في معارك تحرير صلاح الدين التي خاضها الجيش العراقي ضد تنظيم داعش عام 2015 زج هذا التنظيم الإرهابي ولأول مرة ما بات يسمى فيما بعد بـ«الجيل الرابع» لانتحاريي «داعش» أو «الانغماسيين»، وهم الكتيبة الأكثر تأثيرًا، الذين يشكلون مصدر رعب لخصومهم، لأنهم يحاربون إلى آخر رمق قبل أن يفجروا أنفسهم.
هم يختلفون عن باقي الأجيال الأخرى من الانتحاريين ممن يحملون أحزمة ناسفة ويتحركون بها إلى أهدافهم، سواء كانوا راجلين أو راكبي سيارات تنفجر بهم طبقًا للأهداف التي يحددها التنظيم لهم. ولكنهم أولئك الذين هم أكثر التزامًا بالتنظيم ومبادئه. الخبير الأمني المتخصص بشؤون الجماعات المسلحة هشام الهاشمي مستشار مركز النهرين للدراسات الاستراتيجية قال لـ«الشرق الأوسط» إن «الانغماسيين هم في الواقع كتيبة خاصة من عناصر تنظيم داعش عقدوا بيعة الموت (النصر أو الموت) من غير أسر أو هروب. وهم في الغالب يشتركون في 6 صفات، وهي البنية البدنية القوية، والعقيدة التكفيرية، والتزكية والتاريخ الإرهابي، وفرط الشجاعة والتطوع». وأضاف الهاشمي أن «الانغماسيين هم رأس حربة جيوش (داعش) في سرايا الاقتحام وكتائب القنص وجدار الصد المتقدم»، وكانوا مصدر رعب في سوريا. وأوضح أنه «تاريخيًا بدأ بهذه الجماعة المدعو أبو محمد اللبناني حين أراد اقتحام سجن أبو غريب عام 2006، ومن ثم عرفت هذه المجموعة بكتيبة عائشة أم المؤمنين بقيادة المدعو أبو غزوان الحيالي، ثم أعاد إحياء هذه الكتائب المدعو حجي بكر نائب البغدادي وجعلها بقيادة عمر الشيشاني، والآن هم بقيادة المدعو فاضل حيفا مساعد البغدادي».
وطبقًا للوقائع والحيثيات التي رافقت مسيرة «داعش» في العراق منذ احتلاله الموصل وكل محافظة نينوى في العاشر من يونيو (حزيران) عام 2014، ومن ثم تمدده نحو محافظات صلاح الدين وديالى والأنبار واقترابه من العاصمة بغداد (على بعد 40 كلم)، بالإضافة إلى تحقيقه أخطر خرق باتجاه محافظة كربلاء (110 كلم جنوب بغداد)، التي تضم مرقدي الإمامين الحسين وأخيه العباس من خلال سيطرته على ناحية جرف الصخر (60 كلم جنوب بغداد) ونحو (40 كلم شمال كربلاء)، فإن تنظيم داعش لا سيما بعد إعلانه «الخلافة» عمل على تطوير أدواته وأدائه معًا. أما أدواته فقد تمثلت في نوعية المواد التي يستخدمها في عمليات التفجير والتفخيخ للأماكن والمنازل، بالإضافة إلى الأسلحة التي كان غنمها أثناء هزيمة الجيش العراقي في معركة الموصل (استسلام نحو 4 فرق عسكرية بكامل أسلحتها الثقيلة)، تضاف إلى ذلك الأموال التي بات يتحصل عليها من سيطرته على مئات آبار النفط في العراق وقبلها في سوريا، التي جعلته يضمن موارد مالية هائلة شهريًا من خلال بيع النفط بالسوق السوداء (سعر البرميل لدى «داعش» 25 دولارًا في وقت كانت فيه أسعار النفط العالمية لا تزال بحدود 90 دولارًا). غير أن الأخطر في أداء تنظيم داعش يتمثل في الأجيال الجديدة من الانتحاريين ممن باتوا يأتون إليه من مناطق مختلفة من دول العالم، لا سيما بعد إعلان ما أسماها «دولة الخلافة الإسلامية» ومبايعة أبو بكر البغدادي بمثابة «أمير للمؤمنين». وبينما جاء تمدد «داعش» بعد احتلاله ثلث مساحة العراق بسبب الانكسار الحاد للجيش العراقي، فإن إعلان الولايات المتحدة الأميركية عن تشكيل التحالف الدولي المناهض لـ«داعش» الذي يتكون من نحو 60 دولة، بالإضافة إلى الإجراءات التي تم اتخاذها في العراق وفي المقدمة منها إزاحة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي عن منصبه، وإعادة هيكلة الجيش العراقي بعد تشكيل حكومة جديدة برئاسة حيدر العبادي، عدت أكثر توازنًا وتمثيلاً للمكونات من الحكومة التي سبقتها، بالإضافة إلى حشود المتطوعين بعد فتوى المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني المسماة «الجهاد الكفائي» وانخراط أبناء المناطق الغربية ذات الغالبية السنية فيما سمي «الحشد العشائري» بهدف مقاتلة «داعش»، أدت إلى تغيير المعادلة.
وقد بدأت المعادلة تتغير بالفعل منذ سبتمبر (أيلول) عام 2014 عندما بدأت الطلعات الجوية لطيران التحالف الدولي، وفي المقدمة منها الطيران الأميركي تضرب في عمق أهداف «داعش» ومراكزه الحيوية، يضاف إلى ذلك مقتل عناصر بتنظيم داعش ممن يشكلون الحلقة الضيقة المحيطة بأبو بكر البغدادي، وصولاً إلى بدء خسارة التنظيم معظم الأراضي التي كان يحتلها في العراق. فمن مجموع المساحة التي كان يحتلها تنظيم داعش في العراق التي بلغت نحو 40 في المائة من الأراضي العراقية، فإنه بدأ يتراجع بحيث لم يعد يحتفظ الآن إلا بما نسبته نحو 10 في المائة من الأراضي. وقد بدأ مسلسل تراجع التنظيم في محافظة ديالى التي جرى تحريرها أوائل عام 2015 ومحافظة صلاح الدين، ومن ثم معظم أراضي محافظة الأنبار خلال الشهور الستة الأولى من عام 2016 وآخرها الفلوجة التي تعد أهم معاقله، حيث لم يتبق سوى مدن الفرات الأعلى (راوة وعانة والقائم) من الأنبار، بالإضافة إلى محافظة نينوى التي بدأت المعارك فيها تحقق تقدمًا واضحًا.
في هذا السياق فإن التنظيم وهو يتراجع على مستوى الأرض بالإضافة إلى قلة موارده المالية بسبب فقدانه آبار النفط وكثيرًا من المنافذ والإتاوات التي يحصل عليها، بدأ يزج بما بات يسمى بالانغماسيين، وهم جزء من حروب الجيل الرابع. وفي هذا السياق يقول عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي محمد الكربولي في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن «الانغماسيين يمثلون حروب الجيل الرابع من الإرهاب، وهي حرب نفسية بامتياز، حيث يلعب فيها الإعلام الدور الأكبر والأخطر»، مشيرًا إلى أن «الإعلام هو أحد الأسلحة الرئيسية في الجيل الرابع، حيث يدعم أحداث الفوضى الاستباقية وتوجيه الأنظار وصناعة الخبر وتضخيم الأحداث وزعزعة الاستقرار والتحريض على الفتنة بين طبقات الشعب الواحد وإثارة المذهبية والعقائدية، بحيث يسهل تمزيق الوطن الواحد وإفشال الدولة في النهاية». ويضيف الكربولي أن «تزايد العمليات الانتحارية وتنوعها بطرق وأساليب مختلفة ومنها الانغماسيون يؤكد من جديد الحاجة إلى مقاربة صحيحة لمحاربة الإرهاب، لكن ليس بالطرق التقليدية التي عفا عليها الزمن، بل الحاجة باتت ماسة إلى العمل على تجفيف منابع الإرهاب من خلال إحكام سيطرة الدولة على المنافذ الحدودية، حيث يتدفق الإرهابيون، والعمل على استيعاب أبناء المناطق التي يحاول الإرهاب استخدامها للتمدد، مستفيدًا من الأخطاء التي تمارسها السلطات هناك، سواء كانت أمنية أم عسكرية، بالإضافة إلى تغيير النظرة إلى أبناء تلك المناطق ومحاولة استيعابهم وزجهم في مختلف ميادين العمل والحياة».
قبل عام 2015 لم يعرف شيء عن مصطلح «الانغماسيون» أو الجيل الرابع من مقاتلي «داعش». لكن خلال معارك تطهير مصفى بيجي التي جرت بدءًا من شهر مايو (أيار) عام 2015 ظهر إلى الوجود مصطلح الانغماسيين. وفي هذا السياق يقول يزن الجبوري القيادي في الحشد العشائري من أبناء محافظة صلاح الدين في تصريح لـ«الشرق الأوسط» عن بداية عمل الانغماسيين الذين إن تم تكليفهم بمهمة انتحارية فإنهم لا يترددون في تنفيذها تحت أي ظرف وأي حسابات، يقول إن «بداية هؤلاء وطبقًا للمعلومات التي كانت لدينا أن تنظيم داعش زج في معركة مصفى بيجي التي استمرت شهورًا وكلفت التنظيم كما كلفتنا في الجانب العراقي كثيرًا من الخسائر، من منطلق أن السيطرة على أكبر مصافي العراق تعني حسم معركة صلاح الدين بما بات يطلق عليهم فيما بعد الانغماسيين». وأضاف الجبوري أن «هؤلاء الانغماسيين جاءوا من منطقة الجزيرة إلى هذا المعسكر لتحقيق هدفين في آن واحد، أحدهما تحقيق نصر إعلامي لكي يقولوا إننا موجودون، وهو ما دفعهم إلى إرسال هذا النوع من الانتحاريين، والثاني إحداث أكبر قدر من الخوف لدى جماعة الحشد الوطني من أبناء المنطقة وجماعة معسكر نينوى لقناعتهم بأننا سنتوجه إلى الشرقاط (شمال تكريت) لاستكمال عملية تحرير صلاح الدين، وكذلك لشعورهم بأن أبناء هذه المناطق هم من سيتولون عملية تحريرها».
وأوضح أن «وجود الحشد الوطني وأبناء نينوى يفشل مشروع (داعش)، حيث يلغي صبغة الحرب الطائفية التي يسعى لتكريسها في العراق». لكن «داعش» رغم خسارته معركة صلاح الدين وقبلها ديالى وفشله في اقتحام أسوار بغداد وأخيرًا الفلوجة، فإنه بدأ يضاعف من العمليات التي ينفذها الانغماسيون، بهدف تحقيق جملة أهداف يقف في المقدمة منها البعد الإعلامي لجهة التأكيد أن التنظيم موجود وقادر على الضرب بل وحتى الانتقام. ولعل العملية الأخيرة التي حصلت في حي الكرادة قبل اليوم الأخير من رمضان وأودت بحياة أكثر من 300 قتيل عراقي وجرح مئات آخرين وما ترتب عليها من استقالات وإقالات (وزير الداخلية وقائد عمليات بغداد وقادة الأمن) تعطي الانطباع لدى الآخرين بأن «داعش» وإن يخسر الأراضي فإنه لا يزال يملك زمام المبادرة.
ليس هذا فقط، فإن التوجه نحو سامراء وبالذات إلى بلد يضم غالبية شيعية رغم وجوده في محافظة ذات غالبية سنية (صلاح الدين) ومهاجمة أحد المراقد الشيعية المهمة (مرقد الإمام سيد محمد أبن علي الهادي) بثلاثة من الانغماسيين، مما أدى إلى مقتل وجرح أكثر من 100 شخص بعد 3 أيام على فاجعة الكرادة، إنما يعني من منظور «داعش» أنه لا يزال موجودًا سواء على مستوى الإعلام بوصفه الخبر الأول في وكالات الأنباء، أو على مستوى الواقع حيث توقع عملياته مئات القتلى والجرحى في صفوف المدنيين.
«الانغماسيون».. الجيل الرابع من انتحاريي «داعش»
بعد سلسلة التراجعات.. التنظيم الإرهابي يزج بآخر أسلحته الفتاكة
«الانغماسيون».. الجيل الرابع من انتحاريي «داعش»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة