صحيح أن التغيير من أهم السمات التي ترتبط بالموضة، لكن التغييرات التي تشهدها ساحتها حاليًا، ما بين تغييرات مصمميها وجداولها، هي أقرب إلى زلزال منها إلى أي شيء آخر. المتابعون يعرفون أن هذه التغييرات مفروضة عليها بسبب الأزمة الاقتصادية التي عصفت بآمال كثير من بيوت الأزياء، ممن توسعوا بشكل كبير في الأسواق الآسيوية، أو تواكلوا على انتعاش الاقتصاد الروسي والأسواق النامية الأخرى مثل البرازيل وغيرها. تباطؤ النمو الصيني وتراجع الاقتصاد البرازيلي، وانخفاض قيمة الروبل الروسي فضلاً على الأحوال السياسية غير المستقرة، كلها أسباب دفعت هذه البيوت إلى أن تتبنى استراتيجيات تجارية وتسويقية مختلفة، أهمها تقليص توسعاتها العالمية وعروضها الموسمية. فعندما أعلنت دار «بيربري» البريطانية، وهي واحدة من البيوت التي تضررت وشهدت انخفاضًا كبيرًا في أرباحها وقيمة أسهمها، أنها ستدمج عروضها الرجالية بالنسائية، استنكر البعض الفكرة وقليل منهم رحبوا بها. لكن مع الوقت، تقبلها حتى من تمنع في البداية، لتبدأ محاولات التغيير والتأقلم معها حلاً مؤقتًا على الأقل، وهو ما بدا واضحًا خلال أسبوع ميلانو الأخير لربيع وصيف 2017.
إلى جانب تغيب كل من «إيرمينغلدو زيغنا» و«روبرتو كافالي»، من برنامج الموسم الحالي بهدف إعادة ترتيب أوراقهما، اختارت بيوت أخرى أن تقدم عروضًا حميمة أمام باقة منتقاة من الضيوف، وبعيدًا عن الإبهار، مثل «إرمانو سيرفينو» و«بوتيغا فينيتا». في المقابل أصر آخرون على تنظيم عروض تقليدية، رغم افتقادهم مصممًا فنيًا مثل سالفاتوري فيراغامو وكانالي وتودز وكالفن كلاين على أساس أن الإبداع لا يعتمد على شخص واحد، وأن اسم الدار أكبر من أي مصمم مهما كان حجمه.
بالنسبة للذين لم يستغنوا عن عروض أزياء بالمعنى التقليدي، فإنهم لم يبخلوا عليها بالبهارات ولا بعناصر الإبهار التي تحتاجها لشد الانتباه، سواءً تعلق الأمر بالإخراج أو الأفكار. في عرض «دولتشي أند غابانا» مثلاً، تم تقديم تشكيلة غنية بالإيحاءات الصقلية على نغمات موسيقى جاز عزفتها فرقة «هوت ساردينز». هذا الخليط بين جمال التصاميم وقوة الألوان والموسيقى الحية أخذ الحضور تارة إلى طبيعة صقلية، مسقط رأس المصممين، وتارة أخرى إلى أجواء «نيو أورلينز» حيث ولدت موسيقى الجاز، لتكون النتيجة عرضًا مسرحيًا ممتعًا. بالنسبة للأزياء، ففي زحمة الألوان وصخب النقشات المستوحاة من الطبيعة أو المطرزة باليد، لم يغب الأبيض والأسود، حيث ظهرا في كثير من البدلات المفصلة ذات السترات المزدوجة، أو «التوكسيدو» إضافة إلى البنطلونات الضيقة. ظهرا أيضًا في «تي - شيرتات» وكنزات واسعة وبنطلونات بطيات. فهذه الأخيرة، أي البنطلونات، تنوعت قصاتها بين الضيقة والواسعة ذات الثنيات عند الخصر، لكنها تميزت في الغالب بطولها القصير.
الملاحظ أن الموسيقى كانت مهمة في عروض أخرى. فـ«دوناتيلا فيرساتشي» اختارت بدورها خلفية لعرضها موسيقى شدت الأنفاس كان المغني برينس قد ألفها خصيصًا لـ«فيرساتشي» قبل وفاته بـ5 أشهر، حسبما صرحت به. هنا لم يقتصر دور الموسيقى على خلق أجواء مُبهرة، بل طال أيضًا القصات، التي تميزت برشاقة، تعانق الجسم بحميمية، لتؤكد أنها تخاطب عشاق الموسيقى من الشباب أو موسيقيي الروك أند روك، خصوصًا أن اقتراحات دوناتيلا فيرساتشي شملت مجموعة تطبعها الكشاكش واللون البنفسجي، في إشارة إلى أغنية برينس الشهيرة «بيربل راين». لكن، وعلى ما يبدو، فإن المصممة تعلمت الدرس، وتعرف أنها لا يمكن أن تتكل على الفن وحده لتسويق منتجاتها، بل تحتاج إلى لغة عالمية يفهمها كل الرجال، لهذا لم تُقيد نفسها وقدمت مجموعة متنوعة للغاية يمكن لأي رجل أن يجد فيها شيئًا يروق له ويناسبه. الجميل فيها أيضًا، أنها منطلقة تتميز باتساع وانسدال في خطوطها، لأنها، كما قالت، صممتها ونصب أعينها رجل يعشق الترحال، وبالتالي يتوق لأزياء تريحه، وهكذا شملت، إلى جانب البدلات المفصلة، كنزات صوفية وأخرى من الحرير بعضها بأكمام وبعضها من دون. من اقتراحاتها لربيع وصيف 2017، أيضًا ارتداء القمصان على شكل قفاطين منسدلة أو معقودة حول الخصر، وكأنها تُمهد لفكرة أننا في الموسم المقبل سنرى تداخلاً بين الذكوري والأنثوي بشكل أكبر.
شركة «كانالي»، خسرت مصممها الفني أندريا بومبيليو، بعد عامين فقط من التحاقه بها، ومع ذلك لم يبد عليها أنها تأثرت بهذه الخسارة، لأن ما قدمته من قطع مفصلة كان بمثابة تعزيز لإرثها العريق في مجال التفصيل الرجالي. وهذا ما عبرت عنه إليزابيثا كانالي بقولها: «لا نريد أن نرتبط باسم شخص معين، لأن جينات الدار واسمها أكثر أهمية». وبالفعل فإن ما قدمته الشركة سيروق لشرائح واسعة، بمن فيهم الشباب الذي يريد أن يتذوق المنتجات المرفهة ويريد أن يلعب على الأنيق المضمون، لأن ما يُحسب للفريق الذي تولى تصميم هذه التشكيلة، أنه احترم رموز الدار، مع إدخاله تجديدات خفيفة أضفت عليها لمسات من شأنها أن تروق لكل الأذواق والأسواق. صحيح أن شريحة الشباب تُقبل بنهم أكبر على التصاميم «السبور» هذه الأيام، إلا أنها لا تستغني عن الكلاسيكي المطعم بالحداثي، لأنه ينجح دائمًا في أن يضفي عليهم التميز في المناسبات الخاصة.
لا يمكن الحديث عن أسبوع ميلانو الرجالي من دون الحديث عن مدرستين مختلفتين وفي الوقت ذاته لهما تأثير مباشر علينا، هما «غوتشي» و«برادا».
لربيع وصيف 2017، قدم أليساندرو ميشال، مصمم «غوتشي» تشكيلة مبنية على أسفاره الخيالية. فهو حسب اعترافه، لا يميل إلى السفر كثيرًا، وإن كان لا يستغنى عنه باعتباره مهمًا، ليس فقط للتعرف على ثقافات الغير، بل «أيضًا لتقدير المكان الذي تعيش فيه، فالابتعاد عن بيتك وما يمنحه لك من راحة، يجعلك تشتاق إليه بعد كل غياب». أليساندرو يزعم بأنه لم يسافر كثيرًا وهو طفل، وكانت علاقته بالأماكن البعيدة تدور حول شخصيات ديزني ودونالد داك وسكروج وتين تين وما شابهها، فضلاً على رحلات ماركو بولو وقصص المغامرات التي كانت تشد أنفاسه، مثل قصة «أليس في أرض العجائب»، الأمر الذي قد يفسر هوسه بأشكال الكائنات الحية التي تظهر دائمًا في تصاميمه، من الأسود والقردة والأفاعي إلى الأرانب والفراشات وغيرها. فهي تأخذه إلى ذلك العالم السحري الذي عاشه طفلاً، بين الكتب وأغنته عن السفر بعيدًا، وهذا ما يريد أن يمنحه للرجل.
يُعلق بأن فئة كبيرة من الناس باتت تعزف عن السفر حاليًا بسبب خوفهم من المجهول في ظل ما يجري حاليًا من أحداث دامية، «من هذا المنطلق أريد أن أمنحهم الإحساس بالراحة والحرية، وبأن العالم كله بيتهم». كل هذا ترجمه في أزياء تعطي الانطباع بأنها فعلاً للاستعمال في أوقات الراحة والفراغ والإجازات. يمكنهم مثلاً ارتداء «شباشب» في الشارع وبدلات مريحة كأنها «بيجاما» في مناسباتهم الخاصة، ومعاطف طويلة مستوحاة من الـ«روب دي شومبر». إلى جانب كل هذا، أضاف إلى موتيفاته المعروفة، مثل الأفاعي والفراشات وغيرها، رسائل مطرزة بالحب وأخرى مستقاة من الأساطير الإغريقية أو من حضارات قديمة، من دون أن ينسى شعاره الدائم بأن الكثير قليل، الأمر الذي يفسر سخاءه في استعمال الكشاكش والإكسسوارات المتنوعة حول العنق أو الجوانب. وإذا كان أليساندرو ميشال قد اكتسح ساحة الموضة منذ سنة تقريبًا، فإن ميوتشا برادا تبقى السنيورة التي لا يقدر أحد على أن يزعزعها عن مكانتها منذ عقود، وكل ما تقترحه يُؤخذ بجدية ويخضع إلى تحليلات فلسفية وثقافية. من بين اقتراحاتها لربيع وصيف 2017 أن يحمل الرجل كل أغراضه على ظهره ويجوب الأرض بحثًا عن عالم مثالي يعيش فيه بسلام. فمثل أليساندرو، تعرف جيدًا أن لقاء الحضارات الذي كان ينادي به الآباء، أصبح واقعًا صعبًا بالنظر إلى الأحداث المأساوية التي يشهدها العالم، لكنها ترفض أن تتقبل الوضع وتستكين له، بل تعمل على محاربته بالتفاؤل من خلال رسم صورة مثالية ومتحدية. هذه المرة، لم تُعبر عن هذا التحدي بإضفاء النعومة على الرجل فحسب، بل تصورته مغامرًا يعرف أنه، لكي يبقى ويستمر، عليه أن يجد طرقًا جديدة للتعامل مع محيطه، بغض النظر عن جنسه أو جنسيته أو لونه. هذا الجمع بين النعومة والقوة تجسد في عرض شاركت فيه عارضات بمجموعة نسائية وتصاميم تتحدى التابوهات التي تفرق بين الجنسين. وربما كانت هذه رسالتها بأنه لا فرق بين رجل أو امرأة ولا حدود بين الثقافات. فقد استعملت تطريزات إثنية مختلفة، كأنها تريد أن تؤكد ذلك الإحساس بالانتماء إلى العالم أجمع وليس لقبيلة واحدة. لكنها، بخبرتها وسنواتها الطويلة في هذا المجال، لم تنس أن عالم المنتجات المترفة، يعاني من أزمة حادة أثرت على المبيعات عمومًا، بما في ذلك أرباح «برادا»، لهذا عادت إلى تعويذتها، أو بالأحرى إلى الإكسسوارات، لا سيما حقيبة النايلون التي حققت نجاحًا كبيرًا منذ أكثر من 10 سنوات، وصاغتها على شكل حقيبة ظهر تعزز صورة الرجل سواءً كان مغامرًا أو شابًا يعمل في مجالات إبداعية، بل حتى في مجال المال والأعمال.
السفر كان أيضًا تيمة في عرض «سالفاتوري فيراغامو»، التي رغم افتقادها إلى مصمم فني، حيث استغنت عن ماسيمليانو جيورنيتي منذ بضعة أشهر، استطاعت أن تقدم تشكيلة برؤية تجارية واضحة وتقنيات عالية تستهدف رجلاً يتوق إلى الراحة والحرية في حياته كما في تنقلاته وأسفاره. هذه الحرية لم تقتصر على قصات البدلات المستوحاة من السفاري وغيرها من القطع المنفصلة التي تجمع الـ«سبور» بالرسمي، بل شملت الإكسسوارات أيضًا، مثل حقائب الظهر الجلدية ذات الأحجام المختلفة، التي ترمز للمغامرة، والأحذية الرياضية أو الصنادل المفتوحة. فكلها لا تفتقد للأناقة ويمكن أن تُكمل بدلة مفصلة وتخفف من رسميتها، وإن كان هذا لا يعني أن البدلات كانت رسمية بل العكس تمامًا، فقد اكتسبت روحًا رياضية تناسب الرجل العصري بكل تفصيلها وتفاصيلها.
أسبوع ميلانو لربيع وصيف 2017.. يواجه التغييرات بالموسيقى
ما بين حب السفر والخوف منه.. يبقى التحليق في الخيال أضمن
أسبوع ميلانو لربيع وصيف 2017.. يواجه التغييرات بالموسيقى
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة