تجربتي مع الرواية

أول سعودي قدم رسالة دكتوراه تبحث في فنها واتجاهاتها

د. سلطان القحطاني
د. سلطان القحطاني
TT

تجربتي مع الرواية

د. سلطان القحطاني
د. سلطان القحطاني

في مرحلة الدراسة، كانت القراءة هي همنا الأول، وكنا نفتخر ونتفاخر بما قرأناه من كتب، نناقش كل ما قرأنا، ونطرح على الآخرين مضمون ما وجدناه في الكتاب الفلاني، ومن أشهر ما كنا نتندر به من معلومات وجدها بعضنا ولم يجدها غيره، وكان كتاب «المستطرف في كل فن مستظرف» عمدتنا، إلا أن الرواية في زمن السبعينات لم تكن تأخذ نصيبا كبيرا من اهتماماتنا، وكنا مولعين بقراءة سير الأبطال والبارزين من الشخصيات السياسية والأدبية، المتنبي وأبو فراس الحمداني، وأصحاب المعلقات، وكان الإعلام يسيطر على اتجاهاتي لكثرة استماعي، مما أثار إعجابي بكل من الملك فيصل، وعبد الناصر، وسلطان الأطرش، وأحمد بن بيلا، ويوسف بن خدة، وغيرهم، وتأثرت في هذه المرحلة بالشعراء، وصرت أنظم بعض القصائد محاكاة لهم في الوزن والقافية. ومن العجيب أنني لم أقرأ صحيفة واحدة، بينما قرأت كل المجلات العربية وأتابع أعدادها، وعلى رأسها مجلة «العربي» الكويتية.
وفي عام 1390هـ - 1970م، تحولت إلى قراءة الرواية العربية، بعد روايات الإسلام لجرجي زيدان التي قرأتها في المتوسطة، فتأثرت بالرومانسية عند محمد عبد الحليم عبد الله، وبالتاريخية عند نجيب محفوظ، وأبي حديد، وتعرفت على أدب الصديق إبراهيم الناصر، قبل أن أعرفه شخصيا، وما كنت أسأل عن جنسية الكاتب، فقرأت «أرض بلا مطر»، و«أمهاتنا والنضال»، ثم «سفينة الموتى»، وتحولت في هذه المرحلة إلى كاتب مقلد لهؤلاء الكتاب، وكانت الرومانسية تسيطر على كل ما أكتب، مما جعل الصحف السعودية لا تنشر لي شيئا، وكنت - ولا أزال - ممن ابتلي بالنقد منذ عرفت نفسي، فكنت أقف عند كل كلمة وجملة أحللها وأنقدها، وكلما كتبت قصة وتركتها مدة من الزمن، ثم عدت إليها، أجد نفسي مختبئا في جلباب أحد الكتاب، وليكن آخر من قرأته فأمزقها، فكتبت قصة بعنوان «أصدقائي الثلاثة»، وهم ثلاثة من الحيوانات الأليفة - بالطبع - تربوا على يدي، عنز وكلب وحمار، وكانت محاكاة لقصة كتبها أحد الكتاب ونشرت في مجلة «قافلة الزيت»، بعنوان «سوق الأحد»، وهذه السوق إحدى الأسواق الشعبية في مدينة القارة بالأحساء، وهي قصة تحكي وفاء هذه الحيوانات أكثر من الإنسان، وكتبت قصة بعنوان «جائع على باب غني» وهي من الرومانسيات بين الغنى والفقر، وعندما قرأت المنفلوطي في «النظرات والعبرات» وجدت ألا مكان لقصتي هذه بجانب ما كتب من قصص تحمل نفس المضمون، بعكس الشكل، وفي هذه المرحلة التي تراكمت علي مآس كثيرة، ما بين قصة حب فاشلة، وطموحات لم أستطع تحقيقها.
كتبت عددا كبيرا من المسرحيات الاجتماعية للمسرح المدرسي، ونجح الكثير منها، لكن طموحي أكبر من ذلك، وتحقق كثير مما كنت أصبو إليه عندما أوفدت ضمن البعثة التعليمية إلى اليمن التي كنت أحلم بزيارتها لكثرة ما قرأت عن حضاراتها القديمة.
كانت العقبة التي تقف في طريقي كل يوم، كتابة الرواية، ولقد كتبت كثيرا من القصص، لكنها لم تكن رواية، كان هناك شيء ضائع وحلقة مفقودة من هذه الحلقات، لكني لم أعرف ما هي، حتى عثرت على الطيب صالح، وقرأت كل أعماله فلم يرق لي منها إلا «موسم الهجرة إلى الشمال»، ومنها وجدت ضالتي قبل أن أتخصص في الرواية كأول سعودي يقوم ببحث الدكتوراه في هذا الفن المنسي، إنها روح الرواية ونيشانها، ومن دونها لا يسمى العمل رواية، إنها «العقدة»، وكتبت أول رواية رومانسية «زائر المساء» (1977)، وأبقيتها ثلاث سنوات قبل نشرها، في كل مرة أقرأها فأعدل فيها، وكتبت في هذه الأثناء رواية بعنوان «طائر بلا جناح» (1979)، استقيت مادتها من غربة الإنسان العربي وتطوافه في الأرض، وفيها شيء من التأثر بالطيب صالح، وحازت إعجاب النقاد والدارسين، وصدرت بعد «زائر المساء» بعدة أشهر 1981 عن «دار الفكر العربي» في القاهرة، وكانت مغامرة أولية في كتابة الرواية، فقد تعلمت الأسلوب الروائي، وأدركت أهمية العقدة في وجود النص الروائي، ثم انقطعت عن الكتابة باتجاهي إلى النقد الروائي في الصحافة، وأجريت دراسات قبل سفري إلى بريطانيا لدراسة الأدب والنقد الحديث، لكن صلتي بالرواية لم تنقطع، وقرأت الرواية الإنجليزية، إما من ضمن بعض المناهج الدراسية، أو قراءة حرة، وشاركت في عدد من الندوات، والدروس الصيفية التي كانت تقيمها الجامعات باسكوتلندا، وإدنبرا، وجلاسكو، وسانت أندروز، وتفتحت أمامي مناهج النقد الأدبي الحديث، وأثرت النقاشات ذهني بمعارف جديدة حول ماهية الرواية، وأنها عالم مستقل ليس من السهولة بمكان خوض غمارها إلا من وهب القدرة على كتابتها، والقدرة على توظيف العناصر، الثقافية والعلمية في مكانها الصحيح من النص، وأن النص الروائي ليس مادة جاهزة للكتابة، كما هو معروف في النص السردي التاريخي، أي سرد المعلومة السابقة، بل هو نص مستولد من الماضي والحاضر والمستقبل (الاستشرافي) بينما النص القصصي سرد الماضي في قالب حكائي، والنقطة الثانية للنص الروائي، أنه نص رأسي نحو العقدة، ثم إنه نص يقبل أن يكون مغلقا أو مفتوحا، والثالثة، إنه نص تكاملي بين البطل وشخوص الرواية لا يقوم به فرد بعينه، ويسمى عند بعض المنظرين (النص الكيميائي)، بينما تكون بقية النصوص السردية نصوصا فيزيائية، يقوم بها شخص واحد، حتى لو وجد بجانبه شخوص أخرى لا أهمية لها ولا تكتب لها الاستمرارية.
وبعد عودتي شغلت بالهم الأكاديمي والنقد، لكن الرواية معي أينما كنت، فكتبت «خطوات على جبال اليمن» (2000) وكانت بأسلوب مختلف جدا عما سبقها، وفكرة جديدة لمعالجة النص، ثم كتبت «سوق الحميدية» (2008) وكانت تختلف عن سابقتها، وهذا منهجي في كتابة الرواية، البحث عن الجديد شكلا ومضمونا.
ويمكنني أن ألخص طريقتي في الكتابة، بأنني لا أكتب موسميا، إذ تعلمت أن الروائي لا تهمه الأحداث بقدر ما تهمه النتائج.
وعادة، تبدأ الفكرة في ذهني وتبقى شهورا أو سنة أو أكثر، فتختمر وتراجع عدة مرات، حتى يبدأ التنفيذ الذي لا أستطيع أن أحدده، وبعد الشروع في الكتابة تختلف الأمور ويحل محلها أشياء لم تكن في بالي، ولدها الحدث، أو اللغة، أو الربط بين سير العمل وما يحدث.
كذلك، فأنا لا أقرأ قبل تنفيذ العمل أي رواية لعدة أشهر، خوفا من التأثر. ولا أحب التعديل في العمل إلا ما ندر. وأنفذ العمل في أقل مدة، ولا أنصرف إلى غيره حتى ينتهي. كما أنني أعيش مع الشخصيات كواحد منهم، وأنسى من أنا. وأتأكد من المعلومة من مصادرها ومن المختصين، طب، وعلم اجتماع، وتاريخ، وسياسة وغيرها. وأنا متأثر إلى حد كبير بالأسلوب السينمائي، ولذلك مثلت أعمالي بسهولة. كذلك فإنني أعرض العمل على كل الطبقات وأعتز برأي القارئ العادي قبل المختص، ولا أنظر إلى العمل قبل عدة أشهر من تنفيذه.

(*) من ورقة ألقاها الناقد الدكتور سلطان القحطاني، في نادي الشرقية الأدبي بعنوان: «تجربة في الكتابة.. رواية (سوق الحميدية) نموذجا» بداية الشهر الحالي.



متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»


قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة
TT

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة كتاب «سيمياء الخطاب الشعري... مقاربات نقدية في الشعرية المعاصرة» للناقد والأكاديمي المصري الدكتورأحمد الصغير، أستاذ الأدب العربي.

يقدم الكتاب عبر (428) صفحة من القطع المتوسط، رؤى تأويلية لعوالم قصيدة النثر، من خلال رصد الملامح الجمالية والمعرفية في قصيدة الحداثة، ويعتمد على مقاربة سيميائية تأويلية من خلال إجراءات السيمياء والتأويل عند روبرت شولز، وبيرس، وجريماس، وسعيد بنكراد، وكمال أبو ديب، وعز الدين إسماعيل، وصلاح فضل، وجابر عصفور، ومصطفى ناصف... وغيرهم.

يتكون الكتاب من مقدمة وتمهيد وتسع عشرة قراءة نقدية، منها: بنية الخطاب الدرامي في الشعرية العربية المعاصرة، بناء الرمز في قصيدة محمد سليمان، بلاغة المفارقة في توقيعات عز الدين المناصرة، تعدد الأصوات في ديوان «هكذا تكلم الكركدن» لرفعت سلام، «قراءة في الشعر الإماراتي، عين سارحة وعين مندهشة» للشاعر أسامة الدناصوري، «في المخاطرة جزء من النجاة»... قراءة في ديواني «حديقة الحيوانات ومعجزة التنفس» للشاعر حلمي سالم، قراءة في ديوان «الأيام حين تعبر خائفة» للشاعر محمود خير الله، قراءة في ديوان «الرصيف الذي يحاذي البحر» للشاعر سمير درويش، قراءة في ديوان «أركض طاوياً العالم تحت إبطي» للشاعر محمد القليني، أسفار أحمد الجعفري «قليل من النور، كي أحب البنات»، شعرية الأحلام المجهضة «لعبة الضوء وانكسار المرايا» للنوبي الجنابي، قراءة في «مساكين يعملون في البحر» للشاعر عبد الرحمن مقلد، وشكول تراثية في قصيدة علي منصور، وصوت الإسكندرية الصاخب في شعر جمال القصاص، وشعرية الحزن في ديوان «نتخلص مما نحب» للشاعر عماد غزالي، وشعرية المعنى في ديوان «في سمك خوصة» للشاعر محمد التوني، وشعرية المجاز عند أسامة الحداد.

يقول الصغير في المقدمة: تأتي أهمية هذا الكتاب من خلال الوقوف على طرح مقاربات نقدية استبصارية، معتمدة على المقاربات التطبيقية للقصيدة العربية المعاصرة تحديداً، وذلك للكشف عن بنية الخطاب الشعري في الشعرية العربية المعاصرة، مرتكزاً على منهجية معرفية محددة؛ للدخول في عوالم القصيدة المعاصرة، مستفيدة من مقاربات السيميائية والتأويلية بشكل أساس؛ لأن القصيدة العربية، في وقتنا الراهن، ليست بحاجة إلى شروح تقليدية، لأنها صارت قصيدة كونية، ثرية في المبنى والمعنى، تحتاج لأدوات نقدية متجددة، تسهم في عملية تفكيكها وتأويلاتها اللانهائية، كما يطرح البحث أدوات الخطاب الشعري التي اتكأ عليها الشعراء المعاصرون، ومن هذه الأدوات «الرمز الشعري، المفارقة بأنواعها، والدرامية، الذاتية، والسينمائية، السردية، وغيرها من الأدوات الفنية الأخرى».

يذكر أن أحمد الصغير، يعمل أستاذاً للأدب والنقد الحديث بكلية الآداب، جامعة الوادي الجديد. ومن مؤلفاته «بناء قصيدة الإبيجراما في الشعر العربي الحديث»، و«النص والقناع»، و«القصيدة السردية في شعر العامية المصرية»، و«القصيدة الدرامية في شعر عبدالرحمن الأبنودي»، و«تقنيات الشعرية في أحلام نجيب محفوظ». و«آليات الخطاب الشعري قراءة في شعر السبعينيات»، و«التجريب في أدب طه حسين».