قاعدة القيارة.. معركة ورسائل

من عهد صدام حسين إلى «هدية» هيلاري كلينتون

قاعدة القيارة.. معركة ورسائل
TT

قاعدة القيارة.. معركة ورسائل

قاعدة القيارة.. معركة ورسائل

على الرغم من تخلي إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما عن الشأن العراقي بالقياس إلى سلفه جورج بوش، وبالقياس أيضا إلى فترة إدارته الأولى حيث كانت المرشحة الديمقراطية الرئاسية الحالية هيلاري كلينتون وزيرة للخارجية، فإن الاهتمام الأميركي المتأخر بالشأن العراقي لجهة الحرب على الإرهاب – على وجه الخصوص - بات يرتبط في أذهان الكثيرين بمعركة الموصل. وعلى الرغم من الرمزية الهائلة التي تحتلها هذه المعركة، سواء بالنسبة إلى تنظيم داعش الإرهابي المتطرف كون الموصل عاصمة «الخلافة الإسلامية» المزعومة التي شهد أحد مساجدها الخطبة الأولى لـ«أبو بكر البغدادي» في أول جمعة بعد احتلال الموصل، أو بالنسبة للعراقيين الذين يعدونها آخر معاركهم الكبرى، أو الولايات المتحدة الأميركية التي تريد إدارتها الحالية تقديم رأس «البغدادي» على طبق من ذهب لكلينتون. ويرى مراقبون مطلعون أنه من المؤكد أن يغدو القضاء على زعيم «داعش» هو «الجائزة الأهم» المؤهلة لهيلاري كلينتون للعودة إلى البيت الأبيض بعدما فارقته لمدة عقد ونصف العقد من الزمن حين كانت «سيدة أولى» على امتداد ثماني سنوات في عهد زوجها الرئيس الأسبق بيل كلينتون.
إن مدينة الموصل، التي ظهر في أحد مساجدها «أبو بكر البغدادي» في أول خطبة له بعد احتلالها بيومين وهو يحمل سيفًا في اليد اليسرى وعلى معصمه ساعة غالية الثمن من نوع «رولكس» في اليد اليمنى على طريقة «كبار المتدينين»، باتت المكان المتوقع أن يدفع فيه الثمن.. ولكن من خلال كلمة سر اسمها «القيارة». ثم إنه، على الرغم من وجود قواعد عسكرية أميركية أخرى في العراق (في كل من محافظات الأنبار وصلاح الدين وكركوك) فإن قاعدة القيارة، في ضوء عملية إعادة ترتيب – أو قل رسم – الخرائط في منطقة الشرق الأوسط وسط حالة تقاسم النفوذ بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، تبدو هذه القاعدة بالذات هي الأهم على صعيد هذه الترتيبات الجديدة في العراق والمنطقة. والجدير بالذكر هنا أن المنطقة المجاورة لهذه القاعدة تمثل اليوم مركزًا حيويًا لتنظيم داعش ذلك أنها تقع بين مدينتي تكريت والموصل وفيها آبار نفط ومصفاة متقادمة ومخازن سلاح ومعسكرات وأحياء مأهولة بالسكان.
طبقا لما كشفه سياسي عراقي لـ«الشرق الأوسط» في وقت سابق من هذا العام، فإن الولايات المتحدة الأميركية بدأت بإعادة تأهيل قاعدة القيارة الجوية بشمال غربي العراق من خلال إحالة عدد من المقاولات الخاصة ببناء وتجهيز القاعدة إلى عدد من الشركات الأجنبية، علما بأن الاتفاقات الخاصة بذلك أجريت في مقر السفارة الأميركية في الكويت.
يومذاك أضاف السياسي العراقي المطلع أن «الفرقة الأميركية المجوقلة 101 سوف تستقر في هذه القاعدة الاستراتيجية، وأن الجانب الأميركي أدخل إلى هذه القاعدة معدات تستخدم لأول مرة في الجيش الأميركي».

اهتمام وإعادة تأهيل
وأوضح المسؤول العراقي الرفيع المستوى أن «الزيارة التي قام بها وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر في اليوم التالي لتحرير القاعدة من سيطرة تنظيم داعش تأتي في سياق الاهتمام الأميركي». وكانت قاعدة القيارة قد بنيت أواخر سبعينات القرن الماضي على أيدي شركات يوغسلافية ضمن مشروع القواعد العملاقة للاستفادة من دروس الحروب العربية مع إسرائيل بين عامي 1967 و1973. وكانت هذه القاعدة لعبت دورًا مهما خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980ـ1988)، إذ كانت تؤوي أسراب طائرات «الميغ» الروسية و«الميراج» الفرنسية.
وتضم القاعدة مدرجين بطول 3505 و3596 مترا، ونحو 33 حظيرة طيران ويحيط بها سياج بقطر 20 كيلومترا مربعا، ومع السياج حزام أخضر من الأشجار يطوّق القاعدة لغرض حجب الرؤية وضمان السرية. وفي حين استخدمت القوات الأميركية قاعدة القيارة عند احتلالها العراق بعد عام 2003 فإنها سلمتها فيما بعد إلى الحكومة العراقية عام 2010 حين بدأ الأميركان يعدون العدة للانسحاب من العراق (أواخر عام 2011). ثم، في يونيو (حزيران) عام 2014 سقطت القيارة بيد تنظيم داعش المتطرف إبان هجومه الواسع في شمال غربي العراق الذي أسفر عن احتلاله الموصل.

أولويات أميركية
واستنادا لهذه الأهمية الاستراتيجية من حيث الموقع والتحصينات الدفاعية التي بنيت القاعدة وفقًا لاعتباراتها منذ نحو أربعة عقود فإن أولويات الاهتمام الاستراتيجي الأميركي بهذه القاعدة، التي تقع في منطقة ذات غالبية سنية مطلقة تقريبا، تسبق أولويات الجانب الحكومي العراقي.
فأولويات الحكومة العراقية برئاسة الدكتور حيدر العبادي تتركز الآن في تحرير الموصل فقط كمحافظة عراقية، في حين يبدو الأمر مختلفا سواء للجانب الأميركي أو الجانب السنّي المتمثل بأهالي تلك المناطق وما باتت تفرزه من زعامات سنّيّة وعشائرية لديها هي الأخرى أولويات. ذلك أن الحكومة العراقية – وفيها ثقل كبير للمكوّن الشعبي – ليست متحمسة لبناء قواعد أميركية في العراق لكنها تغض النظر حاليًا لأسباب يرى المراقبون السياسيون أنها تتمثل في الحاجة إلى الدعم الأميركي لإخراج «داعش».
ثم إن وجود مثل هذه القاعدة يأتي في سياق تقاسم النفوذ بين موسكو وواشنطن، غير أنه بغض نظر إيراني بعدما ضمنت واشنطن لطهران مناطق نفوذ أخرى في العراق، وهذا بالإضافة إلى تراجع الموقف الأميركي (السلبي سابقًا) من مشاركات «الحشد الشعبي» ذي الغالبية الشيعية في المعارك الدائرة حاليًا ضد تنظيم داعش، بما في ذلك معركة الموصل. إذ باتت مشاركة «الحشد الشعبي» اليوم شبه محسومة، والمتوقع أن يكون دوره مشابهًا لدوره في كل من معركتي الرمادي والفلوجة. وهذا يعني أنه سيكون جزءًا من المعركة لكنه قد لا يشارك مباشرة في عملية اقتحام مدينة الموصل التي بدأ أهاليها يشعرون بالخوف والهلع منذ الآن تخوفًا من الحرب القادمة، خصوصًا أن تنظيم داعش بدأ بدوره يحشد أعدادًا كبيرة من مقاتليه فيها.
أما أولوية أهالي الموصل ومحيطها، التي لخصها الزعيم السنّي البارز أسامة النجيفي في حديث أدلى به لـ«الشرق الأوسط» فهي أن يصار إلى إقامة «الأقاليم الفيدرالية لكن على أسس إدارية وليست طائفية». ولقد بيّن النجيفي أنه «يمكن تقسيم محافظة نينوى إلى عدة محافظات ينتظمها إقليم واحد وهو ما ينطبق على محافظات صلاح الدين والأنبار وديالى».

تناقضات في الرؤية
بيد أن أولوية النجيفي تتناقض مع أولويات أخرى لبعض القيادات السنّيّة هناك تعارض هذا التوجه، وهذا ما يلخصه موقف مشعان الجبوري، النائب في البرلمان العراقي عن محافظة صلاح الدين. وللعلم، فإن الجبوري وهو قيادي في «تحالف القوى العراقية» الذي ينتمي إليه أسامة النجيفي نفسه إلا أنه يخالفه في الرؤية والمنهج، وفي تصريحه لـ«الشرق الأوسط» اعتبر أن «الأقاليم الفيدرالية هي وصفة لتقسيم العراق ولن نسمح بها على الإطلاق». وردا على سؤال بأن الدستور العراقي ثبّت الفيدرالية في الكثير من مواده، قال الجبوري إن «الوقت غير مناسب لذلك، حتى لو بدأ الأمر بغطاء دستوري. يضاف إلى ذلك أن هناك مشاريع تقسيم في المنطقة لن نقبل بها، وتركيا التي يؤيدها السيد النجيفي جزء من هذه الترتيبات».
من جانبها، فإن الولايات المتحدة الأميركية التي قررت إرسال 560 جنديًا إلى قاعدة القيارة التي هي الآن قيد الإعداد وصل منهم الأسبوع الماضي 400 جندي، تعد العدة الآن لمعركة الموصل لأن الترتيبات المستقبلية في قاعدة القيارة و«الجائزة الكبرى» لهيلاري كلينتون تتوقف على خطة تحرير الموصل. ومن أجل تطبيق الرؤية الأميركية على أرض الواقع أرسلت واشنطن الكثير من الوفود الرفيعة المستوى إلى بغداد، مثل وزراء الخارجية والدفاع وقائد القيادة المركزية الأميركية والناطق باسم التحالف الدولي ورئيس هيئة الأركان المشتركة للجيوش الأميركية وذلك بهدف تهيئة كافة الاستعدادات للمعركة الفاصلة.
وهنا تبدو بغداد، على لسان المتحدث الإعلامي بمكتب رئيس الوزراء سعد الحديثي، مهتمة بهذه الرؤية. إذ يقول الحديثي لـ«الشرق الأوسط» إن «الاهتمام الأميركي في تحرير الموصل يتمثل في مستوى الدعم المتواصل الذي بدأت تقدمه واشنطن للعراق، وهو ما يتضح من خلال ما تجريه الإدارة الأميركية من اتصالات مع رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي تعده واشنطن شريكا رئيسيا لها في مكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى أنها تدرك أن العراق بات يمثل الخط الأمامي في المواجهة ضد تنظيم داعش. وبالتالي، فإن هناك طمانة أميركية مستمرة للعراق بالوقوف إلى جانبه في مختلف الجوانب، وهو ما ترك أثره على طبيعة ومستوى الإعداد للمعركة من مختلف جوانبها».

دور القاعدة الاستراتيجي
ومما يستحق الإشارة، أن وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر كان قد أعلن أن الرئيس أوباما سينشر 560 عسكريًا أميركيًا إضافيًا في العراق للمساعدة في تحرير الموصل من تنظيم داعش على أن تكون وجهة هؤلاء الجنود نحو قاعدة القيارة. وطبقا لما نقلته صحيفة «نيويورك تايمز» الحسنة الاطلاع فإنه «بهذا العدد الإضافي سيصل مجموع القوات الأميركية في العراق إلى 4647 عسكريًا، ومن ثم سيتم نشر الكثير من هذه القوات في مطار قاعدة القيارة». وأضافت الصحيفة نقلا عن كارتر أن «القادة العسكريين الأميركيين يعتزمون استخدام قاعدة القيارة الجوية كمطار ومنطقة انطلاق لتقديم الدعم اللوجستي للقوات العراقية المتقدمة نحو الموصل، فيما يوجد متخصصون في دعم البنية التحتية، مثل الجسور، التي سيحتاجها العراقيون في الهجوم على الموصل بسبب تدمير (داعش) الكثير منها في المدينة».
أيضًا، في سياق هذه الترتيبات فإن معركة الموصل المتوقع انطلاق صفحتها الرئيسية مطلع سبتمبر (أيلول) المقبل صرح مصدر مطلع رفيع المستوى لـ«الشرق الأوسط» بأن واشنطن سوف تبدأ باستخدام طائرات الأباتشي المتطورة في معركة الموصل بدءا من شهر سبتمبر المقبل بالإضافة إلى النصيحة التي قدمها الأميركان للقيادة العراقية بالإبقاء «على قضاء الشرقاط محاصرا دون قتال الأمر الذي سوف يجبر عناصر تنظيم داعش الموجودين فيه حاليًا على الهرب، كما أن من شأن ذلك تجنب عمليات النزوح الهائلة التي يمكن أن ترافق العمليات القتالية ما قد يؤخر عملية التقدم نحو الموصل».

مطامح الأكراد والشيعة
أما بالنسبة لمفهومي الاختلاط والتمدد في الموصل شيعيًا وكرديًا، فإنه في الوقت الذي تبدو خطة إيران غير واضحة المعالم، وهي تعتمد على التمدد والتوغل تحت أغطية مختلفة منها حماية أبناء المذهب الشيعي في تلك المناطق ذات الغالبية السنّيّة، فإن الوضع الكردي مختلف حيث يقوم على أساس ما يعتبره «عائدية جغرافية». فالقوميون الأكراد المتشددون يتعاملون مع هذه المناطق على أنها تتبع «إقليمهم» بصرف النظر عن التنوع السكاني فيها، مع العلم أنه يعيش في هذه المناطق الأكراد والعرب والمسلمون والمسيحيون، وبالتالي، فإن الجغرافيا هي التي تحكم العلاقة المستقبلية مع إقليم كردستان في تلك المناطق.
وعلى صعيد آخر، يجمع الخبراء العسكريون والاستراتيجيون على أن قاعدة القيارة ذات أهمية استراتيجية سواء اليوم على صعيد الحرب على «داعش» - وسط التحضيرات الجارية الآن لخوض معركة الموصل الفاصلة والتي لا يمكن كسبها ما لم يتم انطلاق الطائرات منها - أو على صعيد الترتيبات المستقبلية. فبالنسبة لعمليات الطيران فإن الطائرات الحربية التي ستنطلق من القاعدة سوف لن تحتاج إلى إعادة التزود بالوقود نظرا لقرب المسافة. كما أنها يمكن أن تؤدي هدفها بسهولة ويسر على صعيد تكثيف الضربات الجوية التي أثبتت الحرب ضد «داعش» في العراق خلال السنتين الماضيتين أن الطيران كان ولا يزال العامل الحاسم في ترجيح كفة المعركة لدى الجانب العراقي على الرغم من الأهمية القصوى التي ينطوي عليها موضوع السيطرة على الأرض في الحروب.
ولكن في المعارك التي جرت ضد «داعش»، بما في ذلك المعارك التي أمكن فيها استعادة مدن مهمة مثل تكريت والرمادي والفلوجة، فإنه لولا الجهد الجوي خصوصًا جهد طيران التحالف الدولي المتمثل في ضرب أهداف التنظيم من حيث التجمعات والمخازن والأعتدة وقوافل السيارات والدبابات في الصحراء، لما تم تحقيق النصر في معارك لا تستند إلى قواعد الحرب التقليدية التي هي عبارة عن مواجهة بين جيشين.
كذلك، فإن الموقع الذي تحتله القاعدة بين محافظتي صلاح الدين والموصل، خصوصًا في مناطق شمال محافظة صلاح الدين وصولا لمدينة الموصل، سيكون له الدور الأبرز في المعارك المقبلة ضد التنظيم، لا سيما أن القوات الحكومية العراقية تمكنت أخيرا من استعادة ناحية القيارة (16 كم شمال القاعدة) التي تتبع لها القاعدة من الناحية الإدارية.
لهذه الأسباب والعوامل السابقة الذكر كلها جاء السعي الأميركي للسيطرة على هذه القاعدة، ومن ثم إعادة تأهيلها، لكي تضاف إلى قواعدها الأخرى في العراق مثل عين الأسد في الأنبار وبلد في صلاح الدين. وطبعًا يضاف إلى ما تقدم أن السيطرة على هذه القاعدة سيساعد في تمترس القوات البرية وتحصنها داخلها. وبذلك تشكل عقدة عسكرية مهمة ضد التنظيم. وهنا نشير إلى طريقين يربطان القيارة بالموصل: الأول هو طريق بغداد - الموصل وهو طريق سريع باتجاهين، والثاني طريق قديم ذو ممر واحد محاذ لنهر دجلة، وهذا، فضلا عن قربه من بلدة مخمور حيث مقر قيادة عمليات تحرير نينوى.
وبعد استعادة السيطرة على ناحية القيارة بعد نحو شهرين من استعادة قاعدتها الجوية فإنه لم يعد يفصلها عن الموصل سوى ناحيتي الشورة وحمام العليل وما يتبعهما من قرى. والمرتقب أنه لن يقف الأمر عند هذا الحد، إذ إن البعد النفسي سيكون في غاية الأهمية لدى سكان تلك المناطق الذين كانوا قبل سيطرة «داعش» يرتدون «الجينز» ويدخنون السجائر وينصبون «الستلايت» ويستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي، وكل هذه أمور حرّمها التنظيم المتطرف بعد فرضه سيطرته على تلك المناطق.
هذا يعني أن عملية التحرير ما عادت ترتبط بالبعد السياسي الملتصق بالسيادة الوطنية بل ترتبط أيضًا بالحريات الشخصية التي كانت متاحة للسكان بلا حدود، والتي سلبها «داعش» أيضًا بلا حدود.. وبمجموعة إجراءات تعسفية ولدت حالة من الاحتقان والاختناق. ما جعل أبناء تلك المناطق يرحبون بأقوى جهاز أمني عراقي كانوا على خلاف عميق معه قبل عام 2014 وهو جهاز مكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى ترحيبهم بالأميركان الذين طالما قاوموهم بعد عام 2003 وحتى انسحابهم من العراق عام 2011.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».