف أصحاب الخير إلى أهل الحرمين منذ مئات السنين. ولم تملك منها الحكومة المصرية شيئًا سوى النظارة عليها لأنها الحاكمة على البلاد.
وبحسب رئاسة شؤون الحرمين، لم تشعر الحكومة السعودية بذلك إلا في غرة ذي الحجة في ذلك العام، ليصدر الملك عبد العزيز آل سعود أمرًا عاجلاً بعمل كسوة للكعبة المشرفة، بغاية السرعة.
وفي ذلك العام عملت كسوة من الجوخ الأسود الفاخر مبطنة بالقلع القوي، ولم يأت اليوم الموعود لكسوة الكعبة المشرفة، وهو يوم النحر العاشر من ذي الحجة من عام 1345هـ، إلا والكعبة المعظمة قد ألبست تلك الكسوة التي عملت في بضعة أيام.
وبعد نحو شهر واحد أصدر الملك عبد العزيز، أوامره بإنشاء دار خاصة بصناعة الكسوة، وأنشئت تلك الدار بمحلة أجياد أمام دار وزارة المالية العمومية بمكة المكرمة، تمت عمارتها في نحو الستة الأشهر الأولى من عام 1346هـ، فكانت هذه الدار أول مؤسسة خصصت لحياكة كسوة الكعبة المشرفة بالحجاز منذ كسيت الكعبة في العصر الجاهلي إلى العصر الحالي.
وعادت القاهرة بعد نحو 13 عامًا لإرسال الكسوة إلى مكة المكرمة سنويًا حتى عام 1961، ولاختلاف وجهات النظر السياسية بين مصر والسعودية، توقفت مصر عن إرسال الكسوة الشريفة منذ ذلك التاريخ.
وأمام ذلك قامت الدولة السعودية بإعادة فتح وتشغيل مبنى تابع لوزارة المالية بحي جرول، يقع أمام وزارة الحج والأوقاف سابقًا، والذي أسندت إليه إدارة المصنع، ولم يكن لديها وقت لبناء مصنع حديث. وظل هذا المصنع يقوم بصنع الكسوة الشريفة إلى عام 1977. حيث نقل العمل في الكسوة إلى المصنع الجديد، الذي تم بناؤه في أم الجود في مكة المكرمة، وما زالت الكسوة الشريفة تصنع به إلى يومنا هذا.
ويستهلك الثوب الواحد للكعبة 670 كيلو جرامًا من الحرير الطبيعي، ويبلغ مسطح الثوب 658 مترًا مربعًا، ويتكون من 47 طاقة قماش طول الواحدة 14 مترًا بعرض 95 سنتيمترًا، وتبلغ تكاليف الثوب الواحد للكعبة نحو 17 مليون ريال (4.5 مليون دولار)؛ هي تكلفة الخامات وأجور العاملين والإداريين وكل ما يلزم الثوب.
ويبلغ عدد العاملين في إنتاج الكسوة 240 عاملاً وموظفًا وفنيًا وإداريًا، وتصنع كسوة الكعبة المشرفة من الحرير الطبيعي الخالص المصبوغ باللون الأسود المنقوش عليه بطريقة الجاكار عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، «الله جل جلاله»، «سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم»، «يا حنان يا منان». ويوجد تحت الحزام على الأركان سورة الإخلاص مكتوبة داخل دائرة محاطة بشكل مربع من الزخارف الإسلامية.
ويبلغ ارتفاع الثوب 14 مترًا، ويوجد في الثلث الأعلى من هذا الارتفاع حزام الكسوة بعرض 95 سنتمترًا، وهو مكتوب عليه بعض الآيات القرآنية ومحاط بإطارين من الزخارف الإسلامية ومطرز بتطريز بارز مغطى بسلك فضي مطلي بالذهب، ويبلغ طول الحزام 47 مترًا، ويتكون من 16 قطعة، كما تشتمل الكسوة على ستارة باب الكعبة المصنوعة من الحرير الطبيعي الخالص، ويبلغ ارتفاعها سبعة أمتار ونصفًا وبعرض أربعة أمتار، مكتوب عليها آيات قرآنية وزخارف إسلامية ومطرزة تطريزًا بارزًا مغطى بأسلاك الفضة المطلية بالذهب، وتبطن الكسوة بقماش خام.
وتشتمل الكسوة على ست قطع آيات تحت الحزام، وقطعة الإهداء و11 قنديلاً موضوعة بين أضلاع الكعبة، ويبلغ طول ستارة باب الكعبة 7.5 متر بعرض 4 أمتار مشغولة بالآيات القرآنية من السلك الذهبي والفضي.
وعلى الرغم من استخدام أسلوب الميكنة فإن الإنتاج اليدوي ما زال يحظى بالإتقان والجمال الباهر، حيث يتفوق في الدقة والإتقان واللمسات الفنية المرهفة والخطوط الإسلامية الرائعة.
والمعروف أن الكعبة تستبدل ثوبها مرة واحدة كل عام، فيما يتم غسلها مرتين سنويًا: الأولى في شهر شعبان، والثانية في شهر ذي الحجة. ويستخدم في غسلها ماء زمزم، ودهن العود، وماء الورد، ويتم غسل الأرضية والجدران الأربعة من الداخل بارتفاع متر ونصف المتر، ثم تجفف وتعطر بدهن العود الثمين.
«الكعبة» تكتسي بثوبها الجديد لاستقبال الحجاج اليوم في طواف الإفاضة
الكسوة الجديدة مصنوعة من الحرير وتم تركيبها يوم عرفة على يد 86 فنيًا
«الكعبة» تكتسي بثوبها الجديد لاستقبال الحجاج اليوم في طواف الإفاضة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة