«سوق عكاظ» تزاوج بين الشعر والمعرفة وتطلق حوارًا مع الشباب

خالد الفيصل يدشن أكاديمية ومركز دراسات للشعر العربي

الأمير خالد الفيصل - جانب من سوق عكاظ
الأمير خالد الفيصل - جانب من سوق عكاظ
TT

«سوق عكاظ» تزاوج بين الشعر والمعرفة وتطلق حوارًا مع الشباب

الأمير خالد الفيصل - جانب من سوق عكاظ
الأمير خالد الفيصل - جانب من سوق عكاظ

برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز يُفتتح سوق عكاظ، التي تمتد من 9 إلى 19 أغسطس (آب) الحالي. وفي دورتها العاشرة، تتجه «سوق عكاظ» التي تفتتح في الطائف، لتعزيز الجانب المعرفي وإطلاق حزمة فعاليات ثقافية وفكرية، إذ يفتتح الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة «أكاديمية عكاظ للشعر العربي»، و«مركز دراسات الشعر العربي»، و«دار عكاظ للنشر»، كأبرز المشاريع الثقافية لهذا العام، بجانب عدد من المنشآت المعرفية والتجارية والترفيهية.
كما يلتقي الأمير خالد الفيصل بشباب وفتيات سوق عكاظ، في لقاء حواري مفتوح لمدة ساعتين، بمشاركة الدكتور عادل الطريفي، وزير الثقافة والإعلام في القاعة الكبرى بجامعة الطائف.
ويشارك نحو 7 وزراء سعوديين في لقاءات مفتوحة مع الجمهور، للحديث عن القضايا الراهنة في مجالات الثقافة والعمل والتكنولوجيا وتحديات العولمة والاتصالات. وكشفت اللجنة الإعلامية عن مشاركة عدد من الوزراء والخبراء في فعاليات سوق عكاظ، حيث يشارك وزراء: التعليم والحج والعمرة والثقافة والإعلام، ورئيس مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، وعدد من الخبراء والأكاديميين والأدباء، بأوراق عمل وبحوث علمية تهدف للارتقاء بالعمل الثقافي والإبداعي والمعرفي بالمملكة، تزامنًا مع إطلاق المملكة رؤية 2030.
وقالت اللجنة الإعلامية لسوق عكاظ، أمس، إن برنامج الفعاليات لهذا العام يشكل إثراء معرفيًا نتيجة للتنوع النوعي فيها، المشتملة على الملتقيات المعرفية والحوارات الشبابية والندوات الثقافية والأمسيات الشعرية والفنون التشكيلة والفلكلورية والحرف اليدوية والصناعية، بجانب المعارض المتخصصة المختلفة المتضمنة معارض الابتكار والريادة المعرفية ومعارض الحرف ومعارض المؤسسات العلمية والجامعات المحلية، بالإضافة إلى عروض مسرح الشارع والزيارات السياحية وورش العمل التدريبية.

ملتقى الريادة المعرفية
ويُفتتح برنامج فعاليات سوق عكاظ بملتقى الريادة المعرفية المقـــام في فندق إنتركونتننتال الطائف ثاني أيام الدورة العاشرة للسوق، ويناقش الملتقى مستقبل الأعمال الريادية في ضوء رؤية المملكة 2030، بمشاركة وزراء ومسؤولين من القطاعين العــــام والخاص وعدد كبير مـــن المهتمين بــــالريادة المعرفية.
ويبحث الملتقى 3 محاور: «استراتيجيات خدمات الريادة المعرفية، والخدمات المعرفية لريادة الأعمال ورؤية 2030، والشراكات المعرفية ومستقبل ريادة الأعمال».
ويشارك في الملتقى: الأمير الدكتور تركي بن سعود بن محمد آل سعود رئيس مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، ووزير التعليم الدكتور أحمد العيسى، ووزير الحج والعمرة الدكتور محمد بنتن، ورئيس الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة المكلف المهندس مازن الداود، ومدير إدارة تطوير الأعمال - صندوق التنمية الصناعية السعودي المهندس أحمد الغامدي، ونائب الرئيس التنفيذي بجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية المهندس نظمي النصر، كمتحدثين رئيسيين في الملتقى، بجانب مشاركة 6 رواد أعمال من المملكة.
ويهدف الملتقى إلى تأسيس مفهوم وإعطاء رؤية لصناعة ريادة الأعمال المعرفية في المملكة، وفهم الصعوبات والتحديات التي تواجهها، مع وضع إطار عمل لدعمها وتمكينها، ووضع المبادرات التي تدعم وتمكن صناعة ريادة الأعمال المعرفية.

حوار الشباب
ويلتقي الأمير خالد الفيصل بشباب وفتيات سوق عكاظ، في لقاء حواري مفتوح بمشاركة وزير الثقافة والإعلام، الدكتور عادل الطريفي، فــــي جــــامعة الطائف مساء يوم الأربعـــــاء (19 أغسطس الحالي).
ويهدف اللقاء إلى الاستماع إلى آراء الشباب وتبادل الرؤى والأفكار مع صناع القرار، ضمن منظومة التواصل التي تعد من أهم مقومات سوق عكاظ الثقافية في كل دورة، لترسيخ مبدأ ثقافة الحوار عبر استثمار هويّة سوق عكاظ، لتكون في طليعة قنوات التواصل الإيجابي، لعرض تجارب الشباب الثقافية والعلمية ومساهماتهم في التنمية الوطنية.
من جهته، سيُسلّط وزير الثقافة والإعلام الضوء في حديثه إلى الشباب على رؤية المملكة 2030، والتعريف بأهم أهدافها وعناصرها، واستعراض دور الشباب في هذا التحول الوطني، وحثهم على المشاركة فيها بفعالية، ليكونوا بواكير التحول وليصبحوا نواة المجتمع العامل المنتج.

الندوات الثقافية
ويشارك في الندوات الثقافية هذا العام أكثر من 30 باحثًا وأديبًا يشاركون بأوراق عمل وبحوث أدبية علمية، في 7 ندوات ثقافية تقام على مدى 3 أيام، تمتد خلال الفترة من 11 إلى 13 أغسطس الحالي.
وتركز الندوات على الدراسات النقدية للشاعر الجاهلي عروة بن الورد، وللشاعر والأديب السعودي عبد الله بن خميس، كما ستبحث جهود الترجمة في فرنسا، والمخطوطات المهاجرة، مع تناول عدد من التجارب الكتابية والفنية، بجانب البحث عن موضع الهوية الثقافية في العالم الرقمي، وحماية الخصوصية في وسائل التواصل الاجتماعي.
الندوة الأولى في البرنامج الثقافي تحمل عنوان «تجارب الكتابة»، وتتناول التجارب في الكتابة والفنون، ويشارك فيها الناقد والفنان التشكيلي المغربي بنيونس عميروش، والروائي السعودي مقبول العلوي الحاصل على جائزة سوق عكاظ للرواية، والناقد علي الشدوي، والناقد المصري الدكتور عمار علي حسن، فيما يدير الندوة الدكتور أحمد التيهاني.
وتتناول الندوة الثانية موضوع «حماية الخصوصية في وسائل التواصل الاجتماعي»، ويشارك فيها الدكتور عوض الأسمري، والدكتور عبد الرحمن بن حسن المحسني، والدكتور جهاد العمري، والدكتور فارس الهمزاني، ويديرها متعب الحارثي. أما الندوة الثالثة فتكون عن الشاعر السعودي عبد الله بن خميس، تحت عنوان «شعر ابن خميس»، ويشارك فيها الدكتور محمد بن عبد الرحمن الربيع، والدكتور سعود بن سليمان اليوسف، والدكتور عبد الله بن عبد الرحمن الحيدري، والدكتورة هيا بن عبد الرحمن السمهري، فيما يديرها الدكتور صالح بن زياد.
وستناقش الندوة الرابعة «اللغة العربية في فرنسا»، ويُشارك فيها المترجم الفرنسي لوك باربوليسكو، وأدريان ليتس، ومحمد البشاوري وعلي عتيق، ويُدير الندوة إبراهيم أبو نمي. أما الندوة الخامسة فهي بعنوان «الهوية الثقافية في العالم الرقمي»، ويشارك فيها خالد الغازي، وأحمد آل مريع وخالد الغامدي، صالح بن سالم، ويديرها الناقد سعيد السريحي.
وتبحث الندوة السادسة، دراسات أدبية ونقدية في سيرة وشعر عروة بن الورد، يشارك فيها عبد الله الزهراني، وأيمن ميدان، صالح الدوش، محمد عطا الله، ويديرها عبد المحسن القحطاني.وتختتم ندوات سوق عكاظ بندوة عن المخطوطات المهاجرة، يشارك فيها محمد هادي مباركي، علي محمد عمران، محمد عزيز شمس الحق، محمد خير البقاعي، ويديرها فهد الجهني.

الأمسيات الشعرية
ويشارك 24 شاعرًا من 10 دول عربية في الأمسيات الشعرية هذا العام، وجميعها بالشعر العربي الفصيح، ويتوزع الشعراء على 3 أمسيات شعرية على مدى 3 أيام.
وٌتقام الأمسيات الثلاث في الخيمة الثقافية بموقع السوق التاريخية بمحافظة الطائف، ويمثل الشعراء المشاركون 10 دول عربية، فيما تم تخصيص الأمسية الأخيرة لإبداعات الشعراء الشباب.
وضمن المشاركين الشاعر الأردني محمد العزام، الفائز بشاعر عكاظ لهذا العام في الأمسية الأولى، بجانبه كل من: خالد الوغلاني من تونس، وابتهال مصطفى من السودان، وتهاني الصبيحة من السعودية، ومحمد البريكي من الإمارات، وعلي الحازمي من السعودية، وأحمد بلبولة من مصر، ويدير الأمسية الدكتور محمد ربيع.
كما يشارك في الأمسية الشعرية الثانية كل من: عدنان الصايغ من العراق، وأحمد لحريشي من المغرب، وإدريس نور الدين من السودان، ومحمد حبيبي من السعودية، ورجا القحطاني من الكويت، وحياة نخلي من المغرب، وسلمى الفايد من مصر، وأبو شجه بابانا من موريتانيا، ويدير الأمسية حماد السالمي.
وتحتفي الأمسية الثالثة بإبداعات الشاب، ويشارك فيها الشاعر خليف الغالب الشمري، الفائز بجائزة شاعر شباب عكاظ لهذا العام، بجانب نجلاء مطر، وزاهد قرشي، وإبراهيم حلوش، ومحمد التركي، وحيدر العبد الله، وعبد الله الهميلي، ويدير الأمسية مفرح الشقيقي.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.