أزمة الرئاسة في البرازيل تهز «يسار» أميركا الجنوبية

إبعاد ديلما روسيف جعل التيار اليساري يخسر أنبوبًا للأكسجين كان يمتد إلى مختلف أنحاء القارة

الرئيس الأرجنتيني ماكري أمام مناصريه
الرئيس الأرجنتيني ماكري أمام مناصريه
TT

أزمة الرئاسة في البرازيل تهز «يسار» أميركا الجنوبية

الرئيس الأرجنتيني ماكري أمام مناصريه
الرئيس الأرجنتيني ماكري أمام مناصريه

أوقف تصويت في مجلس الشيوخ البرازيلي الرئيسة اليسارية ديلما روسيف عن ممارسة مهامها، وأسند بالتالي منصب الرئاسة بالوكالة إلى نائبها السياسي الوسطي ميشال تامر، الذي تتهمه روسيف (68 سنة) بـ«الضلوع في مؤامرة» ضدها. وكان المجلس قد اتخذ القرار بحق روسيف عن ممارسة مهامها تمهيدًا لمحاكمتها بشأن مزاعم بارتكاب مخالفات في الميزانية. لكن الرئيسة، المُبعَدة عن منصبها، التي تعهدت بمحاربة ما وصفته بـ«الظلم» بكل السبل القانونية، تنفي هذه التهم.
إزاحة روسيف، ابنة المهاجر البلغاري، عن رئاسة أكبر دولة لاتينية في العالم، جاءت مؤشرًا على تراجع نسبي ملحوظ للموجة اليسارية التي اشتدت على مستوى معظم دول أميركا اللاتينية عبر صناديق الاقتراع في أعقاب انتهاء «الحرب الباردة»، وهو ما أسقط فعليًا ذرائع الانقلابات العسكرية. ومنذ ذلك الحين ثبّت اليسار أقدامه ورسّخ حضوره على حساب اليمين على امتداد القارة باستثناء دولتين فقط، هما كولومبيا وباراغواي. في حين نجح حتى الماركسيون، وليس فقط الاشتراكيون المعتدلون، في بلوغ قصور الحكم في بعض الدول، ومنها فنزويلا وبوليفيا وغيانا وأوروغواي.
يبدو أن أزمة الرئاسة في البرازيل تلقّن اليسار في دول أميركا الجنوبية درسًا مؤلمًا بعد سنوات من ازدهار اليسار اللاتيني على حساب قوى اليمين والوسط، وها هي القوى الوسطية واليمينية – ولو بوجهها الديمقراطي غير العسكري – يعود من جديد إلى المشهد السياسي في القارة، تعود من جديد لتغير المشهد السياسي في المنطقة ومعه خريطتها الجيو - سياسية.
بعد «إقالة» الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف من منصبها الرئاسي مؤقتًا، لا شك أن اليسار في أميركا الجنوبية خسر أنبوبًا للأكسجين كان يمتد إلى مختلف أنحاء القارة من شمالها إلى جنوبها. وكانت البرازيل – وهي الدولة الأكبر، كما أنها الوحيدة الناطقة باللغة البرتغالية، في القارة – قد جسّدت إنجاز اليسار في أعقاب عقود من حكم اليمين والديكتاتوريات العسكرية، إثر وصول الرئيس السابق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الشهير بـ«لولا» إلى سدة الحكم ونجاح برنامجه الرئاسي في اجتثاث الفقر من البلاد، وقدرته على انتشال أكثر من ثلاثين مليون مواطن من تحت خط الفقر وتصعيدهم إلى الطبقة المتوسطة. منجزات لولا الشخصية النقابية اليسارية ومؤسس حزب العمال صاحب «الكاريزما» الشعبية الكبيرة، كانت دليلاً قاطعًا على قدرة اليسار أولاً على الوصول إلى السلطة بوسائل ديمقراطية، وثانيًا تمكنه من بناء تحالفات عريضة تتيح له الوقت الكافي لتنفيذ سياساته ومحاسبته عليها.
ومن ثم بعد إكمال لولا (70 سنة) ولايته الرئاسية الثانية، رشح حليفته الوزيرة الاشتراكية لخلافته، ونجحت عبر التحالف مع قوى يسارية ووسطية من الفوز بمنصب الرئاسة عام 2011. والمؤكد أن دعم لولا وتزكيته لها كانا عنصرًا حاسمًا في فوزها.
اليوم يشكل تصويت مجلس الشيوخ البرازيلي بوقف الرئيسة عن ممارسة مهامها، واتهامها نائبها ميشال تامر (الرئيس الحالي بالوكالة) بـ«التآمر» عليها تغيرين مهمين في المشهد السياسي البرازيلي: الأول، هزيمة رئيسة تعد وريثة لتركة اليسار، والثاني انهيار التوافق التحالفي العريض بين اليسار والوسط الذي سهّل انتخابها، مما يقلب الأمور بشكل دراماتيكي.

ظاهرة قارية

أهمية ظاهرة «لولا»، في واقع الأمر تنبع من كونها أكثر من مجرد «ظاهرة برازيلية»، بل ظاهرة قارية تتجسد بتعميم نموذج اليسار الآتي إلى قصور الحكم عن طريق صناديق الاقتراع على امتداد أميركا الجنوبية. فبعدما انتخب «لولا» ونجح في تطبيق برنامجه، أدرك الرئيس اليساري أهمية التأسيس لمرحلة من سيأتي بعده، وبالتالي، مواصلة المسيرة داخل البرازيل، وتحصينها عبر تعميمها في الدول المجاورة في أميركا الجنوبية، ثم عموم أميركا اللاتينية بما فيها أميركا الوسطى وجزر الكاريبي.
وحقًا، انطلق ونشط التعميم، وخطت قيادات في القارة على خطى التأسيس لتركة اليسار. فقام الرئيس الفنزويلي السابق الراحل هوغو شافيز باعتماد سياسات اشتراكية صريحة تقوم على بناء شبكة أمان للطبقات الفقيرة عندما كانت أسعار النفط في قمتها، مما ساعد على إنجاح برامجه في وجه معارضة الطبقات الغنية المنخرطة في أحزاب اليمين التقليدية. وبعدما اطمأن إلى التركة اختار «تلميذه» ومساعده نيكولاس مادورو ليخلفه في منصب الرئاسة.
وبنسبة أقل راديكالية، تكرر النموذج كذلك في الأرجنتين، حيث خلفت السياسية اليسارية المعتدلة كريستينا فيرنانديز دي كيرشنر زوجها الرئيس اليساري المعتدل نيستور كيرشنر، واستمر حكم الزوجين 12 سنة بين 2003 و2015. وفي هذه الأثناء انتزع سياسيان يساريان شابان هما رافاييل كورييا الأكاديمي المتخرج في جامعات الولايات المتحدة الرئاسة في الإكوادر، وإيفو موراليس النقابي العمالي المتحدر من شعب الآيمارا (من الأميركيين الأصليين) الرئاسة في بوليفيا. كذلك انتزع أولانتا هومالا، وهو ضابط سابق - متحدر أيضًا من شعب الكيتشوا من الأميركيين الأصليين - الرئاسة في بيرو. وعزّزت كل من أوروغواي وتشيلي توجهها يسارًا مع انتخاب الرئيسين تاباري فاسكيز وميشال باشليت، ومع أن رجل الأعمال الثري سباستيان بينييرا استفاد من انقسام اليسار التشيلي ليفوز بانتخابات 2010 قبل استعادة الرئيسة (والطبيبة) الاشتراكية باشليت الرئاسة لليسار، فإن اليسار احتفظ بالحكم في أوروغواي عبر فاسكيز والرئيس اليساري السابق خوسيه موخيكا بلا انقطاع منذ 2005.

ماذا حدث الآن؟

نكسة اليسار التي أخذت تتبلور في أميركا الجنوبية، وتشهد نكسات متلاحقة، تعود في الحقيقة إلى بضعة عوامل، لعل أبرزها:
- الفساد، الذي لحق بأداء بعض الزعامات اليسارية التي غفلت عن قدرة الناخبين على محاسبتها، كما حاسبوا القادة اليمينيين من قبل. وفي مقدمة من دفع ثمن الفساد اليسار الأرجنتيني وأسرة كيرشنر، وكانت النتيجة الفوز الذي حققه عمدة بوينس آيرس المليونير موريسيو ماكري - الرئيس السابق لنادي بوكا جونيورز الشهير في عالم كرة القدم - في انتخابات الرئاسة الأخيرة في الأرجنتين.
- انخفاض أسعار النفط، الذي أثر على مداخيل بعض دول القارة المنتجة للنفط مثل فنزويلا والإكوادور. ومن ثم، أثر سلبًا على برامج التنمية والرعاية الاجتماعية.
- الممارسات السياسية الخاطئة على الصعيد الداخلي.
- سوء اختيار القيادات البديلة، التي حلت محل القيادات البارزة المؤسسة.
- الانفتاح الأميركي على أميركا اللاتينية، الذي خفف من حدة العداء لواشنطن، في بعض الدول، ولا سيما بالنسبة للطبقة الوسطى.

حالة فنزويلا

إن دولة مثل فنزويلا، التي كانت في يوم الأيام ثاني أكبر مصدّر للنفط في العالم، تعاني حاليًا من أزمة معيشية وسياسية من ملامحها نقص حاد في المواد الغذائية ومصاعب اقتصادية طاحنة، وصفها الرئيس مادورو بأنها «مؤامرة تحاك ضد بلاده». وانعكست هذه الأزمة في الهزيمة الانتخابية المؤلمة لليسار في الانتخابات البرلمانية، ولا يبدو في الأفق أن الوضع سيتحسن مع فقدان مادورو حليفًا مهمًا في مواجهته ضد اليمين الفنزويلي – المدعوم من واشنطن - في أعقاب إزاحة روسيف في البرازيل، إذ ما عاد بإمكانه التفاؤل بالحصول على دعم البرازيل لسد حاجة فنزويلا من السلع الأساسية وسط الشح الناجم عن انخفاض أسعار النفط ناتج البلاد الأساسي. وبالتالي، فإن الوضع الراهن سيفرض مزيدًا من الضغوط على الداخل الفنزويلي، مما سيدفع الحكومة اليسارية لمحاولة السيطرة على الوضع وضبط الأسواق بإجراءات تقشفية موجعة.
محللون اقتصاديون رصدوا أخيرًا ارتفاع أسعار السلع الغذائية في فنزويلا بنسبة 180 في المائة، ويتوقعون ارتفاعها بنسبة 700 في المائة بنهاية العام الحالي، مع بقاء أسعار النفط المنخفضة على حالها، وغياب أي تصور لرفع الأسعار قد يدفع إلى تغير المشهد السياسي هناك. وهنا نشير إلى أن مصادر في الاستخبارات الأميركية أعربت عن قلق واشنطن المتزايد من احتمال حدوث انهيار اقتصادي وسياسي في فنزويلا، ويدفع لذلك مخاوف من التخلف عن سداد الديون وتزايد الاحتجاجات في الشوارع والتدهور في قطاع النفط الحيوي في البلاد.
وفي الاتجاه ذاته، في تقييم متشائم للأزمة المتفاقمة في فنزويلا تبدي أوساط أميركية مطلعة شكها في أن يسمح الرئيس مادورو بإجراء استفتاء هذا العام على الرغم من الاحتجاجات التي قادتها المعارضة للمطالبة باستفتاء لتحديد ما إذا كان سيبقى في السلطة. لكن واشنطن، مع ذلك، ترى أنه من غير المحتمل تمكن مادورو من إكمال مدة رئاسته التي من المقرّر أن تنتهي بعد الانتخابات في أواخر 2018.
وفي حين يقول مسؤولون أميركيون إن أحد «السيناريوهات» الواردة سيكون إجبار حزب مادورو أو شخصيات سياسية على الاستقالة، من دون استبعاد احتمال وقوع انقلاب عسكري، فإن الأوساط الأميركية تحرص على القول إنه لا توجد دلائل على نسج أي مؤامرة فعلية أو إن الرئيس اليساري فقد دعم كبار ضباط الجيش له.
وكان أسوأ مثال على الاضطراب الذي تتسبب به الأزمة المعيشية الراهنة ما حدث في وقت سابق من الشهر الحالي عندما أقدمت حشود في فنزويلا على سرقة دقيق ودجاج، بل وملابس، في موجة من أعمال النهب. وللعلم، سبق لمادورو أن تعهد بأنه لن يقدم استقالته قبل انتهاء فترة رئاسته عام 2019، وكرّر اتهام المعارضة بالسعي إلى تدبير انقلاب ضده لتدمير «الميراث الاشتراكي» لسلفه الراحل شافيز.

و.. الأرجنتينية

أما في الأرجنتين، فإن ابتعاد الرئيسة كريستينا فيرنانديز دي كريشنر عن سدة الحكم، ووصول غريمها اليميني ماوريسيو ماكري غيّرا بشكل كبير المعادلة السياسية، مع العلم بأن ماكري اضطر للانتظار حتى الجولة الانتخابية الثانية الحاسمة في انتخابات الرئاسة بعدما تخلف في الجولة عن منافسه اليساري المحسوب على الرئيسة دانيال سيولي. وهذا يعني أن هذه الانعطافة نحو اليمين قد تكون أو لا تكون نهائية. جدير بالذكر أن دي كريشنر رفضت المثول أمام القضاء في قضايا فساد بعد اتهامها بالإضرار بالمال العام بسبب عملية مضاربة بأسعار صرف العملات أجراها المصرف المركزي في الأشهر الأخيرة من ولايتها. وحسب الحكومة اليمينية الحالية – التي كانت حينذاك في المعارضة – فإن هذه العملية كلفت ثالث أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية خسائر بمئات ملايين الدولارات.

صفحة جديدة في كوبا

على مستوى مختلف تمامًا، هناك كوبا..
كوبا التي كانت تمثل رأس حربة اليسار – بل واليسار الثوري – في الأميركتين، منشغلة الآن بمسار السلام مع الولايات المتحدة، العدو اللدود السابق، وباتت الآن منفتحة على الغرب بعد سنوات من القطيعة، مما يفتح صفحة جديدة لهذه الدولة - الجزيرة بالنسبة للاستثمارات الغربية والأميركية.. المتعطشة للحضور فيها.
وبعد الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى كوبا ولقائه بالرئيس راوول كاسترو، تعقد الحكومة الكوبية جولات من المباحثات مع الولايات المتحدة بهدف تحسين العلاقات بين البلدين وتقييم التقدم الذي حققه خصما «الحرب الباردة» السابقان نحو تجاوز صراعهما الذي استمر عقودا وتحديد مجالات جديدة للتعاون. وبعد قطيعة دبلوماسية وتجارية طالت لأكثر من 50 سنة وقع الجانبان اتفاقات بشأن مسائل ذات اهتمام مشترك، مثل البيئة والخدمات البريدية والرحلات الجوية المباشرة.
ويبقى الآن من معاقل اليسار الإكوادور وبوليفيا. والحقيقة أن لكلا البلدين مشكلات قد تؤدي إلى إضعاف قبضة اليسار على السلطة فيه. ففي بوليفيا أخفق الرئيس إيفو موراليس عبر استفتاء أن يجدد فترة حكمة من جديد، وهو ما يعني اختفاءه عن السياسة بعد انقضاء فترته الرئاسية الحالية. أما الإكوادور - وهي دولة عضو في «أوبك»، مثل فنزويلا - فلديها ما يكفيها من أزمات اقتصادية في طليعة أسبابها انخفاض أسعار النفط. ومن ناحية أخرى، بات من الواضح إلى أن «الحلف البوليفاري» اليساري الذي قام في أميركا الجنوبية وكانت البرازيل والأرجنتين وفنزويلا أبرز أركانه فقد الآن فاعليته وتأثيره الإقليمي. أيضًا يشكو من الشلل الآن تجمع آخر هو «اتحاد أميركا الجنوبية» (أوناسور)، وبدا عجزه السياسي واضحًا في الآونة الأخيرة؛ عجزه عن دعم موقف روسيف في وجه معارضيها وعلى رأسهم نائبها، الرئيس الحالي المؤقت، تامر.
مما لا شك فيه، أن ما حدث في البرازيل هزّ الخريطة الجيو - سياسية في أميركا الجنوبية، وهو ما يتوقع أن يؤسس لحقبة جديدة من التحالفات والتكتلات يتجسد فيها انحسار نفوذ اليسار لأول مرة في القارة منذ نهاية «الحرب الباردة»، ومعها مسلسل الانقلابات العسكرية.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».