لطالما كانت السجالات والمعارك الأدبية دليلا على حيوية الحياة الثقافية، سواء تلك التي كانت تدور رحاها في الصالونات الثقافية أو على صفحات المجلات والجرائد الثقافية، أما الآن فبين الحين والآخر تنشب السجالات على صفحات مواقع الشبكات الاجتماعية ولكن تتوارى خلف تلميحات مشخصنة... واختصرت المعارك في تراشق لفظي هنا وتلميح في وسائل الإعلام هناك، ولم يعد القارئ المستفيد الأكبر منها كما كان في السجالات التي نشبت بين الرافعي وكل من العقاد وزكي مبارك وطه حسين، أو بين محمد مندور ورشاد رشدي، ونجيب محفوظ ونزار قباني حول قصيدة «المهرولون»، أو بين نجيب محفوظ والعقاد حينما دافع محفوظ باستماتة عن فن القصة والراوية في مقابل مدح العقاد الشعر والدواوين.
ومن بين المعارك الكبرى التي عرفت في تاريخ الأدب العربي الحديث معركة قصيدة النثر التي خاضها الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي مع العقاد، فاستطلعنا رأيه حول اختفاء المعارك الأدبية. يقول الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي، رئيس بيت الشعر المصري، لـ«فضاءات»: «لا بد أن نعترف أن هناك خمولا شديدا في الحياة الثقافية عامة وتلك المعاناة ممتدة منذ فترة طويلة... وأرى أن تراجع الإنتاج الثقافي هو السبب الرئيسي لأنه بالضرورة يتبعه تراجع النقد وردود فعل القراء وبالتالي حالة الجمود التي نعايشها الآن. في الماضي كانت السجالات والمعارك الأدبية تنشب بسبب انتماءات النقاد إلى مدارس فكرية ما وتعصبهم لها، أما الآن فإن حالة الخمول تعود بالأساس لأوساط منتجي الثقافة وأيضا أوساط القراء».
ويعزي حجازي حالة الجمود الفكري هذه إلى صناعة النشر وتغاضي الناشرين عن القيمة في مقابل الربح، ويقول: «الأشنع من هذا وجود اهتمام الإعلام بأنصاف الموهبة» وهي الظاهرة التي يطلق عليها حجازي ظاهرة «الشويعر». ويوضح: «وإن كنت لا أعتقد بأن هناك شاعرا صغيرا أو غير موهوب فالشعر يستدعي وجود الموهبة الحقيقية، ولكن وجود مدعي الموهبة بكثرة تلك هي المعضلة الكبرى، لأن وجود هؤلاء يدعمه معارك سطحية يدعمها التفاف الإعلامين حول شخص معين بسبب المصالح، وبالتالي تكون المعارك مشخصنة ولا محاولات النقاد لفرض توجه معين يحول دون نشوب معارك أدبية لها جدوى». ويرى حجازي أن هناك عوامل تخلق مناخا صالحا لنشوب المعارك الأدبية وهي «تعدد الاتجاهات، وتعدد المواهب، ووجود جمهور يقرأ ونقاد يتسمون بالحيادية».
بينما يقول الشاعر المصري الشاب الشريف منجود، رئيس تحرير مجلة الخان الثقافية: «المعارك الأدبية علامة مميزة للحراك الأدبي في شتى الثقافات، من خلالها نستطيع أن نتابع تحولات الأدب من ناحية الشكل أو المضمون أو أسلوب التعبير عنها، فتصعد من ذلك اتجاهات فنية وتتعارك المذاهب الأدبية وتتشكل صحوة أدبية جديدة. هذا لن يحدث إذا لم يكن لدينا أديب على قدر كبير من الثقافة والمعرفة والاحتكاك، ومستقل». ويفسر منجود أسباب ظاهرة اختفاء المعارك بقوله: «نحن نشاهد بعضا من الأدب اليوم يسير على هيئة قطيع، إن جاز لنا التعبير، فإذا فازت رواية بجائزة أو صارت الأكثر مبيعا سترى بعدها عشرات الروايات التي تصاغ بالأسلوب نفسه والشكل والمضمون نفسهما لضمان نجاحها، أما معارك الشعر القديمة فلم تعد على بال أحد وصارت القصيدة مغتربة عن جمهورها ولا يعلم عنها شيء وبالتالي ليس هناك حراك بين المبدع المتلقي والذي من المفترض أن يؤدي أيضا إلى حراك أدبي. وأيضا حالة الصمت العامة بين بعض الأدباء فكل مبدع ينتظر مؤشر الأكثر مبيعا، أوالاحتفاء الإعلامي، أو الجوائز. ولم يعد هناك نفس قوي لممارسة العراك لأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية، وأصبحت هناك تربيطات وشللية بين الأدباء حتى يتبادلوا المصالح، فليست هناك قضية».
ويثير منجود نقطة مهمة وهي: «خلل منظومة الحراك الأدبي، وهي الظاهرة المرتبطة بسيطرة الجيل القديم على منابر النشر والمؤسسات الإبداعية؛ فما زال إلى اليوم جيل العجائز مسيطرا على المحافل الأدبية وبالتالي لن يحدث الحراك الناتج أساسا من تعاقب الأجيال ونقاشها الدائم، الذي كان موجودا بقوة في الستينات».
الروائية د. سهير المصادفة، رئيس تحرير سلسلة الجوائز التابعة للهيئة المصرية العامة للكتاب، تقول: «ترتبط المعارك الفكرية والثقافية الكبرى بمناخ تنويري حقيقي وسقف حرية مرتفع ومستوى تعليم راقي ومستوى ثقافي متطور ومواكب لأحدث منجزات المدارس الفكرية والفلسفية، وأخيرا نسبة قراءة لا يُستهان بها. لم يفرز الواقع الثقافي والأدبي والفكري هذه المعارك الكبرى منذ سنوات، بل تحولت جهود المثقفين الكبار إلى محاربة بعضهم بعضا، فأضحت كل المعارك الثقافية آنية وزائفة ومرتبطة بوقت الأزمات أو فض شجار أو سجالات شخصية».
وحول إمكانية عودة المعارك الثقافية الرصينة تقول: «أظن أن الواقع العربي لن يشهد مثل هذه المعارك الثقافية الكبرى قبل عودة التعليم إلى مجده، وقت كان مستوى الحاصل على البكالوريا القديمة أفضل من الحاصل على الدكتوراه الآن، أيضا عودة فكرة تجرد المثقف، وأخيرا محو أمية الشعب العربي التي أصبحت بالفعل عارا كبيرا».
ويقول الأديب منير عتيبة، رئيس تحرير سلسلة «كتابات جديدة» التي تصدر عن الهيئة العامة للكتاب: «قرأت عن المعارك الأدبية التي دارت في القرن العشرين، ووجدت أن بعضها كان متفقا عليه من قبل طه حسين ومحمد حسين هيكل وبعضها كان ناجما عن اختلاف المذاهب الفكرية والأدبية والسياسية وكانت تدور في مجتمع يحاول أن يتلمس هويته في إطار فكري وسياسي ليبرالي، فقد كانت معظم هذه المعارك محاولات للانتصار لمذهب ما ويرى كل طرف عبر هذا السجال أنه يخدم البلاد ويدفعها للتقدم». ويرى عتيبة أن «الحياة الثقافية المصرية لم تعد تفرز هذا النوع من المعارك وإن كانت لا تخلو منه ولكن بشكل مختلف، فلا يمكن أن نتصور مجتمعا إنسانيا دون خلافات ومعارك لكنها أخذت طابعا شخصيا ولا تستهدف القيم ذاتها التي قرأنا عنها في المعارك الأدبية القديمة. وهذا ليس في مجال الثقافة، فقط بل في مختلف المجالات».
وينتقد عتيبة إلقاء اللوم في اختفاء المعارك الأدبية على النقاد: «زيادة الإنتاج الأدبي ووجود كم كبير من مختلف الأجناس الأدبية أخل بقدرة النقاد على ملاحقته وبالتالي تأثر دورهم».
لكن الناقد الأدبي والشاعر سيد محمود، رئيس تحرير جريدة القاهرة الثقافية، يرى أن المعارك لم ولن تختفي وأن إيقاع العصر عليه عامل كبير في عدم إبراز أي منها أو إعطائها الفرصة لتختمر، ويعزي ذلك إلى «اختفاء المجلة الأدبية الرصينة التي تتيح المساحة لنشر بحث عن قضية فكرية ما أو فكرة تثير نقاشات عامة، فضلا عن أن هناك صراعا بين السلطة والجماعات الفكرية للسيطرة على المجال العام فحتى معارك مثل معركة (إسلام بحيري) حول تجديد الخطاب الديني أو معركة فاطمة ناعوت ما هي إلا معارك تمت جدولتها على جدول أعمال السلطة، فهي لا تصنف معارك فكرية».
ويشير محمود إلى معضلة غياب النصوص التي تطور السياسة الثقافية أو التي تطور معايير جائزة. «هناك خلل في الأداء في المنظومة الثقافية والفكرية سببها وسائل التواصل الاجتماعي بإيقاعها السريع الذي حول نمط المعارك من كونها تثير النقاش العام إلى مجرد تعليقات تدور في إطار الشخصنة».
ولا يتفق محمود مع الآراء السابقة بأن المعارك الأدبية في القرن العشرين كانت منزهة عن الشخصنة بل يؤكد: «هي ليست ذهبية كما يتصورها البعض بل بالعكس كانت تتضمن ألفاظا وهجاء شخصيا بل وتعبيرات نابية مثل ما كان بين الرافعي وطه حسين، حتى معركة عابد الجابري وجورج طرابيشي عن (بنية العقل العربي) فلم يفلت الجابري من فخ الشخصنة واتهم طرابيشي بأنه مسيحي». ويتفق الروائي إبراهيم عبد المجيد مع سيد محمود في نقاط كثيرة حول دور الدولة في اختفاء تلك المعارك مسلطا الضوء على عامل بالغ الأهمية وهو «انتهاء المعارك الفكرية التنويرية إلى ساحات المحاكم، ما بين قضايا الحسبة وازدراء الأديان، وهو ما يقطع طريق المساجلات الفكرية والأدبية» لافتا إلى اختفاء المعارك الفكرية الحقيقية منذ الثمانينات وتحولها إلى معارك للنيل من الأشخاص بعيدا عن فكرهم، قائلا: «توارت تلك المعارك من بعد عام 1954 حينما ظهرت الدولة المركزية وظهور وزارة الثقافة مما خلق ثقافة لا ينسجها المواطن العادي بل تنسجها مؤسسات، فضلا عن اختفاء الأفكار الكبرى لتطوير المجتمعات والحياة كما كان في عهد سلامة موسى، وتوفيق الحكيم وغيرهم، فكانت نوعية السجالات الدائرة حول الفن للفن أم الفن للمجتمع وكانت القضايا من هذا القبيل يشارك فيها المجتمع». ويضيف: «حضرت بعض معارك الستينات حول الكتابة الجديدة ولاشك أنها كانت فترة ثرية ساعدت كتاب ذلك الجيل في تكوين صوتهم الروائي وأنا منهم، أما الآن فكل المعارك تحاول النيل من الأشخاص وسبهم دون نقد لفكرهم أو أدبهم».
وبوجهة نظر مغايرة، يرى الشاعر شريف الشافعي، رئيس القسم الثقافي ببوابة الأهرام الإلكترونية، أن المعارك والسجالات الأدبية حاضرة في جميع البيئات والمناخات الثقافية، على امتداد الزمان والمكان، فهي لازمة من لوازم الكتابة، وشأن من شؤون التفاعل بين حملة الأقلام. ويقول: «ما يختلف، ربما، بين عصر وآخر، ومكان وغيره، طبيعة تلك المعارك والسجالات، ففي المناخات الثقافية الجادة والزاخمة تتمحور تلك المعارك حول قضايا جوهرية وأطروحات متعمقة، وتنصب حول ما هو موضوعي، وتنأى لغتها عن التراشق والإسفاف. والعكس في مناخات البلادة والتكاسل، إذ تدور حول أمور هامشية ومجالات ثانوية، وتنشغل بما هو ذاتي، وتمتلئ لغتها بمغالطات واتهامات بغير أسانيد، فضلاً عما قد يعتريها من بذاءات».
ويلفت الشافعي إلى أن هناك عوامل أخرى تؤثر على طبيعة تلك المعارك الأدبية، منها: «مثلاً سيولة وسهولة أوعية النشر في العصر الراهن، عصر الإنترنت، إذ احتلت (السرقات الأدبية) مجالاً واسع النطاق من مجالات اهتمام المعارك الأدبية، وهي معارك ذاتية وصغيرة أيضًا بطبيعة الحال. على جانب آخر، تنشغل وسائل الإعلام، أكثر ما تنشغل، بما هو لحظي، وانتفاعي، ومن ثم فالمعارك التي تحتل مكانًا أبرز من تكثيف الضوء حولها في الوقت الراهن، هي تلك المتعلقة بأمور براقة، كالجوائز الأدبية مثلاً، ومصادرات بعض الكتب، ومقاعد موظفي ولجان الكيانات الثقافية الكبرى كوزارات الثقافة وهيئاتها واتحادات الكتاب، والمشاركات في المهرجانات الدولية، وما نحو ذلك من خلافات تصدرها وسائل الإعلام بوصفها معارك الساحة».
ويلفت الشافعي إلى وجود معارك غير ظاهرة «مع ذلك، تبدو للمختص في المشهد الثقافي الراهن معارك ثقافية وفكرية من العيار الثقيل، الجاد، لكنها قد لا تأخذ مداها اللائق من البزوغ، لكونها لا تشغل العامة بقدر وقوعها في دائرة التخصص. منها، على سبيل المثال، السجال الدائر حول العلاقة بين (الثقافي) و(السياسي) (أدونيس نموذجًا)، والخلاف بين أبجديات النقد المشرقي والمغاربي في العالم العربي، وغيرها».
مثقفون مصريون: نعيش عصر المعارك السطحية
السجالات الفكرية والأدبية.. لماذا انحسرت في ثقافتنا المعاصرة؟ (2 من 2)
مثقفون مصريون: نعيش عصر المعارك السطحية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة