كانت انطلاقة وصعود تنظيم داعش الإرهابي المتطرف وتنظيمات التطرف العنيف الأخرى في سياقات الأزمة والثورة السورية بين عامي 2012 و2014، في حين أخذت مؤشرات تراجع هذه التنظيمات وهبوطها منذ سبتمبر (أيلول) 2014، مع بدء ضربات التحالف الدولي ضدها في سوريا والعراق.. ثم في سبتمبر الماضي (2015) مع إطلاق الضربات الروسية الداعمة لنظام بشار الأسد وحتى الآن، والتنسيق المباشر وغير المباشر، والرسمي وغير الرسمي، بين الأطراف الدولية والإقليمية، الذي يحاصرها وأزمتها الآن.
سخر أحد مغرّدي «داعش» الإرهابي المتطرف من أمير «القاعدة» الحالي، أيمن الظواهري، عام 2014 كاتبًا تحت عنوان «الرجل الذي فقد ظله»، أنه يبدو أن تنظيمه وزعماءه يفقدون ظلهم كذلك، فلم يظهر خليفتهم المزعوم منذ بدء دعوى خلافته التي يدّعي تمكينها - إلا أربع مرات فقط، اثنتان بصوته فقط، واثنتان بصورته بشكل مفاجئ كذلك، وإليك تواريخهم:
1 - ظهوره الأول في خطاب مصور بعد إعلان خلافتهم المزعومة، في 4 يوليو (تموز) 2014 خطيبًا في أحد مساجد الموصل.
2 - ظهوره الثاني كان تسجيلاً صوتيًا بعد ما يزيد على مائة يوم في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2014.
3 - ظهوره الثالث كان تسجيلاً صوتيًا في ديسمبر (كانون الأول) 2015، حمل رسالة طمأنة لعناصر التنظيم واستنفارًا لهم، بعد خسائر متعددة للتنظيم.
4 - ظهور رابع مفاجئ في الفلوجة خلال فبراير (شباط) الماضي (2016)، قبل تحريرها في يونيو (حزيران) الماضي، وكان تثبيتًا لعناصره هناك.
الأدلة، في الواقع، كثيرة وواضحة على تراجع «داعش» ميدانيًا في الساحات المختلفة، بعدما دفعت الضغوط الخارجية والداخلية الفاعلين الدوليين والإقليميين والوطنيين بالمبادرة إلى مواجهته درءًا لخطره ومكافحة لتمدده، وإن بشكل لا يزال يحتاج كثيرًا من الحسم السريع، وخصوصًا في ظل استمرار، بل احتدام الأزمة السورية. ومما لا يُختلَف عليه أن هذه الأزمة أسهمت في إنتاج «داعش» فتغذّى من وقودها بعد عسكرتها و«طأفنتها» عمدًا من قبل نظام الأسد وحلفائه وداعميه من الميليشيات الطائفية..
على الأرض، جرى تحرير حتى الآن عدد من المعاقل المهمة من قبضة «داعش» في كل من العراق وسوريا وليبيا، وتم توجيه ضربات قوية لفروعه في مصر ومنطقتي الخليج والمغرب العربي، واستؤصل عدد من خلاياه النائمة في عمليات استباقية وضربات وقائية متعددة.
وبين مايو (أيار) ويونيو الماضيين 2016، مُني «داعش» بخسارة مدينة الفلّوجة، إحدى أبرز معاقله في العراق منذ عام 2004، وكان قد خسر قبلها مدينة الرمادي - العاصمة الإدارية لمحافظة الأنبار - في يناير (كانون الثاني) 2016.
وكما يتراجع «داعش» في العراق وسوريا، تتراجع كتائبه حاليًا عن معاقله في ليبيا أمام كتائب «البنيان المرصوص»، والقوات الموالية لـ«حكومة الوفاق الوطني» بقيادة فايز السرّاج وغيرها أيضًا. ولقد نجحت هذه الكتائب والقوات أخيرًا في تحرير الوشكة والهيشة وزمزم وأبونجيم ومدينة أبوقرين شرقي مصراتة، كما استعادت مناطق ونقاط تفتيش ومراكز حدودية تابعة للتنظيم، وتحركت في اتجاه المعقل الرئيسي للتنظيم المتطرف في مدينة سرت. ومعلوم أنه أعلنت قوات «حكومة الوفاق الوطني» الليبية خلال يونيو الماضي فرض سيطرتها على المحطة الكهربائية الواقعة على مسافة 23 كلم غرب وسط مدينة سرت، التي تعد أحد أهم خطوط دفاعات «داعش» الاستراتيجية.
على صعيد ثانٍٍ، خسر «داعش» خلال الشهور الأخيرة في العراق وحدها 17 من أبرز قيادييه - كما سيوضح تقرير عن الإرهاب في المنطقة يصدر قريبًا - منهم على سبيل المثال:
- عاصي العُبيدي: النائب الثاني لزعيم التنظيم والقائد العسكري لمنطقة الجزيرة. منسق سلسلة هجمات «صليل الصوارم». ضابط برتبة عقيد ركن في الحرس الجمهوري والقوات الخاصة في الجيش العراقي السابق. من مؤسسي جيش الطائفة المنصورة - انضم لجيش الزرقاوي. (في منطقة بروانة جنوب حديثة في غرب العراق).
- أبو عمر الشيشاني: وزير الحرب (في غارة جوية أميركية قرب الشرقاط - المصول بشمال غربي العراق).
- محمد أحمد سلطان البجاري: نائب وزير الحرب (في غارة أميركية مع مساعده حاتم الحمدوني في الموصل).
- سلمان عبد شبيب الجبوري (أبو سيف): عضو مجلس وزارة الحرب (في عملية أميركية وكردية شمال الموصل).
- جاسم محمد حسن الراعي (جاسم خديجة): خبير الصواريخ في التنظيم (في غارة جوية للتحالف على منطقة الحاوي بناحية القيارة جنوب الموصل).
- ثامر المحلاوي: منسّق عام «ولاية الفرات» في التنظيم (في حديثة).
- أبو عبيدة الأنصاري: قيادي في الفلّوجة، سعودي الجنسية (حي الجولان بشرق الفلوجة - خلال عملية الفلوجة).
- أبو حفص الليبي: «أمير» شرق الأنبار (جزيرة الخالدية في الأنبار على أيدي القوات المشتركة والتحالف في غارة جوية).
أزمات «داعش» البنيوية أزمات باكرة ولدت معه، فيوم 14 نوفمبر 2014 أعدم التنظيم المتطرف قياديًا بارزًا في التنظيم من الجنسية السورية، وأقدم على صلبه وفصل رأسه عن جسده عند دوّار الجرداق في مدينة الميادين، بمحافظة دير الزور، بتهمة أخذ مال المسلمين بغير حق بزعم أنهم مرتدون، و«اختلاس أموال من بيت مال (الدولة الإسلامية)». ولقد حُكِمَ على القيادي «بالقتل حرابة بأمر أمير المؤمنين»، وهو ما استمر واتسعت معه شقّة الخلافات داخل التنظيم وفقدان جاذبيته مع الوقت للعناصر المتطرفة.
من هنا لم يكن التراجع الميداني لـ«داعش» وغيره الملمح الوحيد على أزمة وتراجع التنظيمات العنيفة عن مناطق الهيمنة السابقة. إنه حتمًا ليس الوحيد في مشهد تحول التطرف العنيف الذي يمثل «داعش» و«القاعدة» أبرز ممثليه، فثمة أزمات بنيوية كثيرة وتحوّلات كيانية وفكرية خطيرة، تنبئ أيضًا عن تجاوزه مرحله شبابه وصحوته ودخوله في النزع الأخير من شيخوخته، واحتضاره فيما بعد. ولعل هذا ما ألجأه عمليًا إلى استراتيجية الاستنزاف، وما يوصف بـ«الجهاد الفردي عبر الذئاب المنفردة» في العمليات الإرهابية التي نفذّت في الآونة الأخيرة في أوروبا وغيرها، وإن شاب بعضها تبنٍّ مشبوه قد لا يكون صحيحًا أو موظَّفًا من قبلها بدرجة ما، لتخفيف الضغط عليها في بؤر الصراع في الشرق الأوسط.
بل إن هذه الأزمات البنيوية والفكرية لا تقل خطرًا عليه عن عوامل التراجع ومؤشرات الهبوط لتنظيمات التطرف العنيف، ليست خارجية جبهوية من أعدائها فقط، بل - وهذا هو الأهم - بنيوية أيضًا، حيث نشطت الانشقاقات داخل صفوفه، وأقدم «داعش» - مثلاً - خلال نوفمبر الماضي (2015) على تصفية عشرات من المنشقّين عنه ينتمون لدول آسيوية، كما اتخذ قرارًا هذا العام بنزع الشرعية عن أكبر «شرعييه»، تركي البنعلي، خلال يونيو الماضي، وتجريده من كل مناصبه، وهو بحريني الأصل كان قد جرّد من جنسيته في 31 يناير 2015.
وكجزء من مشهد التطرّف العنيف وتحولاته أيضًا، يأتي تحوّل «جبهة النصرة» عن «القاعدة» وفك ارتباطها بها، جزءًا من انقلاب وارتباكات البيعات، مع انضمام جماعات مثل «جيش محمد» إليها قبل ذلك، وغير ذلك من مسائل وملامح تكشف ارتباكات هذه التنظيمات وأزمتها.. أمام خلفية الضغط الدولي والمعنوي الذي يعاني منه عناصرها، وثبوت تحوّلها من داعم للثورة السورية وشعبها المكلوم إلى عبء واضح عليهما، وإلى مشروع فردي سلطوي لا يختلف عن مشروع التسلّط الأسدي الذي تزعم مواجهته.
هكذا، يعرّي الواقع وعود هذه التنظيمات ويكشف زيف خطابها الانغلاقي الصلب المقتدر على صناعة التاريخ، بينما تفشل في اختباراته وتحدياته خلال سنتين فقط، وهو ما أفقدها هالتها وصورتها الأولى لدى العناصر المتطرفة، سواءً في حالة دعواها الخلافة في يونيو عام 2014، أو دعواها قيادة «الجهاد العالمي» و«نصرة الثورة السورية»، التي صارت تمثل مع الميليشيات الطائفية الداعمة للنظام البعثي وبقاياه، عائقًا أبرز لها.
لقد تصاعدت الانتقادات والمراجعات والخلافات البينية داخل كل منها، وفيما بين مختلف التنظيمات العنيفة. وعلا صوت الصدام والصراع بين ممثليها في حرب استئصالية تزايد في الغلو، حين تزايد على الصحة المطلقة، وغدا ما بينها من مفاصلة وقطيعة أكبر وأوسع ممّا بينها وبين منافسيها وأعدائها الآيديولوجيين، مما ينذر بأكل شجرة الغلو نفسها في النهاية، واستيلاد الغلو القاتل نفسه مزايدةً وجموحًا وتشكيكًا وتخوينًا - وصولاً أحيانًا إلى التكفير - كما استولدت «القاعدة» من تنظيمات التطرّف القطري، ومن رحمها خرج تطرّف «داعش» وغلوه، وهكذا.
وليس أدل على فقدان دعاوى وخطاب التطرف و«الداعشية» ألقه وجاذبيته من تراجع أعداد المقاتلين الأجانب بشكل واضح خلال عام 2016. فبعد أن كانوا يرفدون «داعش» شهريًا بنحو 1500 إلى 2000 مقاتل كل شهر، انخفض العدد خلال الشهور الأخيرة إلى 200 مقاتل فقط، ويرى بعض المراقبين أنه عاد أكثر من 20 في المائة من المقاتلين الأجانب لمواطنهم، بعد أن عاينوا وعايشوا الواقع العنيف واليوتوبيا الكاذبة التي تحملها تنظيماته، كما أن النقد البيني الشديد والاتهامي بين ممثليها أضاع صورة الوعد المبطن في خطاباتها بالانتصار والحق واحتكار الحقيقة.
يتّسم التطرف العنيف والراديكالية الأصولية في بداياته دائمًا بالجاذبية ونشاطية التجنيد كوعد خلاصي من فساد الدنيا، وطرح تمامي لصحيح الدين وتجسيده. ولكن بمرور الوقت ينفض التاريخ والواقع عنه هذا السحر.
هذا بالضبط ما يعيشه «داعش»، ومعه سائر تنظيمات التطرف الآن، كما عاشته تنظيمات متطرفة كانت أكثر عنفًا وحضورًا وتأثيرًا في زمانها من غلاة الخوارج، وبالأخص الفرق الأكثر تطرّفًا من أصل فرقهم العشرين، كالمحكّمة والأزارقة والنجدات، التي أسست أول دولها عام 60 هجرية في الأحواز العربية، وهي اليوم منطقة لم يعُد فيها خارجي. كذلك برزت فيها أسماء نساء وقائدات مرموقات، كغزالة التي فرّ من أمامها الحجاج بن يوسف في إحدى المعارك، وكان يعاير بذلك في شعره، غير أن التاريخ كسر صولة هؤلاء ووأد جذوة التطرف فيهم.
كذلك برز المتطرّفون من غير غُلاة الخوارج، كالحشاشين الذين نجحوا في اغتيال الوزير نظام الملك السلجوقي سنة 457 هجرية، والخليفتين العباسيين الراشد والمرشد، وحاولوا قتل صلاح الدين الأيوبي قبل ذلك - حاولوا قتله أكثر من مرة حسب بعض الروايات - وظلوا شوكة في جسد هذه الأمة إلى أن قضى عليهم في قلعة آلموت هولاكو المغولي سنة 656 هجرية، كما قضى عليهم في الشام الظاهر بيبرس المملوكي بعد ذلك بسنوات.
ومثلما كان لـ«داعش» جولة وها هو نجمه يخفت الآن، كان لغيره من جماعات وفرق التطرف العنيف جولات سطع فيها نجمها كذلك، ثم انتهى لخفوت.. ولقد أقامت هذه الجماعات والفرق دولاً وإمارات، كما أقام التنظيم «خلافته» المزعومة، لكنها كذلك انتهت للتلاشي والسقوط والاندثار، ولم يبق إلا بقاياها الأكثر اعتدالاً هنا وهناك.
تراجع «داعش» طبيعي في دورة حياة التطرف العنيف
عوامل تراجعه جبهوية خارجية.. وبنيوية أيضًا
جندي عراقي يسير في أحد شوارع الفلوجة بعد استعادتها من {داعش} في 30 يونيو الماضي (ا.ف.ب)
تراجع «داعش» طبيعي في دورة حياة التطرف العنيف
جندي عراقي يسير في أحد شوارع الفلوجة بعد استعادتها من {داعش} في 30 يونيو الماضي (ا.ف.ب)
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة
