محمد أركون.. فتوحات معرفية لا تزال شبه مجهولة

زوجته اكتشفت على جهازه الإلكتروني مراجعة لكتابه عن القرآن في 500 صفحة

غلاف الكتاب الذي نشرته دار «ألبان ميشال» الشهيرة -  محمد أركون
غلاف الكتاب الذي نشرته دار «ألبان ميشال» الشهيرة - محمد أركون
TT

محمد أركون.. فتوحات معرفية لا تزال شبه مجهولة

غلاف الكتاب الذي نشرته دار «ألبان ميشال» الشهيرة -  محمد أركون
غلاف الكتاب الذي نشرته دار «ألبان ميشال» الشهيرة - محمد أركون

كان محمد أركون قد أصدر كتابه «قراءات في القرآن» مرتين في حياته: المرة الأولى في باريس عام 1982، والمرة الثانية في تونس عام 1991. والطبعة الثانية كانت نسخة طبق الأصل عن الأولى، ما عدا إضافة مقدمة جديدة مهمة. والآن، يصدر الكتاب للمرة الثالثة، بعد رحيل المؤلف، في طبعة ضخمة أكبر من السابق بكثير. وهذه الطبعة الفاخرة التي تتجاوز الخمسمائة صفحة من القطع الكبير، الصادرة عن دار نشر باريسية شهيرة «ألبان ميشال»، تعتبر جديدة بكل المقاييس. فقد اكتشفت زوجته السيدة ثريا اليعقوبي أركون على جهازه الإلكتروني كنزا ثمينا، ألا وهو مراجعة شاملة لكتاب «قراءات في القرآن». ويبدو أنه اشتغل عليه في أواخر حياته كثيرا ونقحه، وأضاف كثيرا إلى فصوله وعدل وصحح وغيَر وحسَن. بالإضافة إلى ذلك، فإن الكتاب يحتوي على أربعة فصول جديدة تنشر لأول مرة، وهي: الدين والمجتمع طبقا للمثال الإسلامي، والوحي.. التاريخ.. الحقيقة، ومن أجل إعادة قراءة نقدية أو ما بعد نقدية لسورة التوبة، والتركيبة المجازية للخطاب القرآني.
ومنذ البداية، يقول لنا الناشر جان موبوتا: إن محمد أركون أحد أكبر المفكرين في عصرنا الراهن فيما يخص الإسلام والدراسات الإسلامية، فقد قطع ليس فقط مع النزعة التبجيلية لكثيرين، وإنما مع النزعة المحافظة للاستشراق أيضا. لقد جدد المنهجية الاستشراقية، وتجاوزها بمراحل. ودعا إلى قراءة نقدية، أي علمية، لكل تراث الإسلام، وبالأخص القرآن الكريم. لقد كان محمد أركون مفكرا قاسيا مع نفسه، ومع الآخرين. بمعنى أنه لم يكن يتساهل أبدا عندما يتعلق الأمر بالبحث العلمي الرصين، وبكيفية تطبيق المنهج والمصطلح على تراث الإسلام الكبير. وكان يهدف إلى تجاوز القراءة الحرفية الدوغمائية المتحجرة والمدمرة لجوهر التراث الديني. وهي القراءة التي أوصلتنا إلى «داعش» والـ«دواعش». فالنص الديني لا يؤخذ دائما بحرفيته المرتبطة بظرفيتها، وإنما بجوهره ومقصده الأسمى ومعناه العميق. كان أركون يهدف إلى مصالحة الإسلام مع الحداثة والنزعة الإنسانية. وكان يبحث عن إسلام مؤنسن أو إنساني النزعة، إسلام متصالح مع أفضل ما أعطاه تراثه الروحاني والأخلاقي الكبير من جهة، ومع أفضل ما أعطته الحداثة التنويرية من جهة أخرى. ألم يهد أطروحة الدكتوراه الكبرى إلى والده وخاله قائلا: «إلى أبي وخالي الحاج العربي اللذين كشفا لي عن الأبعاد الروحية والإنسانية للإسلام»؟
وفي مقدمته للطبعة الثانية، أي الطبعة التونسية، يقول محمد أركون ما معناه: «هذا الكتاب الذي نشر للمرة الأولى عام 1982 كان قد نفد بسرعة. وقد ترددت كثيرا في إعادة نشره لأني كنت أفكر في تأليف كتاب جديد. ولكن تبين لي أنه يمثل مرحلة علمية ضرورية من أجل إضاءة النص القرآني والتراث الإسلامي العريق ككل. وكنت قد طبقت فيه لأول مرة المناهج الألسنية والسيميائية على النص الأعظم للإسلام.وكان ذلك في وقت مبكر يعتبر فيه مثل هذا العمل نوعا من (الهرطقة) بالنسبة للمتدينين التقليديين، بل وحتى بالنسبة لكثير من الباحثين المحدثين الذين نجد أنهم يظلون متحفظين ومترددين في تطبيق مناهج العلوم الإنسانية على النصوص الدينية.. وهذا شيء مؤسف لأنه لا يمكن أن نتحرر من العقلية الدوغمائية إن لم نفعل ذلك».
هذا الكلام قاله محمد أركون قبل ثلاثين سنة، بل وطبقه عمليا قبل خمسين سنة. وهذا يعني أنه استبق حركة الأحداث، وعرف أين تكمن المشكلة الكبرى بالنسبة للعالم الإسلامي. لقد هاله حجم الخدمة التي قدمها فلاسفة أوروبا لتراثهم المسيحي على مدار ثلاثة قرون من عمر الحداثة، في حين أن أحدا لم يفعل شيئا يذكر بالنسبة للتراث الإسلامي. ولهذا السبب شمر عن ساعديه وأراد خدمته بكل الوسائل المتاحة، أي عن طريق تطبيق المناهج الحديثة عليه. هنا، تكمن الخدمة الكبرى التي قدمها أكبر مجدد للفكر الديني في تاريخنا الحديث. ولكن متى سيفهم المثقفون العرب حجم الزلزال الذي أحدثه محمد أركون في دراسة التراث؟ في الواقع أن بعضهم أصبح يدرك ذلك. ولكن الفتوحات المعرفية التي حققها لا تزال مجهولة في معظمها بالنسبة لكثيرين. وربما كان السبب يعود جزئيا إلى صعوبة فكره ووعورته ومستواه العالي جدا من الناحية الأكاديمية. فهو مليء بالمصطلحات التقنية العويصة التي لا تستطيع أن تفهمها جيدا قبل أن تقرأ مكتبة كاملة في العلوم الإنسانية. من هنا، صعوبة ترجمته أيضًا حتى على شخص مثلي أمضى عمره في هذه العملية. على أي حال، أرجو أن انتهي من ترجمة هذا الكتاب الضخم في نهاية العام لكي يصدر مطلع العام القادم عن دار الساقي في بيروت. إنه كتاب يحتوي على فتح الفتوح، على آخر أفكاره وأطروحاته التي ستغير المشهد الفكري في العالم العربي والإسلامي كله.
ومن أهم فصول الكتاب نذكر: كيف نقرأ القرآن اليوم؟ أي كيف نقرؤه بعيون جديدة وبفكر تاريخي وألسني وسيميائي جديد؟ كيف نقرؤه إنتربولوجيا وفلسفيا أيضا؟ هناك فرق بين القراءة الطقوسية الشعائرية العذبة والقراءة النقدية والفلسفية الحديثة. يعرف ذلك كل من تربى تربية قرآنية في طفولته الأولى. نحن نتوهم أننا نعرف القرآن لمجرد أننا تلوناه آلاف المرات في حياتنا. ولكن هذا مجرد وهم سرعان ما يتبدد عندما نطلع على بحوث العلماء الكبار عنه. وعلى عكس ما يظن، فإن عظمة القرآن لا تتجلى لك بشكل حقيقي إلا بعد قراءة كتاب أركون. ذلك أن المجددين الكبار هم الذين يضيئون التراث، وليس المقلدين الذين يكررون نفس الكلام منذ مئات السنين. لن تعرف معنى القرآن الكريم حقيقة إلا بعد الاطلاع على فصول هذا الكتاب المتتالية. أتوقف عند فصل ضخم بعنوان: الحج في الفكر الإسلامي. هنا أيضًا لن تعرف معنى الحج حقيقة إلا بعد الاطلاع عليه. ذلك أن هناك فرقا شاسعا بين المنظور التقليدي له والمنظور التاريخي الحديث. وبعد أن تقرأ الفصل، تشعر وكأنك اكتشفت قارة جديدة، وفهمت الموضوع بشكل مدهش وغير مسبوق. ثم تقول بينك وبين نفسك: يا إلهي كيف خفي علينا كل ذلك؟ هنا تكمن أهمية البحوث العلمية الأكاديمية المطبقة على التراث. إنها تحررك من نفسك تقريبا. إنها تضيء لك ماضيك وتراثك، فتصبح تراهما بعيون جديدة. إنها تبين لك الفرق بين جوهر التراث وقشوره.والأخطر من ذلك، تبين لك أننا نتمسك بالقشور ونهمل الجوهر. وجوهر تراثنا العربي الإسلامي العظيم هو القيم الروحية والأخلاقية والميتافيزيقية العليا. وكل هذا نسيناه بسبب التسييس المفرط للدين. وأكبر جريمة ارتكبتها حركات التطرف الداعشي وغير الداعشي هي أنها قضت على جوهر الإسلام وطمسته، وشوهت سمعتنا في شتى أنحاء العالم، وهي جريمة لا تغتفر. وعلى أي حال فهذه مشكلة قد لا نقوم منها قبل خمسين سنة قادمة! ذلك أن تراثا عظيما ضخما، يشبه البحر المتلاطم الأمواج بتياراته المتشعبة وأفكاره، اختزلوه إلى مجرد قطع للرؤوس وتكفير للبشرية جمعاء. تراث مليء بقيم العقلانية والنزعة الإنسانية والتسامح والفتوحات المعرفية الكبرى حولوه إلى مجرد مقولات صدئة وتخريجات مضحكة وفتاوى فتاكة لنشر الرعب في شتى أنحاء المعمورة. هنا تكمن جناية هؤلاء على تراثنا الديني والفكري والأخلاقي الكبير. كيف سنسترد سمعتنا؟ كيف سنسترد هيبتنا عالميا بعد كل ما حصل؟ عن طريق قراءة كتب جادة مضيئة، مثل كتاب أركون، ثم عن طريق نشر الفكر التنويري الإسلامي في كل مكان، وبكل الوسائل المتاحة. ذلك أن المعركة الدائرة فكرية قبل أن تكون عسكرية أو سياسية، ويخطيء من يظن أننا ربحنا المعركة الفكرية ضد حركات الإسلام السياسي التي تكتسح الشارع. إنها معركة طويلة الأمد، وأكاد أقول إنها لما تكد تبدء. وعندما تطلعون على هذا الكتاب تعرفون معنى المعركة الفكرية التي تنتظرنا وحجم المعركة الفكرية. إنها هائلة وأكاد أقول: تقصم الظهر!
كنت أتمنى لو أستطيع التوقف عند الفصول الأخرى الهامة، وكلها هامة تكمل بعضها بعضا. ذلك أن أركون ما انفك يحفر على الإشكاليات، ويعمقها أكثر فأكثر على مدار خمسين سنة متواصلة. والدليل على ذلك هذا الكتاب الذي نقحه وأعاد كتابته حتى آخر لحظة في حياته. ذلك أن تحرير المسلمين فكريا كان شغله الشاغل. عليه ينام ويستيقظ.كنت أتمنى لو أستطيع التوقف عند فصل حاسم بعنوان: الوحي والحقيقة والتاريخ. هنا أيضًا، لن تخرجوا منه «سالمين» بعد قراءته. أقصد لن تخرجوا منه تراثيين ماضويين كما كنتم قبل قراءته، سوف ينكشف لكم تراثكم على حقيقته وكأنكم تطلعون عليه لأول مرة. وهنا تكمن ميزة البحوث الريادية التجديدية التي تغير العقليات والأفكار الأكثر رسوخا. ومعلوم أن زحزحة الجبال أسهل من تغيير العقليات، ولكن صاحب نقد العقل الإسلامي كان قادرا على زحزحة الجبال.
أخيرا ينبغي التنويه بالجهود الكبرى التي بذلتها زوجته السيدة ثريا اليعقوبي أركون، ليس فقط لإخراج هذا الكتاب الضخم بكل المقاييس، وإنما أيضًا للإبقاء على ذكراه حية من خلال المؤسسة التي أنشأتها بعد رحيله: مؤسسة محمد أركون للسلام بين الثقافات. وهي مؤسسة تقدم للقارئ مجانا مدخلا واسعا إلى فكر محمد أركون من خلال الأشرطة التسجيلية التي تظهره بالصوت والصورة وهو يتحدث في مداخلاته ومقابلاته الكثيرة.هذا وقد أشرفت أخيرا على توزيع جائزته السنوية في مجلس الشيوخ الفرنسي على أحد الباحثين في الفكر الإسلامي.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.