بعدما كانت فيما مضى مرادفا للوعد بمستقبل مزدهر، تحولت التجارة العالمية إلى فزاعة سياسية، حيث يندد بها المرشح الرئاسي المحتمل في الولايات المتحدة دونالد ترامب باعتبارها «انتهاكا» للبلاد، ويهدد الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند بمعارضة اتفاقية «الشراكة عبر الأطلسي»، وتراوح منظمة التجارة العالمية مكانها منذ سنوات، كما يتزايد العداء لها لدى الرأي العام.
«يجدر بنا أن نفرح بنهاية حقبة معاهدات التبادل الحر التي لم تعد منذ زمن طويل سوى مصافحات تصب في مصلحة الشركات والمستثمرين.. تاركة فسحة ضئيلة للعمال».. ليس هذا مقطعا من عريضة لدعاة العولمة البديلة، بل مقال في «نيويورك تايمز» للصحافي غاريد بيرنستين، المستشار الاقتصادي السابق لنائب الرئيس الأميركي جو بايدن.
ويتراجع التأييد الشعبي لهذه الاتفاقيات، وهو ما ظهر جليا من خلال التعبئة في أوروبا ضد اتفاقية الشراكة الأطلسية للتجارة والاستثمار، ذلك المشروع العابر للأطلسي لتوحيد المعايير التجارية بين أوروبا والولايات المتحدة، بحسب وكالة الصحافة الفرنسية.
ولا يثق نحو 70 في المائة من الفرنسيين في المفوضية الأوروبية بهذا الصدد، وفق استطلاع للرأي أجري مؤخرا. وفي ألمانيا، حيث تشكل حركة التصدير الكثيفة دعامة أساسية للاقتصاد، نزل عشرات آلاف الأشخاص إلى الشارع في أبريل (نيسان) الماضي في مدينة هانوفر للتنديد بالاتفاقية.
ولا تثير التجارة العالمية الحماسة في الولايات المتحدة أيضا. وأوضح المحلل الأميركي نيكولاس دانغن، المستشار الخاص لدى «معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية» والباحث في معهد «أتلانتيك كاونسيل» في الولايات المتحدة، أنه «بعد ثماني سنوات على أزمة 2008، وبعد أربعين عاما بقي فيها متوسط دخل العائلات الأميركية يراوح في مستواه، فإنهم يعبرون عن الغضب لحظة استيقاظهم».
ويستغل القادة السياسيون هذه الريبة المتزايدة، لا سيما مع اقتراب الانتخابات. وفي الولايات المتحدة، جعل الجمهوري دونالد ترامب من التصدي للتجارة أحد المواضيع المحورية في حملته. وقال مؤخرا: «لا يمكننا أن نستمر في السماح للصين بانتهاك بلادنا».
وتحت ضغط خصمها بيرني ساندرز، الذي يتبنى خطأ إلى يسارها، نددت المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون بدورها باتفاقيات التبادل الحر التي «تبدو في غالب الأحيان رائعة على الورق»، لكن نتائجها لا تكون دائما «بالمستوى» المطلوب. وفي أوروبا، رفض الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الاتفاقية الأطلسية «في المرحلة الراهنة» من المفاوضات.
وقال ديفيد دورن، الأستاذ في جامعة «زيورخ» وأحد واضعي دراسة بعنوان «المتلازمة الصينية» لوكالة الصحافة الفرنسية: «دخلنا مرحلة حيث باتت الاتفاقيات التجارية تثير جدلا متزايدا، لكن الوقت ما زال مبكرا لمعرفة ما إذا كنا وصلنا إلى خاتمة التبادل الحر، لأنه ما زال يجري التفاوض على معاهدات مهمة».
وبحسب هذه الدراسة، فإن الصادرات الصينية مسؤولة بنسبة الربع عن انحسار الوظائف في قطاع التصنيع في الولايات المتحدة بين أعوام 1997 و2007: «وهذا كفيل بإثارة المخاوف من أن يتسبب تكامل تجاري أكبر بفقدان وظائف جديدة».
وقال دانغن: «يعتقد الأميركيون أنه إذا لم يعد إجماع واشنطن، الذي وضع في الثمانينات، ويستند إلى التنظيم الذاتي للأسواق، يأتي بثماره.. فهذا يعني أن فكرة التبادل الحر تخطاها الزمن اليوم، وأنه لا بد من اختبار أمر آخر».
وقال هنري لاند، المحاضر في معهد العلوم السياسية في باريس، لوكالة الصحافة الفرنسية: «بلغنا مرحلة، حيث نعيد النظر في التبادل الحر المنفلت من أي قيود، من دون الأخذ بالبيئة».
إنها بنظره اتفاقيات متقادمة يجب أن تكون مجرد «ذكرى»، وأن تحل محلها اتفاقيات تشجع أكثر منها «الاقتصاد الدائري والمجتمعي».
وشدد لاند على أنه «علينا أن نغير البرنامج على الصعيد العالمي»، داعيا إلى توجيه الاتفاقيات التجارية «نحو اقتصاد يقوم أكثر على المجتمعات المحلية، وعلى التقدم الاجتماعي وأخذ البيئة بالاعتبار. وإلا، فسنجد أنفسنا في مرحلة معينة مضطرين للعودة إلى الحمائية».
والجماهير الغاضبة ليست وحدها من ينتقد وهم «القرية العالمية»، التي تزيحها طرق تجارية في كل الاتجاهات.
فمنظمة التجارة العالمية، التي كانت مهمتها تقضي بوضع إطار المبادرات للعالم بأسره، باتت متعثرة، وهي عاجزة عن تحقيق نجاح.. بل أكثر من ذلك، ترى نفوذها يتضاءل إزاء انتشار الاتفاقيات الثنائية والإقليمية.
«التجارة العالمية».. من الأمل في إنعاش الاقتصاد إلى «فزاعة»
قاعدة المنتقدين لـ«وهم القرية الدولية» تتسع يومًا بعد يوم
«التجارة العالمية».. من الأمل في إنعاش الاقتصاد إلى «فزاعة»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة