قرية «كافنديش».. هنا عاش سولجنتسين

اتخذها ملجأ له بعدما طرده الاتحاد السوفياتي السابق

متحف سولجنتسين في قرية «كافنديش» .. وفي الإطار ألكسندر سولجنتسين
متحف سولجنتسين في قرية «كافنديش» .. وفي الإطار ألكسندر سولجنتسين
TT

قرية «كافنديش».. هنا عاش سولجنتسين

متحف سولجنتسين في قرية «كافنديش» .. وفي الإطار ألكسندر سولجنتسين
متحف سولجنتسين في قرية «كافنديش» .. وفي الإطار ألكسندر سولجنتسين

لا يوجد طريق مباشر بين جامعة هارفارد، قرب بوسطن (ولاية ماساشوستس)، وقرية كافينديش (ولاية فيرمونت) المجاورة. بينهما مسافة مائة ميل تقريبا. لكن، يلتقي الطريق السريع رقم (93) الذي يتجه شمالا من بوسطن، بالطريق السريع رقم (91)، الذي يتجه جنوبا نحو كافنديش. ولا بد أن ألكسندر سولجنتسين، الأديب الروسي، الذي فاز بجائزة نوبل في الأدب، ومؤلف روايات مشهورة، من بينها «أرخبيل الغولاغ»، كان يقضي وقتا طويلا يتنقل بين المكانين. لكنه، على أي حال، لم يعمل في جامعة هارفارد كثيرا. انتقل إلى جامعة ستانفورد (ولاية كاليفورنيا). ثم إلى كافنديش عام 1976. هنا كتب بعض رواياته، منها: «العجلة الحمراء» (عن الثورة الشيوعية عام 1917).
* متحف سولجنتسين
لا يعرف شخص في القرية الصغيرة (1.400 شخص) لماذا اختارها سولجنتسين ملجأ له. لكنهم، طبعا، فخورون لأنه اختارها. وربما لأنه كتب في رواياته مرات كثيرة عن «قرية صغيرة بعيدة عن بقية العالم».
في الحقيقة، يربط القرية ببقية العالم طريق ضيق ملتو، وسط جبال وهضاب. ولا يوجد فيها غير ضوء مرور واحد. وعلى الشارع الرئيسي (الشارع رقم 131) في المنزل رقم 1958 يوجد متحف جمعية كافنديش التاريخية (متحف سولجنتسين). كان المكان كنيسة، ويتبع لطائفة مسيحية تقدمية: «يونيفيرساليت يونيتاريان» (العالميون الموحدون). بناه، عام 1844. القس وارين سكينار، من قادة المعارضين لتجارة الرقيق في ذلك الوقت (قبل الحرب الأهلية). وتوجد في المكان إشارة إلى ما يمكن أن يربط القس الأميركي بالروائي الروسي: «الحرية لا تتجزأ، ولا تعرف شرقا أو غربا».
قضى سولجنتسين قرابة عشرين سنة هنا. لكن، يبدو وكأنه قضى سنة، أو ربما أقل من سنة، أو ربما لم يأت إلى هنا أبدا. وذلك لأن المكان يبدو مجهولا. ولم يكن يتحدث كثير من الناس هنا عنه. ويوجد أكثر من سبب:
أولا: حماية سرية، خوفا من وصول أعدائه إليه.
ثانيا: رغبته هو في العزلة.
ثالثا: تحاشي سكان المدينة الصغيرة للأضواء.
لكن، هذا الصيف، تسلطت الأضواء على المكان، وعلى الرجل، بسبب كتاب جديد عنه: «ألكساندر سولجنتسين: الكاتب الذي غير التاريخ». كتبته مارغو كولفيلد، مديرة جمعية كافنديش التاريخية التي تشرف على «متحف سولجنتسين». يقدم الكتاب الرجل بطريقة سهلة، وذلك استهدافا للقراء صغار السن. ولهذا السبب، أيضا، فيه صور كثيرة. وفيه دروس عن أهمية الحرية والانفتاح.
ولد سولجنتسين سنة 1918، مع بداية الحكم الشيوعي في روسيا (توفي سنة 2008، وكان عمره 89 سنة). ودرس في جامعة روستوف الرياضيات، ثم كرهها، وتحول إلى الفلسفة والآداب. وباعترافه هو، لم يعاد الحكم الشيوعي، إلا بعد أن اشترك في الحرب العالمية الثانية، ووصل عمره إلى الثلاثينات.
تألم لمعاملة الجنود الروس للنساء والأطفال الألمان (مع بداية هزائم الألمان). فيما بعد، كتب في رواية «أرخبيل الغولاغ»: «لا يوقظ الضمير مثل الإحساس بوجود كراهية وظلم في أعماق كل واحد منا. كنت أسال نفسي ونحن نتقدم نحو برلين: هل نحن (الروس) أحسن منهم (الألمان)؟»
لم يخف هذه الآراء، وكان يكتبها في خطابات إلى أصدقائه. وكان يقول إن الزعيم الروسي جوزيف ستالين ليس أقل عداء وكراهية وظلما من الزعيم الألماني أدولف هتلر. وعندما وقعت بعض هذه الخطابات في أيدي شرطة أمن ستالين، اعتقل، وحوكم بالسجن ثماني سنوات في معسكر للأشغال الشاقة في أقاصي سيبريا.
كتب، خلال تلك السنوات، رواية «يوم في حياة إيفان دنيسوفياتش» (لم تنشر إلا بعد عشرين عاما). وفيها وصف دقيق لما تعرض له سجين واحد خلال يوم واحد. وكان واضحا أن هذا السجين هو.
عوقب أكثر بعد نهاية فترة السجن الأولى، وذلك لأنه لم يخفف معارضته للحكم الشيوعي، ولأنه انتقد الزعيم ستالين نقدا عنيفا، وأعلن التخلي عن النظرية الشيوعية، عائدًا إلى المسيحية الكاثوليكية، دين والدته. قضى سنوات سجينا في مستشفى عسكري لإصابته بالسرطان، وهناك كتب رواية «عنبر السرطان».
* أرخبيل الغولاغ
تصف أشهر رواياته: «أرخبيل الغولاغ»، في تفاصيل دقيقة، الحياة في معسكرات الأشغال الشاقة. وتتكون الرواية من ثلاثة أجزاء، خلط فيها تجربته الخاصة، وتجارب غيره، ودراسات، وأبحاث، وأرقام، وإحصائيات.
ظهرت، في البداية، أجزاء من الرواية في روسيا سرا، وظهرت كاملة في الغرب في عام 1973. (تعني كلمة «غولاغ» الأحرف الأولى باللغة الروسية لعبارة: «الإدارة العليا لمعسكرات الأشغال الشاقة الإصلاحية»). نال سولجنتسين جائزة نوبل في الآداب بسبب هذه الرواية. وفي عام 1974، بسبب زيادة شهرته داخل وخارج الاتحاد السوفياتي، نزع النظام الشيوعي الجنسية الروسية منه، وطرده من روسيا.
قضى سنوات في ألمانيا، وسنوات في سويسرا، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة عام 1976.
في عام 1990، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وسقوط حكم الحزب الشيوعي، صدرت الرواية كاملة هناك، لأول مرة. وفي عام 2009، صارت الرواية جزءا إجباريا في مقررات التاريخ والآداب في المدارس الثانوية الروسية.
في نقاش في متحف سولجنتسين في كافنديش عن الآثار التاريخية للرواية، جاءت الآراء الآتية:
أولا: صار شيئا طبيعيا، في كل مكان وزمان، أن أي نظام يفرض نفسه على الناس لا بد أن يسجن الذين يعارضون هذا الفرض، أو يهددهم بالسجن.
ثانيا: لا يقدر الشيوعيون (خاصة الأحزاب الشيوعية في الغرب) على أن يفرقوا بين النظرية والتطبيق، بين فلاديمير لينين وكارل ماركس. رواية «أرخبيل الغولاغ» برهنت على فشل التطبيق، وبالتالي، فشل النظرية.
أما هو جورج كينان، الدبلوماسي والمؤرخ الأميركي العريق، فقد قال عن الرواية إنها «أقوى إدانة لنظام سياسي في التاريخ الحديث».
* اليزافيتا فيرونيسكايا
توجد في متحف سولجنتسين صورة اليزافيتا فيرونيسكايا، سكرتيرته التي طبعت رواية «أرخبيل الغولاغ». وكانت شرطة الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي) تبحث عن الرواية، وعثرت على نسخة منها بعد اعتقال، واستجواب، وتعذيب السكرتيرة. في وقت لاحق، انتحرت السكرتيرة.
وتوجد في المتحف أيضا صورة الموسيقار الروسي ماستيلاف رستروبوفتش، الذي دعا سولجنتسين ليسكن معه في شقته الريفية («داتشا»). لم تجرؤ «كي جي بي» على اقتحام الشقة، وهي تبحث عن الرواية، وذلك بسبب شهرة الموسيقار، وخوفها من كشف ما تفعل.
وتوجد في المتحف نسخة من المسلسل التلفزيوني الفرنسي «التاريخ السري للغولاغ». أذاعته قناة «روسيا كي» (لكن، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي).
وتوجد في المتحف صور ومعلومات عن حياة سولجنتسين في روسيا، قبل أن يطرده النظام الشيوعي، منها صور مكان ميلاده، والجامعة التي درس فيها، ومعسكرات الأعمال الشاقة في سيبريا. وتوجد في المتحف نسخة من خطابه عندما ترك القرية وعاد إلى روسيا (عام 1994). وجاء في الخطاب (باللغة الروسية، وهو لم يحسن اللغة الإنجليزية حتى عاد إلى روسيا) أنه مدين لسكانها «لأنكم ساعدتموني على حماية خصوصيتي». وقال إنه اختار القرية «لأني لا أحب المدن الكبيرة، والحياة الاصطناعية الفارغة فيها». وإنه أحب القرية بسبب «حياة الريف، والشتاء الطويل عندما يكسو الجليد كل الأرض. ويذكرني بروسيا».
* تراثه
في الوقت الحاضر، يحمل لواء سولجنتسين في الولايات المتحدة ابنه اغنات (44 عاما) الذي صار موسيقيا مشهورا، ويتخصص في البيانو، ويقود الفرقة السيمفونية في فيلادلفيا (ولاية بنسلفانيا)، وأحيانا، الفرقة السيمفونية في موسكو (يحمل الجنسيتين الروسية والأميركية). قال إنه مدين في نجاحه الموسيقي للموسيقار الروسي رستروبوفتش (الذي كان أوى والده في موسكو).
وصار هو، وشقيقه، حلقة وصل بين البلدين، خاصة في تأسيس جمعيات ومؤسسات عن والدهما في الولايات المتحدة وفي روسيا. وعادا إلى روسيا مرات كثيرة. منها عندما استقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والدهما لأول مرة. وعندما زاره بوتين في شقته الريفية، وقدم له «وسام الدولة للاتحاد الفيدرالي الروسي». وعندما توفي والدهما، دفناه في دير «دونسكوي»، مع ترانيم مسيحية (كما طلب).
* الشرق؟ أم الغرب؟
كتبت مارغو كولفيلد، مديرة جمعية كافنديش التاريخية، ومؤلفة كتاب: «سولجنتسين: الكاتب الذي غير التاريخ»، عن آرائه نحو الشرق، ونحو الغرب.
انتقد الاثنين:
طبعا، كل رواياته تعادي النظام الشيوعي. ويوجد أثر واضح لدور الدين في هذا العداء.
كتب: «منذ أكثر من نصف قرن، وأنا طفل صغير، كنت أسمع الكبار يتكلمون عن المشاكل التي يواجهها الوطن. وكنت أسمعهم يكررون: (نسينا الله، ولهذا، حدث لنا كل هذا).. منذ ذلك الوقت، ها أنا قضيت أكثر من خمسين عاما أدرس، وأبحث، واكتب عن تاريخ ثورتنا (الشيوعية). قرأت مئات الكتب والأبحاث. وحتى الآن، كتبت ثمانية كتب.. لهذا، إذا سئلت اليوم: ما هو السبب الرئيسي لمشاكلنا، لقلت: (نسي الناس الله، ولهذا يحدث هذا)». في الجانب الآخر، انتقد الغرب سياسيا ورأسماليا.
ففي خطاب شهير في جامعة هارفارد عام 1978، انتقد النظام الرأسمالي الأميركي. وقال إن الأميركيين «يعيشون حياة ضعف روحي، ويغرقون في المادية، ويعانون من الجبن الفكري، ومن غياب الرجولة». عارض سولجنتسين النظام الشيوعي، لكنه ظل يفتخر بالثقافة الروسية والتراث الروسي. وانتقد الغرب لأنه يعادي كل ما هو روسي: سياسيا، وثقافيا. وقال مرة: «عادى الغربيون ثقافتنا (الروسية)، ولهذا، لم يفهموها».



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.