فجع الوسط الثقافي السعودي الأسبوع الماضي برحيل الدكتور عبد الله بن إبراهيم العسكر، عضو مجلس الشورى أستاذ التاريخ المتقاعد بجامعة الملك سعود. وكان ذلك الرحيل بالنسبة لي فجيعة شخصية لقربي من الراحل ومعرفتي ببعض إنجازاته وأهميته من ثم للمشهد الثقافي في المملكة التي عمل من أجلها ومن أجل الوطن العربي والإسلامي إجمالاً بكل جهد وإخلاص. وكان علي وأنا أفكر في كتابة هذه المقالة أن أواجه نازعين مختلفين، أن تكون كتابتي عنه شخصية أو ذاتية تطغى فيها مشاعري تجاهه وعلاقتي به، أو أن أكتب عنه تعريفًا به لمن لم يعرفه، لكن أهمية الرجل لحياتنا الثقافية وإسهاماته الكثيرة فيها رجحت العام على الخاص فطغى عطاؤه على مشاعري نحوه وتقدم حق القارئ على حق المحب.
عرفت الدكتور العسكر لأول مرة في أواسط التسعينات وكنت حينها أدير مركز البحوث بكلية الآداب بجامعة الملك سعود. ووجدت أن المركز سبق له أن نشر بحثًا مطولاً، أقرب إلى الكتاب حجمًا، يتناول مفهوم «التحقيب في التاريخ الإسلامي» وما يمثله من إشكالية للمؤرخين. وكان الراحل حين ذاك أستاذا في قسم التاريخ. فكان أن لفت البحث انتباهي إلى باحث متميز يخرج عن مألوف النشر الأكاديمي إلى فضاءات فكرية مختلفة. وبعد أن تعرفت على الرجل تأكدت أن البحث الذي اطلعت عليه كان سمة من سمات تفكيره فتوطدت علاقتي به رحمه الله.
للدكتور العسكر حضور في المشهد الثقافي السعودي على ثلاثة مستويات: المستوى الأكاديمي أو العلمي، ومستوى الكتابة الصحافية، إلى جانب الترجمة. وكان نشطًا معطاء على كل تلك المستويات دون كلل مع أنه كان يشكو في الفترة الأخيرة من عدم جدوى الجهد الذي كان يبذله في الترجمة، لا سيما بعد أن استحوذت على الكثير من وقته ونشاطه وأصدر فيها عددًا من الكتب. قال لي ذات يوم إن الترجمة غير مجدية لأن الناس لا تقرأ وإن قرأت لا تتفاعل. ولأنني كنت أشاطره الاهتمام بهذا الجانب من الإنتاج الثقافي فلم يكن بد من الموافقة على ما ذهب إليه، لكني كنت أخشى أن يؤدي ذلك إلى فتور في عزيمته فرحت، بتفاؤل أكثره مصطنع، أذكره بأن ما ينجزه سيترك أثره على المدى البعيد وأن قراءً لا يعرفهم سيأتون يومًا.
المنجز الثقافي الذي سيبقي الدكتور عبد الله في الذاكرة يتمثل في جانبين: كتاباته التأريخية عن منطقة اليمامة (نجد حاليًا) والتي كانت موضوع رسالته للدكتوراه من جامعة كاليفورنيا بلوس أنجليس وموضوع عدد من الأبحاث والترجمات التي أنجزها. ويعد الدكتور العسكر من أبرز المختصين بتاريخ تلك المنطقة من الجزيرة العربية. غير أن جهوده في الترجمة تحديدًا، وهي كما أشرت متصلة بتخصصه، هي الجانب الآخر الذي يعزز مكانته العلمية والثقافية في المملكة والوطن العربي.
ترجم الدكتور العسكر خمسة كتب هي: 1) التاريخ الشفهي: حديث عن الماضي، تأليف روبرت بييركس (الرياض، 2003)؛ 2) دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الإحياء والإصلاح إلى الجهاد العالمي، تأليف ناتانا دي لونج باس، (الرياض، 2012)؛ 3) الدعوة الوهابية والمملكة العربية السعودية، تأليف ديفيد كمنز (بيروت 2013)؛ 4) النساء في التراجم الإسلامية، تأليف روث رودد (بيروت 2013)؛ 5) كتابة التاريخ في المملكة العربية السعودية العولمة والدولة في الشرق الأوسط، تأليف يورك ماتياس ديترمان (بيروت، 2015).
باستثناء كتاب النساء وكتابة التاريخ، تتمحور بقية الكتب حول موضوع تخصص الباحث وفي ظني أنها الكتب الوحيدة المترجمة حول الموضوع وتشير إلى حجم اهتمام الباحثين الغربيين بالموضوع وحرص المترجم على إثراء المكتبة العربية بما تمخض عن ذلك الاهتمام. وأذكر أن الدكتور العسكر أخبرني أن منهجه في الترجمة هو التيسير على القارئ باختيار الأسلوب الذي يراعي تقريب النص لغير المختص قدر الإمكان كما في تفادي الهوامش الشارحة لأن من شأن ذلك تعطيل سلاسة القراءة. كما أن من الملاحظ تزايد نشاطه في الترجمة في السنوات الأخيرة، حيث إن أربعة من الكتب صدرت خلال ثلاثة أعوام فقط، ما يشير إلى ما كان يمكن للباحث إنجازه لو أمد الله له في العمر.
إن اهتمام الدكتور العسكر رحمه الله بترجمة كتب حول الدعوة الوهابية وعلاقتها بالمملكة العربية السعودية يعود دون شك إلى تزايد طرح هذا الموضوع في الإعلام وتأثيره على الموقف من المملكة في كثير من علاقاتها الخارجية، والكتب المشار إليها كتب لم يكن الراحل ليقدم على ترجمتها لو لم تكن تقارب الموضوع بقدر عالٍ من النزاهة البعيدة عن التصورات النمطية المسبقة والأحكام الجاهزة والعاطفية.
إلى جانب الكتب ذات التوجه الأكاديمي كان الراحل حريصًا على نقل معرفته إلى المتلقين بأسلوب ميسر سواء من خلال مقالته الأسبوعية في صحيفة «الرياض» وفي مجلة مجلس الشورى الشهرية أو من خلال المحاضرات التي دأب على إلقائها وكان آخرها، حسب علمي، محاضرة حول الملك سلمان بن عبد العزيز من زاوية اهتمام خادم الحرمين الشريفين حفظه الله بالقراءة عمومًا وفي الجانب التاريخي بشكل خاص، وقد صدرت تلك المحاضرة في كتاب بعنوان «البعد الثقافي في حياة الملك سلمان بن عبد العزيز» (2015) عن نادي الأحساء الأدبي حيث ألقى المحاضرة. وفي سياق تلك المحاضرة تحسن الإشارة إلى أن الراحل ينتمي إلى أسرة آل العسكر ذات التاريخ المتجذر في تاريخ الدولة السعودية، فجده وسميه عبد الله بن إبراهيم العسكر أبقاه الملك عبد العزيز أميرا على المجمعة بعد انضوائها تحت لواء الحكم السعودي. أما والده فقد نصب أميرا على منطقة عسير لفترة من الوقت. كانت ولادة الدكتور العسكر في مدينة المجمعة عام 1952. وأنهى تعليمه الثانوي فيها ليكمل دراسته بعد ذلك في جامعة الرياض (الملك سعود حاليًا) ثم مبتعثًا إلى الولايات المتحدة. غير أن هذا لا يعني أن الراحل ولد وفي فمه ملعقة من ذهب، فقد كافح في الوظيفة مبكرًا فعمل مدرسًا قبل ابتعاثه وقضى معظم حياته في الجامعة أستاذا عصاميًا نزيهًا.
رحم الله الفقيد رحمة واسعة فقد ترك الكثير مما سيبقيه في ذاكرة أبناء بلاده ويدعوهم إلى الدعاء له وتقدير دوره الكبير في إثراء المكتبة العربية.
برحيل العسكر.. تخسر الثقافة السعودية علمًا في التاريخ
منجزه الثقافي تمثل في أبحاثه التاريخية وترجماته
برحيل العسكر.. تخسر الثقافة السعودية علمًا في التاريخ
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة