«كابتن فانتاستك».. مجابهة سينمائية للتمدن

عمل يتحدى العالم من خلال الوعي بواقعه

مشهد من الفيلم {كابتن فانتاستك}
مشهد من الفيلم {كابتن فانتاستك}
TT

«كابتن فانتاستك».. مجابهة سينمائية للتمدن

مشهد من الفيلم {كابتن فانتاستك}
مشهد من الفيلم {كابتن فانتاستك}

أثناء مشاهدتي للفيلم الأميركي «كابتن فانتاستك»، الذي يعرض حاليًا في دور السينما الأميركية، كان ذهني يستدعي كتابًا شهيرًا من الأدب الأميركي هو «والدن» (1854) لهنري ديفيد ثورو، أحد أعلام المرحلة الرومانسية. فالكتاب يلتقي مع الفيلم في تجربة مشتركة هي مقاومة الحياة المدنية واختيار الطبيعة مكانًا للعيش بدلاً منها. في الفيلم يقرر زوجان العيش مع أولادهما الستة في بيئة طبيعية من ولاية واشنطن شمال غربي الولايات المتحدة، حيث يتربون في تآلف مع الكائنات ويتلقون معرفة رفيعة وجادة تتراوح بين كارل ماركس وليو تولستوي ونعوم تشومسكي. فالفيلم لا يقدم صورة مناهضة للحضارة في صورها الفكرية والإبداعية الرفيعة وإنما ضد المدنية الصناعية في صورتها الرأسمالية الاستهلاكية التي سطحت الإنسان وأفرغته من العمق الفكري والروحي. لكن التجربة التي تقف خلف تلك الصورة لا تلبث أن تدخل في مجابهة مباشرة وخاسرة مع الحياة التي رفضتها، تمامًا مثلما حدث في كتاب ثورو، حيث قضى الكاتب أكثر من عامين في أحراش ماساتشوستس بالقرب من مكان يعرف بهذا الاسم وذلك تقربًا من الطبيعة واحتجاجًا على بعض الأوضاع السياسية والاجتماعية ليعود فيما بعد إلى ما رفضه واحتج عليه. فالحياة المدنية بواقعها الزاخر بالتناقضات والسطحية والاستهلاك والعادات المتبناة دون اختيار أو تفكير ما تلبث أن تفرض نفسها على تجربة العيش بعيدًا عنها.
ذلك الانفصال بين نوعين من العيش لا يربط فيلم «كابتن فانتاستك» بكتاب ثورو فحسب وإنما يربطه بأعمال كثيرة في الأدب الأميركي وغيره، ويربطه بأعمال سينمائية أخرى منها التي تناولت في مقالة سابقة، أقصد الفيلم الأميركي «ولاية جونز الحرة»، حيث تتحقق قيم عليا مثل الحرية والعدالة بعيدًا عن الحياة المدنية أو الاجتماعية بشكلها التقليدي. إنه الانفصام الذي ما فتئت الثقافات تتخيله لخلق البدائل الممكنة أو المأمولة، البدائل الأكثر جمالاً أو نبلاً أو كمالاً، ابتداء بجمهورية أفلاطون ومدينة الفارابي ومرورًا بما لا يحصى من الأعمال الفكرية والإبداعية.
على الرغم من حضور الفانتازيا في اسم الفيلم، فإن «كابتن فانتاستك» ليس عملاً شاطحًا في الحلم، أو عملاً حالمًا، أي رومانسيًا بالمعنى الشائع، أي الهروب السهل من تحديات العالم. هو عمل يتحدى العالم من خلال الوعي بواقعه: رفض الأبوين تعليم أبنائهما في مدارس يريان أنها لا تعلم ما هو مهم، وعزلهم عن ثقافة هي أبعد ما تكون عن الثقافة الجادة، وإغراقهم في طبيعة من الجبال والأشجار والأنهار هي النقيض لكل ما في المدينة من بيئة مصطنعة وملوثة، إلى غير ذلك من مظاهر الوعي بإشكاليات المدنية المعاصرة في مجتمع صناعي استهلاكي وطقوس دينية زائفة أو غير مقنعة للأبوين. لكن الأبوين ما يلبثان أن يكتشفا أن مشروعهما محدود أيضًا وأنه لا يخلو من ضعف ومشكلات خاصة به، أن الجنة والبيئات الفاضلة لها منغصاتها أيضًا.
المنغص الرئيسي الذي يواجهه مشروع الأبوين وأولادهما هو موت الأم وبطريقة غير طبيعية. يكتشف الأب مبكرًا في الفيلم أن زوجته التي ذهبت إلى المدينة منذ ثلاثة أشهر ماتت منتحرة. ليس ذلك فقط، وإنما يتضح فيما بعد أنها لم تكن على قناعة تامة بصحة المشروع نفسه. فالابن الأكبر، الذي علمه أبوه طقوس الحياة البرية وعلمه إلى جانب ذلك كثيرًا من فكر الحضارة المعاصرة، كان بمساعدة أمه -كما يتضح لاحقًا - يراسل كبرى الجامعات الأميركية للحصول على قبول وأنه حصل فعلاً على قبول، بل وترحيب من ييل وهارفرد وبرنستون إعجابًا منها بما حصله من معرفة واكتسبه من لغات. فالأم التي رأت دون شك نجاح مشروعها مع زوجها في تربية أبنائهما تربية استثنائية لم تكن على قناعة تامة بأن ذلك المشروع يجب أن يستمر وأن للحياة والمعرفة متطلبات أخرى. من تلك المتطلبات ما يصرخ به الابن الأكبر في وجه أبيه: «كل معرفتي جاءت من الكتب»، أي أن ثمة معرفة تنقصني هي التجربة المباشرة لما تتحدث عنه الكتب نفسها.
ذلك الفشل تعقبه عودة تدريجية للمدنية المرفوضة تبدأ بحضور مراسم تأبين ودفن الأم. غير أن ذلك الحضور لا يخلو من مجابهة أخرى مع الديانة المسيحية، مع العقيدة والطقوس التي تقتضيها. يقول الزوج إن زوجته المتوفاة تركت وصية تطالب بحرق جثتها بدلاً من دفنها وأنها طلبت أن يوضع رمادها في المرحاض وأنه يطالب بتنفيذ ذلك. وحين يقابل طلب الزوج، بل حضوره في الكنيسة بالرفض من قبل أهل زوجته، ومنهم جد أولاده الثري والرافض للأسلوب الذي اختارته ابنته وزوجها لتربية أبنائهما، فإنه يعمد هو والأولاد إلى سرقة الجثة من مدفنها وإحراقها في الطبيعة التي عاشوا فيها ثم يعودون لتنفيذ بقية الوصية والتخلي نهائيًا عن مشروع الحياة خارج أسوار المدنية.
من المشاهد الطريفة والغريبة في الفيلم مشهد الاحتفال بعيد ميلاد عالم اللغة والمفكر الأميركي الشهير نعوم تشومسكي بدلاً من الاحتفال بالكريسماس. وتشومسكي اسم لا يتوقع من يعرفه أن يتردد في صالة سينما، ومع أنني كنت أشاهد الفيلم في محيط جامعي، حيث إن دار السينما واقعة بالقرب من جامعة كاليفورنيا في إرفاين، حيث يتوقع أن يكون معظم الحضور من الأساتذة والطلاب، فإنه كان من الصعب تصور أن يتعرف بعض صغار السن على الأقل على تشومسكي وأفكاره التي صارت رمزًا لمعارضة السياسة الأميركية ونقدها بشكل متواصل في كتبه ومحاضراته الكثيرة، غير أن الفيلم زج باسم تشومسكي بوصف ذلك جزءا من الاحتفاء بما يعرف بالثقافة المضادة التي يعد المفكر الأميركي رمزًا كبيرًا من رموزها. ولست أدري كيف سيكون رد فعل تشومسكي حين يعرف عن حضوره في الفيلم وهو الذي يؤكد أنه مغيّب عن وسائل الاتصال الجماهيري، ويرى أن ذلك التغييب جزء من الرقابة الضمنية التي تفرضها عليه المؤسسات الأميركية بوصفها شريكة للحكومة فيما يسميه «تصنيع الموافقة»، أو إيجاد الموافقة العامة على السياسات والآيديولوجيات السائدة عبر وسائل مختلفة.
لكن الفيلم الأميركي يثبت هنا أن ثمة أصواتًا تبحث عن أمثال تشومسكي وأن صوت المعارضة تتردد أصداؤه. السؤال: ما مدى انتشار تلك المعارضة ناهيك عن تقبلها وتأثيرها في مشهد سياسي يهيمن عليه أمثال ترامب وكلينتون وتستمر فيه سطوة الشركات الكبرى ورؤوس الأموال دون خيارات أخرى تذكر؟ على أن القضية المطروحة تتجاوز البعد الأميركي لأنها قضية إنسانية وتحدٍ حضاري كبير، وأهمية الفيلم تكمن في إثارته للسؤال حول ما يمكن للإنسان بشكل عام أن يفعله إزاء ظروف تحيط به وتفرض أنماطًا من التربية والتعليم والسلوك إن أمكن له الاعتراض عليها فليس من السهل أن يصل باعتراضه إلى النجاح المرجو أو إلى نتائج مقنعة. إنها إشكالية الفرد أمام مجتمع ونظام ومؤسسات تتبنى آيديولوجيات غير مقنعة لذلك الفرد. وإذا كان الفيلم يطرح حلاً «فانتازيًا» لا يتيسر لكل أحد أو لا يرغب كل أحد أن يتبناه لو لم يعجبه نظام المجتمع أو مؤسساته أو آيديولوجياته، فإن ما في وسع الكثيرين عمله ليس مثل ذلك الحل المتطرف وإنما تبني حلول توفيقية تعدل ما هو قائم برفد التعليم مثلاً بتعليم آخر، أو بتقوية الضعف وتصحيح الخاطئ. لكن تلك الحلول ليست مما يصنع فكرًا أو ينشأ منه عمل فني. لا بد من فانتازيا لصناعة الفن.



انطلاق الدورة الـ19 لـ«البابطين الثقافية» بمضاعفة جوائز الفائزين

وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
TT

انطلاق الدورة الـ19 لـ«البابطين الثقافية» بمضاعفة جوائز الفائزين

وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

كرمّت «مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية»، صباح اليوم (الأحد)، الفائزين بجوائز الدورة الـ19 للجائزة، مع انطلاق هذه الدورة التي حملت اسم مؤسس وراعي الجائزة الراحل عبد العزيز سعود البابطين، تخليداً لإرثه الشعري والثقافي.

وأُقيم الاحتفال الذي رعاه أمير الكويت، الشيخ مشعل الأحمد الصباح، في مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي، بحضور (ممثل أمير البلاد) وزير الإعلام والثقافة وزير الدولة لشؤون الشباب عبد الرحمن المطيري، ومشاركة واسعة من الأدباء والمثقفين والسياسيين والدبلوماسيين وأصحاب الفكر من مختلف أنحاء العالم العربي، كما حضر الحفل أعضاء المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.

جانب من حضور دورة الشاعر عبد العزيز سعود البابطين (الشرق الأوسط)

وقال وزير الثقافة والإعلام الكويتي، عبد الرحمن المطيري، في كلمته، إن هذا الملتقى «الذي يحمل في طياته عبق الشعر وأريج الكلمة، ليس مجرد احتفالية عابرة، بل هو تأكيد على أن الثقافة هي الروح التي تحيي الأمم، والجسر الذي يعبر بنا نحو مستقبل زاخر بالتسامح والتعايش والمحبة».

وأضاف: «إن لقاءنا اليوم ليس فقط تكريماً لمن أبدعوا الكلمة وشيَّدوا صروح الأدب، بل هو أيضاً دعوة لاستلهام الإرث الثقافي الكبير الذي تركه لنا الشاعر الراحل عبد العزيز سعود البابطين (رحمه الله)، والذي كان، وسيبقى، قامة ثقافية جمعت بين جمال الكلمة وسمو الرسالة... رسالة تُعبِّر عن القيم التي تجمع بين الحضارات. ومن هنا جاءت مبادراته الرائدة، التي عرَّف من خلالها الشرقَ بالشعر العربي، وقدَّم للغرب بُعدَه الإنساني، جاعلاً من الشعر جسراً يربط القلوب، ومفتاحاً للحوار بين الثقافات».

رئيس مجلس أمناء «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين يلقي كلمته في افتتاح الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

في حين قال رئيس مجلس أمناء «مؤسسة البابطين الثقافية»، سعود البابطين، إن هذه الدورة تأتي احتفاءً «بالشعر، فن العرب الأول على مر العصور، وتكريماً للمبدعين والفائزين مِنَ الشعراءِ والنقاد، ووفاءً ومحبة لشاعر هذه الدورة (عبد العزيز البابطين) الذي أخلص في رعاية الشعر العربي وخدمة الثقافة العربية بصدق ودأب وتفانٍ طيلة عمره كله، بلا ملل ولا كلل».

وفي خطوة لافتة، قدَّم رئيس مجلس الأمناء، أمين عام المؤسسة السابق، الكاتب عبد العزيز السريع، الذي رافق مؤسس الجائزة منذ نشأتها، ليتحدث عن ذكرياته مع راعي الجائزة الراحل، والخطوات التي قطعها في تذليل العقبات أمام إنشاء المؤسسة التي ترعى التراث الشعري العربي، وتعمل فيما بعد على بناء جسور التواصل بين الثقافات والحضارات.

وأعلن البابطين، في ختام كلمته عن مضاعفة القيمة المالية للجوائز ابتداءً من هذه الدورة، وفي الدورات المقبلة لـ«جائزة عبد العزيز البابطين».

ونيابة عن الفائزين، تحدَّث الأديب والشاعر الكويتي الدكتور خليفة الوقيان، مشيداً بـ«جهود (مؤسسة البابطين الثقافية) في دعمها اللامحدود للفعل والنشاط الثقافي داخل وخارج الكويت».

وأضاف: «في هذا المحفل الثقافي البهيج، يمرُّ في الذاكرة شريط لقاءات تمَّت منذ 3 عقود، كان فيها الفقيد العزيز الصديق عبد العزيز البابطين يحمل دائماً هَمّ تراجع الاهتمام بالشعر، ويضع اللَّبِنات الأولى لإقامة مؤسسة تُعنى بكل ما من شأنه خدمة ذلك الفن العظيم، ثم ينتقل عمل المؤسسة إلى الأفق الدولي، من خلال ما يُعنى بقضية حوار الثقافات والحضارات».

وألقى الشاعر رجا القحطاني قصيدة عنوانها «إشعاع الكويت»، من أشعار الراحل عبد العزيز البابطين.

يُذكر أن فعاليات الدورة الـ19 مستمرة على مدى 3 أيام، بدءاً من مساء الأحد 15 ديسمبر (كانون الأول) إلى مساء الثلاثاء 17 ديسمبر الحالي. وتقدِّم الدورة على مسرح مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي 5 جلسات أدبية، تبدأ بجلسة بعنوان «عبد العزيز البابطين... رؤى وشهادات»، تليها 4 جلسات أدبية يعرض المختصون من خلالها 8 أبحاث عن الشاعر عبد العزيز سعود البابطين المحتَفَى به، و3 أمسيات شعرية ينشد فيها 27 شاعراً.

وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

الفائزون:

* الفائز بالجائزة التكريمية للإبداع الشعري الشاعر الدكتور خليفة الوقيان، وقيمة الجائزة 100 ألف دولار.

* الفائزان بجائزة الإبداع في مجال نقد الشعر «مناصفة»، وقيمتها 80 ألف دولار: الدكتور أحمد بوبكر الجوة من تونس، والدكتور وهب أحمد رومية من سوريا.

* الفائزة بجائزة أفضل ديوان شعر، وقيمتها 40 ألف دولار: الشاعرة لطيفة حساني من الجزائر.

* الفائز بجائزة أفضل قصيدة، وقيمتها 20 ألف دولار: الشاعر عبد المنعم العقبي من مصر.

* الفائز بجائزة أفضل ديوان شعر للشعراء الشباب، وقيمتها 20 ألف دولار: الشاعر جعفر حجاوي من فلسطين.