لا يوجد طريق مباشر بين جامعة هارفارد، قرب بوسطن (ولاية ماساشوستس)، وقرية كافينديش (ولاية فيرمونت) المجاورة. بينهما مسافة مائة ميل تقريبا. لكن، يلتقي الطريق السريع رقم (93) الذي يتجه شمالا من بوسطن، بالطريق السريع رقم (91)، الذي يتجه جنوبا نحو كافنديش. ولا بد أن ألكسندر سولجنتسين، الأديب الروسي، الذي فاز بجائزة نوبل في الأدب، ومؤلف روايات مشهورة، من بينها «أرخبيل الغولاغ»، كان يقضي وقتا طويلا يتنقل بين المكانين. لكنه، على أي حال، لم يعمل في جامعة هارفارد كثيرا. انتقل إلى جامعة ستانفورد (ولاية كاليفورنيا). ثم إلى كافنديش عام 1976. هنا كتب بعض رواياته، منها: «العجلة الحمراء» (عن الثورة الشيوعية عام 1917).
* متحف سولجنتسين
لا يعرف شخص في القرية الصغيرة (1.400 شخص) لماذا اختارها سولجنتسين ملجأ له. لكنهم، طبعا، فخورون لأنه اختارها. وربما لأنه كتب في رواياته مرات كثيرة عن «قرية صغيرة بعيدة عن بقية العالم».
في الحقيقة، يربط القرية ببقية العالم طريق ضيق ملتو، وسط جبال وهضاب. ولا يوجد فيها غير ضوء مرور واحد. وعلى الشارع الرئيسي (الشارع رقم 131) في المنزل رقم 1958 يوجد متحف جمعية كافنديش التاريخية (متحف سولجنتسين). كان المكان كنيسة، ويتبع لطائفة مسيحية تقدمية: «يونيفيرساليت يونيتاريان» (العالميون الموحدون). بناه، عام 1844. القس وارين سكينار، من قادة المعارضين لتجارة الرقيق في ذلك الوقت (قبل الحرب الأهلية). وتوجد في المكان إشارة إلى ما يمكن أن يربط القس الأميركي بالروائي الروسي: «الحرية لا تتجزأ، ولا تعرف شرقا أو غربا».
قضى سولجنتسين قرابة عشرين سنة هنا. لكن، يبدو وكأنه قضى سنة، أو ربما أقل من سنة، أو ربما لم يأت إلى هنا أبدا. وذلك لأن المكان يبدو مجهولا. ولم يكن يتحدث كثير من الناس هنا عنه. ويوجد أكثر من سبب:
أولا: حماية سرية، خوفا من وصول أعدائه إليه.
ثانيا: رغبته هو في العزلة.
ثالثا: تحاشي سكان المدينة الصغيرة للأضواء.
لكن، هذا الصيف، تسلطت الأضواء على المكان، وعلى الرجل، بسبب كتاب جديد عنه: «ألكساندر سولجنتسين: الكاتب الذي غير التاريخ». كتبته مارغو كولفيلد، مديرة جمعية كافنديش التاريخية التي تشرف على «متحف سولجنتسين». يقدم الكتاب الرجل بطريقة سهلة، وذلك استهدافا للقراء صغار السن. ولهذا السبب، أيضا، فيه صور كثيرة. وفيه دروس عن أهمية الحرية والانفتاح.
ولد سولجنتسين سنة 1918، مع بداية الحكم الشيوعي في روسيا (توفي سنة 2008، وكان عمره 89 سنة). ودرس في جامعة روستوف الرياضيات، ثم كرهها، وتحول إلى الفلسفة والآداب. وباعترافه هو، لم يعاد الحكم الشيوعي، إلا بعد أن اشترك في الحرب العالمية الثانية، ووصل عمره إلى الثلاثينات.
تألم لمعاملة الجنود الروس للنساء والأطفال الألمان (مع بداية هزائم الألمان). فيما بعد، كتب في رواية «أرخبيل الغولاغ»: «لا يوقظ الضمير مثل الإحساس بوجود كراهية وظلم في أعماق كل واحد منا. كنت أسال نفسي ونحن نتقدم نحو برلين: هل نحن (الروس) أحسن منهم (الألمان)؟»
لم يخف هذه الآراء، وكان يكتبها في خطابات إلى أصدقائه. وكان يقول إن الزعيم الروسي جوزيف ستالين ليس أقل عداء وكراهية وظلما من الزعيم الألماني أدولف هتلر. وعندما وقعت بعض هذه الخطابات في أيدي شرطة أمن ستالين، اعتقل، وحوكم بالسجن ثماني سنوات في معسكر للأشغال الشاقة في أقاصي سيبريا.
كتب، خلال تلك السنوات، رواية «يوم في حياة إيفان دنيسوفياتش» (لم تنشر إلا بعد عشرين عاما). وفيها وصف دقيق لما تعرض له سجين واحد خلال يوم واحد. وكان واضحا أن هذا السجين هو.
عوقب أكثر بعد نهاية فترة السجن الأولى، وذلك لأنه لم يخفف معارضته للحكم الشيوعي، ولأنه انتقد الزعيم ستالين نقدا عنيفا، وأعلن التخلي عن النظرية الشيوعية، عائدًا إلى المسيحية الكاثوليكية، دين والدته. قضى سنوات سجينا في مستشفى عسكري لإصابته بالسرطان، وهناك كتب رواية «عنبر السرطان».
* أرخبيل الغولاغ
تصف أشهر رواياته: «أرخبيل الغولاغ»، في تفاصيل دقيقة، الحياة في معسكرات الأشغال الشاقة. وتتكون الرواية من ثلاثة أجزاء، خلط فيها تجربته الخاصة، وتجارب غيره، ودراسات، وأبحاث، وأرقام، وإحصائيات.
ظهرت، في البداية، أجزاء من الرواية في روسيا سرا، وظهرت كاملة في الغرب في عام 1973. (تعني كلمة «غولاغ» الأحرف الأولى باللغة الروسية لعبارة: «الإدارة العليا لمعسكرات الأشغال الشاقة الإصلاحية»). نال سولجنتسين جائزة نوبل في الآداب بسبب هذه الرواية. وفي عام 1974، بسبب زيادة شهرته داخل وخارج الاتحاد السوفياتي، نزع النظام الشيوعي الجنسية الروسية منه، وطرده من روسيا.
قضى سنوات في ألمانيا، وسنوات في سويسرا، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة عام 1976.
في عام 1990، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وسقوط حكم الحزب الشيوعي، صدرت الرواية كاملة هناك، لأول مرة. وفي عام 2009، صارت الرواية جزءا إجباريا في مقررات التاريخ والآداب في المدارس الثانوية الروسية.
في نقاش في متحف سولجنتسين في كافنديش عن الآثار التاريخية للرواية، جاءت الآراء الآتية:
أولا: صار شيئا طبيعيا، في كل مكان وزمان، أن أي نظام يفرض نفسه على الناس لا بد أن يسجن الذين يعارضون هذا الفرض، أو يهددهم بالسجن.
ثانيا: لا يقدر الشيوعيون (خاصة الأحزاب الشيوعية في الغرب) على أن يفرقوا بين النظرية والتطبيق، بين فلاديمير لينين وكارل ماركس. رواية «أرخبيل الغولاغ» برهنت على فشل التطبيق، وبالتالي، فشل النظرية.
أما هو جورج كينان، الدبلوماسي والمؤرخ الأميركي العريق، فقد قال عن الرواية إنها «أقوى إدانة لنظام سياسي في التاريخ الحديث».
* اليزافيتا فيرونيسكايا
توجد في متحف سولجنتسين صورة اليزافيتا فيرونيسكايا، سكرتيرته التي طبعت رواية «أرخبيل الغولاغ». وكانت شرطة الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي) تبحث عن الرواية، وعثرت على نسخة منها بعد اعتقال، واستجواب، وتعذيب السكرتيرة. في وقت لاحق، انتحرت السكرتيرة.
وتوجد في المتحف أيضا صورة الموسيقار الروسي ماستيلاف رستروبوفتش، الذي دعا سولجنتسين ليسكن معه في شقته الريفية («داتشا»). لم تجرؤ «كي جي بي» على اقتحام الشقة، وهي تبحث عن الرواية، وذلك بسبب شهرة الموسيقار، وخوفها من كشف ما تفعل.
وتوجد في المتحف نسخة من المسلسل التلفزيوني الفرنسي «التاريخ السري للغولاغ». أذاعته قناة «روسيا كي» (لكن، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي).
وتوجد في المتحف صور ومعلومات عن حياة سولجنتسين في روسيا، قبل أن يطرده النظام الشيوعي، منها صور مكان ميلاده، والجامعة التي درس فيها، ومعسكرات الأعمال الشاقة في سيبريا. وتوجد في المتحف نسخة من خطابه عندما ترك القرية وعاد إلى روسيا (عام 1994). وجاء في الخطاب (باللغة الروسية، وهو لم يحسن اللغة الإنجليزية حتى عاد إلى روسيا) أنه مدين لسكانها «لأنكم ساعدتموني على حماية خصوصيتي». وقال إنه اختار القرية «لأني لا أحب المدن الكبيرة، والحياة الاصطناعية الفارغة فيها». وإنه أحب القرية بسبب «حياة الريف، والشتاء الطويل عندما يكسو الجليد كل الأرض. ويذكرني بروسيا».
* تراثه
في الوقت الحاضر، يحمل لواء سولجنتسين في الولايات المتحدة ابنه اغنات (44 عاما) الذي صار موسيقيا مشهورا، ويتخصص في البيانو، ويقود الفرقة السيمفونية في فيلادلفيا (ولاية بنسلفانيا)، وأحيانا، الفرقة السيمفونية في موسكو (يحمل الجنسيتين الروسية والأميركية). قال إنه مدين في نجاحه الموسيقي للموسيقار الروسي رستروبوفتش (الذي كان أوى والده في موسكو).
وصار هو، وشقيقه، حلقة وصل بين البلدين، خاصة في تأسيس جمعيات ومؤسسات عن والدهما في الولايات المتحدة وفي روسيا. وعادا إلى روسيا مرات كثيرة. منها عندما استقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والدهما لأول مرة. وعندما زاره بوتين في شقته الريفية، وقدم له «وسام الدولة للاتحاد الفيدرالي الروسي». وعندما توفي والدهما، دفناه في دير «دونسكوي»، مع ترانيم مسيحية (كما طلب).
* الشرق؟ أم الغرب؟
كتبت مارغو كولفيلد، مديرة جمعية كافنديش التاريخية، ومؤلفة كتاب: «سولجنتسين: الكاتب الذي غير التاريخ»، عن آرائه نحو الشرق، ونحو الغرب.
انتقد الاثنين:
طبعا، كل رواياته تعادي النظام الشيوعي. ويوجد أثر واضح لدور الدين في هذا العداء.
كتب: «منذ أكثر من نصف قرن، وأنا طفل صغير، كنت أسمع الكبار يتكلمون عن المشاكل التي يواجهها الوطن. وكنت أسمعهم يكررون: (نسينا الله، ولهذا، حدث لنا كل هذا).. منذ ذلك الوقت، ها أنا قضيت أكثر من خمسين عاما أدرس، وأبحث، واكتب عن تاريخ ثورتنا (الشيوعية). قرأت مئات الكتب والأبحاث. وحتى الآن، كتبت ثمانية كتب.. لهذا، إذا سئلت اليوم: ما هو السبب الرئيسي لمشاكلنا، لقلت: (نسي الناس الله، ولهذا يحدث هذا)». في الجانب الآخر، انتقد الغرب سياسيا ورأسماليا.
ففي خطاب شهير في جامعة هارفارد عام 1978، انتقد النظام الرأسمالي الأميركي. وقال إن الأميركيين «يعيشون حياة ضعف روحي، ويغرقون في المادية، ويعانون من الجبن الفكري، ومن غياب الرجولة». عارض سولجنتسين النظام الشيوعي، لكنه ظل يفتخر بالثقافة الروسية والتراث الروسي. وانتقد الغرب لأنه يعادي كل ما هو روسي: سياسيا، وثقافيا. وقال مرة: «عادى الغربيون ثقافتنا (الروسية)، ولهذا، لم يفهموها».
قرية «كافنديش».. هنا عاش سولجنتسين
اتخذها ملجأ له بعدما طرده الاتحاد السوفياتي السابق
قرية «كافنديش».. هنا عاش سولجنتسين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة