«نهضة» تونس و«إخوان» مصر» على المحك

مراجعات قوى «الإسلام السياسي» بين التطور والجمود

رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي يتابع المناقشات التي تدور في إطار مؤتمر الحركة أمس في مدينة الحمامات (أ.ف.ب)
رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي يتابع المناقشات التي تدور في إطار مؤتمر الحركة أمس في مدينة الحمامات (أ.ف.ب)
TT

«نهضة» تونس و«إخوان» مصر» على المحك

رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي يتابع المناقشات التي تدور في إطار مؤتمر الحركة أمس في مدينة الحمامات (أ.ف.ب)
رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي يتابع المناقشات التي تدور في إطار مؤتمر الحركة أمس في مدينة الحمامات (أ.ف.ب)

عقد حزب «حركة النهضة» في تونس أخيرا مؤتمره العاشر في مدينة تونس العاصمة، وشهد المؤتمر جملة من الطروحات والمواقف اللافتة في مسيرة الحركة التي تولت عمليا الحكم في أعقاب ثورة 2011، لكنها أبدت مرونة وواقعية، سواء إبان توليها الحكم أو عودتها إلى صفوف المعارضة. وكذلك شهد المؤتمر فوز زعيم الحركة المؤسس برئاستها، حاصلا على غالبية أصوات المؤتمرين (800 صوت)، إلا أن الجانب الأبرز كان ممارسة الحركة نقدا ذاتيا شجاعا، بعد تقييم تجربتها قبل الماضية قبل الثورة التي أطاحت بحكم زين العابدين بن علي وبعدها، عبر حوار شامل استغرق نحو سنتين، وأفرز رؤية جديدة، تشمل ضمن ما تشمله فصل الجانب الدعوي عن الجانب السياسي.

تعاني حركة «الإخوان المسلمون»، الحركة الأم لسائر حركات الإسلام السياسي في مصر، تصلبا وجمودا يكاد يقصمها ويقسمها، بين تياري «الصقور» و«الحمائم»، وبين الشيوخ والشباب، وبين العنف والسلمية، وبين تنظيمها المركزي وفروعها، التي تحمله دون أن يحملها، حتى بات يصح على الجماعة المصرية الأم وصف بعضهم لها بأنها «غدت كالإسفنجة التي تمتص المياه والحياة من الآخرين».
ورغم التأثير والتأثر، فإنه من الخطأ حسبان سائر حركات الإسلام السياسي عليها، فبعضها انفصل عنها مبكرا شأن الراحل الدكتور حسن الترابي وحركته في السودان، أو نشأ منفصلا عنها أساسا شأن «التوحيد والإصلاح» المغربية أو «حركة النهضة» التونسية.
وبينما لا يزال خطاب «النهضة» وأدبياتها، حيين ومتجددين في إطار التاريخ، لم تستطع جماعة «الإخوان المسلمون» – رغم توالي ثمانية مرشدين على رأسها – تجديد أدبياتها التأسيسية وخطابها السياسي، وظلت منحبسة في تراث المؤسس حسن البنا منذ وفاته عام 1949. والمؤسس الثاني – الأكثر تأثيرا في قيادتها – سيد قطب منذ إعدامه عام 1965، واستمرت الجماعة ذات قدرة مدهشة على نفي وإقصاء أي محاولة للتجديد خارجها، أو على الأقل خارج تنظيمها.
كذلك غلب على مرشدي «الإخوان» وقادتهم التخصصات غير الشرعية وغير الفكرية – باستثناء المؤسس وسيد قطب صاحب التأسيس الثاني لها – بينما امتلك أغلبهم الموهبة الحركية والتنظيمية فقط، المهددة الآن مع تصاعد الخلافات الداخلية بين أجنحتها التي تصاعدت أوائل هذا العام، في بيانات متعارضة، واتهامات متبادلة بين قيادات الداخل والخارج.
كذلك يمتلك «الإخوان» هوية منتفخة لا تؤمن بالاستفادة من غيرهم؛ ذلك أنهم حين خاطبهم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان طارحا اعتناق مبدأ فصل الديني عن السياسي (العلمانية) إبان زيارته مصر في أغسطس (آب) 2011، ردت عليه قيادات الجماعة بأنها لا تتعلم من أحد، ولا تحتاج إلى نصائح أحد. وفي المقابل، صرح زعيم «حركة النهضة» راشد الغنوشي (74 سنة)، صاحب التجربة الطويلة في المنفى الأوروبي، بإعجابه بالأنظمة المدنية التي تفصل بين المجالين، وكتب ذلك مرارا، وبخاصة، في كتابه «الحريات العامة في الإسلام».
من هنا تبدو «النهضة» أقرب إلى النموذج التركي بشكل واضح، بينما ظل «الإخوان» في مصر أقرب إلى النموذج الإيراني وآيديولوجيته، في كون «المرشد» هو «الولي الفقيه» وصاحب «البيعة» وصاحب الصلاحيات التي تحكم الرئيس والنظام معه. ولذا؛ كان رفضهم المستميت لـ«وثيقة المبادئ الأساسية للدستور» عام 2012، وولوغهم في الأزمة الدستورية وإقصاء ممثلي الكنائس الثلاث ومختلف القوى المدنية، وهي الأزمة التي تصاعدت في نوفمبر (تشرين الثاني) إلى أن مهدت لسقوطهم المدوّي في يونيو (حزيران) ويوليو (تموز) من العام نفسه. وعليه، لم يكن مدهشا حين استعان الرئيس المعزول محمد مرسي بمستشارة له كانت أطروحتها تحديدا حول هذا النموذج، وكيف ابتلعت «ولاية الفقيه» الثورة دون كل مشاركيها من الاتجاهات المدنية والسياسية الأخرى.
كذلك يصر «الإخوان» على رفض فكرة الاعتذار أو التصحيح – جزئيا أو كليا – ونقل عن مرشد الجماعة الثاني الراحل الأستاذ حسن الهضيبي قوله: إن «الإخوان لا يعتذرون» مهما كانت الأخطاء، على العكس من شجاعة «النهضة» التي تأكدت في المؤتمر الأخير بغض النظر عن بواعثها أو مآلاتها.
من هنا يبدو الوعي التاريخي مكينا في مسار وتاريخ «حركة النهضة» التونسية منذ تأسيسها عام 1972 مرورا بإعلانها الرسمي سنة 1981، وهي تؤكد أنها من أكثر الحركات الإسلامية وعيا بالسياق التاريخي والسياسي وتحولاتهما. ويمكن رصد معالم دالة على ذلك منذ وقت مبكر، منذ تحولت من هويتها الأولى «الاتجاه الإسلامي» إلى «النهضة» عام 1989... حتى الوصول لتدشين مرحلة جديدة في مؤتمرها العاشر الذي نظمته أخيرا. كذلك، يظل يحسب لها إحجامها عن الانخراط في أعمال عنف ضد نظام زين العابدين بن علي.. قبل الثورة، أو انجرارهم إليها بعدها. وهو ما مهّد لنجاحها في الخروج «الناعم» من السلطة بعد تزايد الاعتراضات والمظاهرات بعد انتهاء آخر أعمال حكومة علي العريّض في 29 يناير (كانون الثاني) 2014، ثم انتهاء أعمال المجلس التأسيسي في 2 ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، وصولا إلى نموذج «العيش التونسي» الذي شاهدناه في المؤتمر الأخير عناقا بين الرئيس الباجي القائد السبسي وزعيم «النهضة» الغنوشي الذي جدد انتخابه في المؤتمر الأخير بأغلبية ساحقة هذا العام بعد تصويت 1200 من المؤتمرين فيه.
من ثم، يمكن القول: إنه على الرغم من سقوط حكم «الإخوان» في مصر وخروج الجماعة القسري من السلطة عام 2013، فإن خطابها ما زال عاجزا عن المفاصلة والقطيعة مع خطابات الجماعات الإرهابية العنيفة والمتشددة، بل لقد راهن عليه وعلى استنزاف الدولة، كما صرح عدد من قادتها وحلفائها أكثر من مرة. نجحوا في شراء العداء وتأبيده ليس فقط مع النظام والدولة، بل أيضا مع نخب وقوى مدنية طالما تحالفت مع الجماعة أو دافعت عنها. ومع صعود عمليات الإرهاب والعنف في مصر، تصدر بيانات في اتجاه ذرائعي وحيد لتحميل النظام الحالي الحاكم بعد 3 يوليو كل المسؤولية عن كل ما يحدث، دون براءة أو تخطئة لأي من جماعات العنف النشطة، بما فيها عمليات فرع «داعش» النشط «تنظيم بيت المقدس» أو جماعة «المرابطون» في سيناء ضد العسكريين والأمنيين.. حتى صارت عملياته داخل العاصمة القاهرة وعدد من المحافظات، التي يقع ضحاياها من المدنيين، فزاعة لآخريها ومبرّرا الدولة والنظام الذي تعارضه في الآن نفسه.
وفي حين رحبت حركة «النهضة» بمبادرة «لجنة الحوار الرباعي» و«حوار القوى المدنية» عام 2013، رفضت جماعة «الإخوان»، وما زالت ترفض، مختلف المبادرات التي تطرح للمصالحة، سواء من شخصيات محايدة، أو أقرب إليها أو أقرب للنظام ومعارضتها. ورغم مراهنتها على الأزمات الاقتصادية والسياسية في مصر ما زال خطابها مع المعارضة المدنية – فضلا عن النظام – خطابا تهكميا واتهاميا لا يستطيع الوصول للمناطق المشتركة.
ربما من الضروري قراءة مخرجات مؤتمر «النهضة» الأخير، بعيدا عن الإرث الثقيل لتجربة الحركة في الحكم بين عامي 2011 و2014. أو قراءتها عبر ازدواجية خطاب بين ما توجهه للخارج، أو ما توجهه للداخل على لسان زعيمها المؤسس راشد الغنوشي، أو اعتبارها «تراجعات» لا «مراجعات» من الحركة الإسلامية المغاربية الأشهر عربيا. ولكن في ضوء مقارنتها بحالة جماعة «الإخوان» في مصر مثلا، رغم اختلاف المرجعيات والتطور، والمواقف الشبيهة، نجد أنها حركة أصرت على «نموذج العيش التونسي» واستمرت معها مكاسب ثورتها الديمقراطية، بينما مهدت الأخرى – أي «الإخوان» – لصدام لا يتوقف مع المعارضة المدنية ومع النظام الحاكم بعدها.
من الفوارق الكبيرة أيضا أنه كانت لدى الشيخ الغنوشي، زعيم «النهضة» ورئيسها، الشجاعة الكاملة لأن يعلن الاعتذار عن أي أخطاء حدثت أثناء تجربة الحكم أو قبلها، بل شجاعة أن يترحّم على بعض أبرز معارضيه، مثل الشهيدين المعارضين شكري بلعيد ومحمد البراهمي اللذين اغتيلا أثناءها، أما «الإخوان» فمفاصلتهم مع الجميع كانت أثناء الحكم واضحة واستمرت بعده بشكل أكثر وضوحا.
لقد أكد الغنوشي في كلمته الافتتاحية لمؤتمر «حركة النهضة» العاشر هذا الحرص على الاعتذار عن الخطأ حين قال: «إننا جادون، في النهضة، في الاستفادة من أخطائنا قبل الثورة وبعدها، نعترف بها، نحن حركة تتطور ولا تستنكف من أن تسجل على نفسها أخطاء» من دون ذكر هذه «الأخطاء». وتابع: «إننا حريصون على النأي بالدين عن المعارك السياسية٬ وندعو إلى التحييد الكامل للمساجد عن خصومات السياسة وعن التوظيف الحزبي٬ حتى تكون المساجد مجمعة لا مفرّقة. وفي الوقت نفسه نستغرب إصرار البعض على إقصاء الدين من الحياة العامة».
هذا هو المنطق الذي تفتقر إليه جماعة «الإخوان المسلمون»، الحركة الأم للإسلام السياسي، بشكل شبه كامل، فيعادي التطور عندها بقاء تقديس لأدبياتها الأولى التي كتبت قبل نيف وثمانين سنة منذ تأسيسها الأول على يد حسن البنا، أو تأسيسها الثاني على يد سيد قطب. كما يعادي تطورها سيطرة «التنظيميين» – أو «الصقور» – على تنظيمها وهياكلها بشكل شبه كامل، ويلفظ أي محاولة تجدد أو تجديد خارجها، منذ أزمتها الأولى عام 1954، بعد بضع سنوات من اغتيال مؤسسها عام 1949، إلى أزمتها الأخيرة وخروجها من الحكم في 3 يوليو 2013.
وهذا ما أكد عليه الغنوشي خلال مؤتمر حركته، واصفا الحركة بأنها «تكرس بذلك التمايز الواضح بين المسلمين الديمقراطيين الذين هم نحن وبين تيارات التشدّد والعنف التي تنسب نفسها ظلما وزورا إلى الإسلام». وأردف «إن التخصص الوظيفي بين السياسي وبقية المجالات المجتمعية، ليس قرارا مسقطا أو رضوخا لإكراهات ظرفية٬ بل تتويج لمسار تاريخي». وأكد الغنوشي هذا الوعي التاريخي الذي تتمتع به الحركة «من السبعينات إلى اليوم، من حركة عقدية تخوض معركة من أجل الهوية عندما كانت الهوية مهددة، إلى حركة احتجاجية شاملة تدعو إلى الديمقراطية في مواجهة نظام شمولي، إلى حزب ديمقراطي وطني مسلم متفرغ للعمل السياسي بمرجعية وطنية تنهل من قيم الإسلام، ملتزمة بمقتضيات الدستور وروح العصر».
كذلك جاء البيان الختامي لمؤتمر حركة «النهضة» مؤكدا هذا الوعي بأهمية التطوّر، والمفاصلة بينها وبين حركات التشدد العنيف الأخرى، حين ذكر أن حزبها السياسي (حزب «حركة النهضة») «تجاوز عمليا كل المبررات التي تجعل البعض يعدّه جزءا مما يسمى الإسلام السياسي». ومشددا على أن هذه التسمية الشائعة «لا تعبّر عن حقيقة هويته الراهنة، ولا تعكس مضمون المشروع المستقبلي الذي يحمله»، وفق ما صرح به رضا إدريس، النائب الأول لرئيس المؤتمر. ومن ثم أوضح إدريس أن الحركة «تعتبر أن عملها يندرج ضمن اجتهاد يعمل على تكوين تيار واسع من المسلمين الديمقراطيين الذين يرفضون التعارض بين قيم الإسلام وقيم المعاصرة».
إن نتائج المؤتمر العاشر لحركة «لنهضة» تعبر عن تطور فكري ووعي تاريخي واضح، أكثر من كونه مراجعة. وهو تأكيد على منطق «المدنية» للحركة والتنظيم، وبراءة غير معلنة من خطابات بعض ممثليها في السابق عن الخلافة الثالثة عام 2013، أو التقاربات التي تمت بينها وبين بعض المتشددين أثناء فترة حكمها. أو قل هي في أحسن الأحوال انتصار للاتجاه المعتدل على الاتجاه المحافظ في صفوفها، كما تمخض عن استقرار لبنيتها التنظيمية، ببقاء الغنوشي وتفويض مجلس شوراها إليه.
ولكن يبقى القول: إن هذا التطور الأخير لحركة «النهضة» في تونس، مسبوق عربيا بتجربة حركة «التوحيد والإصلاح» المغربية، وبالتالي حزبها «العدالة والتنمية»، التي أقرت وفصلت مبكرا – وبشكل واضح – بين الحركة الدعوية والحزب السياسي بشكل واسع، قبل سنوات. وحقا، سعى «العدالة والتنمية» لوضع تصور واسع لهويته ومرجعيته في اتساعها المدني والديمقراطي والإنساني، بعيدا عن تحفظات البعض - هنا أو هناك - على تحفظات حكومته الحالية برئاسة عبد الإله بن كيران، وما سوى ذلك ظل نظريا سواء عند جماعة «الإخوان» نفسها أو عند حزب النور في مصر.



«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
TT

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)

ارتبط مسمى «حزب الله» بنوعين؛ أعلام صفراء في لبنان، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله، لبنان، لكن النوع العقائدي الأكبر خطورة يسير في دماء العراق، حزب هو بذات الاسم، عقائديون أكبر أثراً في سفك الدماء، حيث يرعون الأمر أكبر من مجرد حزب أصفر له الضاحية الجنوبية في لبنان؛ مسكن ومقر ومشيعون.
بين دجلة والفرات، حزب يسمى كتائب «حزب الله العراق»، له أكثر من 13 عاماً وهو في تشكيله الحالي، ليس بالهين عوضاً عن ميليشيات «الحشد الشعبي» التي أخذت كل الوهج الإعلامي كونها مرتبطة بنظام إيران، لكن «حزب الله العراق» وكتائبه تمر في أزقة السواد وبأخطر من دور ميداني تمارسه «الحشد الشعبي»، لأن العقائدية ونشرها أشد خطورة من ميدان يتقهقر فيه الأضعف، نظراً للضربات الآمنة التي يقودها الحلفاء أولو القوة من غرب الأرض لوقف تمدد النزيف، دائماً ما يكون مصنع الوباء يمر بحزب الله العراق.

قبل أشهر، كان الحزب تعرض لواحدة من أعنف الغارات على مواقعه، بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة التاجي في العراق، وقتل فيها جنديين أميركيين وبريطانياً، وجاء الرد خلال ساعات قليلة بفعل غارات أميركية - بريطانية مشتركة، ضد منشآت لميليشيات حزب الله العراقي في محافظتي بابل وواسط ومنطقة سورية محاذية للحدود العراقية.
نظرة سريعة على حزب الله العراق، من التاريخ، كان عماد مغنية (قتل في 2008 بغارة إسرائيلية في دمشق) الإرهابي اللبناني التابع لإيران، وحزب الله لبنان، كان أحد صنّاع هيكل هذا الحزب في العراق، حيث بدأ في العمل وفقاً لتوجيهات وأوامر نظام الملالي في تكوين حزب يشبه حزب الله اللبناني، وهو ما يبدو أن الأوامر جاءته في تجويد هذا الحزب ليكون بذراعين: عسكرية وعقائدية، ويبدو أن مغنية تجاوز أخطاء عديدة في تشكيل ووهج حزبه اللبناني، فصنع بهدوء هيكلة مختلفة للحزب، جعلت كل المساجد والحسينيات وقوداً يضخ فيها البذور التي يرغبها أولو العمائم.
ظهر الحزب بحضوره الأول بقوام تجاوز 4 آلاف شخص، منتمين بعضويات عدة داخله، وتنامى العدد حتى قبل تصنيف الولايات المتحدة له كـ«تنظيم إرهابي»، لكنه جعل دوره التسويقي للحشد والتنظيم أكبر من مجرد عسكرة، بل فكرة أكثر ارتباطاً في نشر آيديولوجيا عبر مواقع عدة، ومنها تفريخ عناصر في قطاعات مهمة داخل العراق؛ منها وزارة التعليم ووضع لبنات التعاون مع أحزاب دينية؛ منها «الحزب الإسلامي» الذي يتغذى بمنهج الإخوان المسلمين.
ربما ما يدور أن الحزب هو جزء في تكوين «الحشد الشعبي» لكن ذلك يمر بتقاطعات، حيث يشير عبد القادر ماهين، المتخصص في شؤون التنظيمات الإرهابية، إلى أن الحزب يظهر كونها جزءاً من تكوين الحشد، لكنه جزء يصنع الكعكة الميليشياوية ويشارك في تسميمها ويعمل على توزيعها في المناطق المجاورة.
يشير ماهين في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إلى أنه لا أمين عاماً للحزب أسوة بحزب الله اللبناني، حيث يظهر فيه حسن نصر الله، مبرراً ذلك أن الفرق بين تكوين الحزبين هو الحاجة والدور، حيث يتمركز في جنوب العراق بعتاد عسكري، له هدف في وضع حضور طاغٍ يحاول تفخيخ الحدود، لأن الهدف يرتبط مع إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة، ولا يظهر له الأثر السياسي كممثلين له كما هو الحزب اللبناني ليكون أثره في تشكيل الحكومات والبرلمانات.

إذن ما الدور الذي يلعبه الحزب؟

الحزب كما يرى ماهين، أنه ذو دور عسكري في الأصل، لكن الترتيبات ما بعد 2009 جعلته أكثر قدرة في تكوين فريق احتياط عسكري ليس أكثر وفق الحاجة، يدعم التوجهات والسياسات الإيرانية، لكن ما أخل بتلك القاعدة مشاركته المباشرة في دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأصبح أكثر من 4 أو 5 آلاف جندي مشاركين في السيطرة على مدن سورية تحت إمرة إيران في سوريا التي تتشكل من 4 فصائل مسلحة.
الحزب ليس عسكرياً فقط؛ كان ولا يزال صاحب دور في الترويج العقائدي، وتصوير الحضور الإيراني بشكل إيجابي مزعوم، إضافة إلى عمله الاقتصادي، حيث يدخل عناصره الكبرى في مفاصل مهمة في الاقتصاد العراقي، من شركات اتصالات وشركات نفطية، وأخرى ذات علاقة بقطاع الطيران، وإدارة المطارات والمنافذ، وبعض الأشخاص أبرزهم هادي العامري الذي كان صاحب صولات وجولات حين حمل حقيبة وزارة النقل العراقية في وقت سابق، وكان أبرز مهددي الاستمرار الكويتي في بناء ميناء مبارك الكبير، حيث هددت كتائب الحزب الشركات من الاستمرار بالعمل، وحينها ظهر العامري بأن ذلك المشروع «يغلق القناة الملاحية لموانئ العراق».
مرحلة مختلفة ظهرت، حين عاودت الآلة العسكرية الحزبية لكتائب حزب الله العراق، بالعمل من خلف الصفوف، حيث كانت أبرز مهددي السفارات وأكثر ملغمي مسارات الحلول السياسية، بل ومن رمى بقادة العراق اليوم في تحدي أن يرضخوا أمام شعب بدأ في كراهية الحضور الإيراني، وكان الحزب أبرز علامات استهداف المتظاهرين في العراق في كل البلاد، بغية كسر حدة السيوف الشعبية لتصبح مجرد مقبض دون رأس حربة كي يحافظ الحزب على الوجود الإيراني، خصوصاً أنه أبرز متلقٍ للأموال من نظام إيران وأكثرها غناءً.
الدور الاقتصادي لكتائب حزب الله العراق أصبح أكثر وضوحاً، حيث كان أكبر المنتفعين في عام 2015، من «الفدية القطرية» التي وصلت إلى أكثر من مليار دولار، مقابل إطلاق سراح قطريين كانوا يقضون وقتهم في الصيد جنوب العراق، ورغم أن الأنباء قالت إن الخاطفين لعدد من أبناء الأسرة الحاكمة القطرية ومعاونيهم الذي بلغ 28 شخصاً، كانوا من تنظيم «داعش»، لكن التقارير المسربة لاحقاً في بدايات 2016 حيث جرى تخليصهم وعودتهم إلى قطر، كانوا يتبعون لكتائب حزب الله العراق، وهو ما ينافي الرواية الرسمية القطرية التي تقول إنها دفعت المبلغ للحكومة العراقية.
الدور المستقبلي لن ينفك عن منهجية تتقاطع مع حزب الله اللبناني، حيث لدى الحزب اليوم الرؤى ذاتها، خصوصاً في اعتماد سياسة «افتعال الأزمات»، كي لا ينكسر الحضور الإيراني ونفوذه في المؤسسات الدينية وبعض السياسية، التي يجد فيها بعضاً من رجاله الذين يقبعون في سياسة تخفيف الضغط على النظام السياسي ومحاصصته التي تستفيد منها ميليشيات إيران في العراق، وما بعد مقتل قاسم سليماني، غربلة يعيشها الحزب الذي يجرب يوماً بعد آخر أسلوب التقدم خطوة بخطوة، مستفيداً من تكتيك الفأر في نشر طاعون على أرض هي الأهم لإيران.