فراوكه بيتري.. أحدث قادة متطرفي أوروبا

الوعظ والوعظ المضاد في خطاب رئيسة حزب «البديل لألمانيا» اليميني

فراوكه بيتري.. أحدث قادة متطرفي أوروبا
TT

فراوكه بيتري.. أحدث قادة متطرفي أوروبا

فراوكه بيتري.. أحدث قادة متطرفي أوروبا

لمع أخيرًا اسم جديد في سماء السياسة الأوروبية القومية اليمينية المتطرفة المعادية للاجئين والإسلام، هو اسم السياسية الألمانية فراوكه بيتري، زعيمة حزب «البديل لألمانيا». والمفارقة مع الزعيمة الجديدة أنها في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عمّمت رسالة إلكترونية إلى أصدقائها تقول فيها إنها وزوجها الواعظ الكَنسي سفين بيتري، سيمشيان من الآن فصاعدًا في طريقين مختلفين. ومنذ ذلك الحين ما عاد سكان بلدة تاوتنهين - القريبة من مدينة لايبزيغ بأقصى شرق ألمانيا - يشاهدون بيتري كثيرًا في المدينة التي يلقى زوجها وعظه من على منصة كنيستها. بل، قبل يوم واحد من تاريخ تلك الرسالة، يوم الأحد بالضبط، كان على السياسية الشعبوية الألمانية، التي ترفع لواء العداء للاجئين والأجانب، أن تستمع إلى مواعظ زوجها في تلك الكنيسة. وقرأ سفين: «كنت ظمآن ورويتموني، وكنت غريبًا فآويتموني، وكنت عاريًا فكسيتموني».
ثم وعظ الناس بضرورة الترحيب باللاجئين، مقتبسًا كلمات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الشهيرة: «سنحقق ذلك!». ويعرف القس بالتأكيد أن زوجته كانت تعظ في الصحف بشعار «لا نريد أن نحقق ذلك!»، المناقض لشعار ميركل. وبعد ذلك، قال سفين بيتري للصحافة إنه لن يغلق بابه عندما يطرقه محتاج ذو نيات طيبة، وإن من يريد أن يأتي فليأت.
بيتري، السياسية الصاعدة على أكتاف اللاجئين، والباحثة في الكيمياء، ضحت هكذا بحياة زوجية طالت 14 سنة، وبمصير أربعة أطفال، مقابل تمسكها بسياستها المتطرفة التي تثير اشمئزاز كثيرين. وذكرت صحيفة «تزايت» الأسبوعية المعروفة أن مطلقها كان يعاني منذ سنوات، وأنه كان قبل «موعظة الانفصال» تلك يكتب الآراء نفسها على صفحته في موقع «فيسبوك»، وأن ما يكتبه عبارة عن برنامج مضاد لبرنامج «حزب البديل لألمانيا». ويذكر أنه قبل انتفاضته على الحزب اليميني القومي المتطرف، انضم سفين بيتري إلى الحزب الديمقراطي المسيحي، وهو الحزب الذي وصفته فراوكه بـ«حزب الكارتيل» مرة، وشكت زعيمته ميركل إلى المحكمة بتهمة «تهريب اللاجئين». ورغم استعداده الكبير لتقديم العون للاجئين، وصفت زوجته مرة المتطوعين لمساعدة اللاجئين بأنهم «مغفلو سخرة».
* «سيدة أعمال» مفلسة
ولدت فراوكه ماركهاردت (بيتري لاحقًا) يوم 1 يونيو (حزيران) 1975 قرب مدينة دريسدن عاصمة ولاية سكسونيا بشرق ألمانيا. ودرست شؤون الكيمياء في جامعة ريدينغ البريطانية قبل أن تحصل على الدكتوراه في الكيمياء في جامعة غوتينغن الألمانية العريقة. يذكر أنها ابنة أم تخصصت بالكيمياء، وأب مهندس، عاشا في ألمانيا الشرقية حتى فترة أشهر قليلة سبقت انهيار «جدار برلين» استغل فيها الأب زيارة عمل إلى برلين الغربية للبقاء.
لبيتري الكثير من المقالات والأبحاث في المجلات العلمية، ونالت 7 جوائز رسمية وغير رسمية نظير دراساتها وأبحاثها في الشؤون الكيماوية، وخصوصًا تطوير مادة كيماوية لاصقة لإطارات السيارات (اسمها هايدروبور). كذلك فإنها أسست شركة لإنتاج هذه المادة برأسمال قدره مليون يورو بالقرب من لايبزيغ، وأعلن إفلاس الشركة (10 عمال) قبل ثلاثة أيام من صعودها السياسي إلى برلمان سكسونيا عام 2014. ويومذاك رفعت النيابة العامة عليها قضية بتهمة «الإفلاس الاحتيالي»، ويقال إن شراء الشركة من قبل شركة بافارية أدى إلى إسقاط التهمة عنها.
وواقع الحال أن مرتّلة الكنائس وسيدة الأعمال «الناجحة» بيتري، بدأت نشاطها السياسي ضمن الجماعات الداعمة لحملة الحزب الديمقراطي المسيحي الانتخابية حتى عام 2012. وأسهمت بعد ذلك بتأسيس «حزب البديل لألمانيا» في عام 2013، وأصبحت واحدة من الثلاثي الذي يقود الحزب. ثم فازت بأصوات 60 في المائة من نواب الحزب في عام 2015، وأصبحت زعيمة الحزب منذ ذلك الحين. وجاء هذا الفوز بعد سنتين من الصراع بين الجناح القومي اليميني الذي تقوده، وجناح «الاقتصاديين الليبراليين» الذي كان يقوده الرجل الثاني في الحزب بيرند لوكه. ويعكس هذا الفوز نفوذها بين أعضاء الحزب بعد أن فازت في عام 2012 بجائزة «أنجح سيدة أعمال في عالم يسوده الرجال»، التي تمنحها ولاية سكسونيا.
* السلاح ضد اللاجئين
لا تختلف الشعارات الانتخابية لـ«حزب البديل لألمانيا»، وزعيمته بيتري، عن برنامج أي حزب قومي يميني متطرف آخر في أوروبا، بدءًا برئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان وانتهاء برئيسة الوزراء البولندية بياته شيدوو. بل إن البرنامج الذي أُقرّ أخيرًا في مؤتمر الحزب في نهاية أبريل (نيسان) الماضي، ويحمل بصمات بيتري، يؤكد على المفاصل السائدة نفسها بين ممثلي اليمين المتطرف، وهي العداء للاجئين والأجانب، والوقوف ضد الوحدة الأوروبية، والدعوة للخروج من منطقة اليورو، والعداء للإسلام، ورفض القوانين التي تتيح الإجهاض.
من ناحية ثانية، تطالب بيتري دائمًا بوقف المزيد من إجراءات تعميق الوحدة الأوروبية، وتدعو إلى «ألمنة» ألمانيا. وتحدثت لصحيفة «تورينغن لانديستزايتونغ» عن ضرورات تقليص نفوذ الاتحاد الأوروبي، ودراسة أفضل سبل الخروج من منطقة اليورو. وأضافت أن الوحدة الأوروبية جرّدت ألمانيا من ديمقراطيتها وحريتها بالتدريج، ولا بد من العودة إلى الديمقراطية «الحقيقية».
وفي قضية اللاجئين والهجرة تعظ بيتري، من على منصة مؤتمر حزبها، من جديد مستخدمة كلمة «الحقيقية»، لأنها طالبت بالسماح «للاجئين الحقيقيين» فقط، ورفض اللاجئين «الاقتصاديين» و«السياحيين»، وفق تعبيرها. وطالبت بوضع ضوابط «حقيقية» ضد «إساءة استخدام حق اللجوء»، وحثت على ضرورة تقنين هجرة العمالة إلى أوروبا «بحسب الحاجة».
ولقد أثارت بيتري بتصريحاتها، التي تطالب باستخدام السلاح ضد اللاجئين، امتعاض بعض قادة حزبها من «الجناح الليبرالي» أيضًا، إذ إنها قالت لصحيفة «مانهايمر مورغن» في يناير (كانون الثاني) الماضي إن على شرطة الحدود «منع تسلل اللاجئين إلى ألمانيا وإن بقوة السلاح». ورد الباحث القانوني كريستوف شونبيرغر على هذا التصريح بالقول إن استخدام السلاح ممكن على الحدود، ولكن ليس ضد أناس عزّل.
* عداء واضح للإسلام
وفي المؤتمر الأخير صحّت التوقعات حول تكريس برنامج الحزب بالكامل لقضايا العداء للاجئين والإسلام. وضمّن الحزب برنامجه فقرات تشدد على أن «الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا»، وأنه «لا علاقة له بالديمقراطية»، وأكد على منع الحجاب في المدارس والدوائر، وحظر بناء منارات المساجد.
ولكن هل تفضل بيتري اسم «الشعبوي» أم «المعادي للإسلام» صفة لحزبها؟ تقول بيتري لا هذا ولا ذاك، لأن رفض الإسلام بالنسبة لها ليس أداة لاصطياد الناخبين اليمينيين بل هو وسيلة لمعالجة مشكلات ألمانيا، كما ذكرت في مقابلة مع تلفزيون «ن.ت.ف».
ووفق بيتري فإن الإسلام «يتناقض مع فقرات الدستور الألماني»، فلماذا لا تطالب بحظره رسميًا، لأن محكمة الدستور تحظر أي نشاط يتعارض مع الدستور؟ وهنا تجيب: «لأن المسلمين المندمجين جزء من ألمانيا ولا مانع من ممارستهم دينهم إذا كانوا يفعلون ذلك بشكل شخصي وسلمي».
في المقابل، في قضية المرأة تقف بيتري بوضوح إلى جانب الاحتفال بـ«يوم المرأة العالمي»، وتطالب بـ«كوتا» للنساء في الدوائر والبرلمانات والشركات، لكنها تقف بقوة ضد القانون رقم 218 الذي يتيح الإجهاض عند الضرورة. وتقول إن إلغاء هذه الفقرة فيه الحل لمشكلة قلة الولادات في ألمانيا، التي تعتبر صاحبة أقل معدل ولادات في العالم. وترى السياسية اليمينية المتطرفة أن على كل عائلة أن تنجب ثلاثة أطفال، وتعتبر نفسها من الروّاد هنا بحساب أن لديها أربعة أطفال. وعلى أي حال، يفسّر دارسو حياتها السياسية موقفها الإيجابي من «يوم المرأة العالمي» و«الكوتا» بتربيتها ونشأتها السابقة في ألمانيا الشرقية.
* ... ولليسار
ولن تصبح بيتري يمينية متطرفة «حقيقية» ما لم تتصف بالعداء لليسار الألماني وتخشى منه، لذلك فإنها لا تكل عن مطالبة الدولة الألمانية بكبح جماح اليسار. ولا تفرق بتري هنا بين اليسار «الحقيقي» الممثل في البرلمان الألماني والبرلمانات المحلية واليسار المتطرف، ولا بين الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي الديمقراطي ومنظمة «جناح الجيش الأحمر» المحظورة. فكلهم بالنسبة لها يسار ينبغي حظره.
وذكرت بيتري لتلفزيون «ن.ت.ف» أن الدولة الألمانية تحارب اليمين المتطرف، لكنها لا تفعل شيئًا ضد اليسار. وأضافت بضرورة منع تمويل الأحزاب اليسارية، وحرمانها من حق التظاهر. لماذا؟ لأن اليسار يواجهون مظاهرات حزبها ويشتمون أعضاءه. ومعروف أن المظاهرات المناهضة لمظاهرات حزب البديل لألمانيا تضم كل الأحزاب الأخرى في البرلمان، إضافة إلى ممثلي المنظمات الكنسية ومنظمات حقوق الإنسان.. إلخ.
من ناحية أخرى، تعاني بيتري - التي قد تعود إلى اسمها الأصلي ماركهاردت - بشكل دائم من الصحافة والصحافيين الذين لا يكفّون عن لعن حزبها وإظهاره بمظهر «الشيطان»، بحسب تعبيرها. فكل الصحافيين في نظرها «معادون لها».. و«تقطر أسئلتهم بالسم» أثناء المقابلات. وحقًا، اتهمت بيتري الصحافة الألمانية بـ«اللامهنية» والانحياز، مما استدعى رد نقابة الصحافيين الألمان عليها بالقول إن «سيدة حزب البديل لألمانيا لا تفهم فن الصحافة ولا تمتلك (بديلاً) عن أساليب المقاطعة ورفض الرد على الأسئلة». وردًا على قول بيتري إنها «تشعر بالألم» من تعامل الصحافة معها ومع حزبها، قال المتحدث الرسمي باسم نقابة الصحافيين هيندريك زورنر: «على من يشعر بالألم الذهاب إلى الطبيب».
وكانت بيتري قد خاضت قبل فترة قصيرة معركة صغيرة مع نقابة الصحافيين ضد مقدمة البرنامج الصباحي المشترك في قناتي التلفزيون الألماني الأولى والثانية، دنيا الحيالي (العراقية الأصل)، إذ اتهمت الزعيمة اليمينية دنيا خلال مقابلة تلفزيونية مع قناة «ز.د.ف» بالكذب قائلة إنها «أنف بينوكيو»، وإنها منحازة ولا تفهم مبادئ الصحافة. وجاءت هذه الاتهامات بعد نيل الحيالي جائزة «الكاميرا الذهبية» لقاء تقاريرها المصورة حول «الأفكار اليمنية المتطرفة» في مظاهرات «حزب البديل لألمانيا».
بل وعمّمت بيتري بيانًا يتهم دنيا الحيالي بأنها «عاجزة عن الفصل بين عواطفها وعملها في تلفزيون يموّل نفسه من الضرائب المفروضة على المواطنين». وأضاف البيان أن الحيالي «تبدو ناشطة سياسية أكثر منها صحافية محترفة، لأنها تنشط أيضًا في تنظيمات تدافع عن اللاجئين». ومن ثم وقفت نقابة الصحافيين الألمان إلى جانب الزميلة، مطالبين كل الأحزاب بالتعامل بشكل ديمقراطي وعادل مع الصحافيين الذين ينقلون الحقيقة إلى المواطنين، دون أن يدسوا «أنوف بينوكيو فيها». وطالبت النقابة أيضًا كل الأحزاب الألمانية بالتعامل بعدالة مع الصحافيين الذين يؤدون واجبهم. ووصفت النقابة الحيالي بأنها صحافية محايدة ومحترفة استحقت التقدير لقاء عملها.
أيضًا، رفض توماس فورمان، مدير البرنامج الصباحي في «ز.د.ف»، وصف الحيالي بـ«الناشطة السياسية»، مشددًا على تجردها. وردّ فورمان على اتهام الحيالي بالعلاقة مع منظمة «احترام.. لا مكان للعنصرية» بالتساؤل: لماذا تنزعج بيتري من النشاط ضد العنصرية، إذا كانت غير عنصرية؟ وكانت الحيالي، في كلمتها عند تسلّمها الجائزة، قد عبرت عن قناعتها بأن من يرفع الشعارات العنصرية لا بد أن يكون عنصريًا.
* «الأحمر» و«الأخضر»
على صعيد آخر، يظهر الساسة الألمان دائما بربطات عنق، أو بقمصان أو تنورات ذات ألوان تعكس تلوناتهم السياسية. وهكذا يظهر وزير الخارجية فرانك - فالتر شتاينماير بربطة عنق حمراء تمثل لون حزبه الديمقراطي الاشتراكي، وكان الراحل هانز ديتريش غينشر يظهر دائمًا بربطة عنق صفراء تمثل لون حزبه الليبرالي. لكن بيتري تحاول قلب هذه المفاهيم الآن كما يبدو، لأنها ظهرت في مؤتمر حزبها الأخير في شتوتغارت بتنورة حمراء وسترة خضراء على قميص أبيض. وذكرت لوكالة الأنباء الألمانية لاحقًا أنها أرادت بذلك القول إنها قد «احتلت» هذه الألوان الآن، وإنها تريد لهذه الأحزاب أن تفهم أنها غير قادرة على إيقاف مسيرتها.



رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
TT

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)

لم يكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية في لبنان بعد أكثر من سنتين على الشغور ليحصل راهناً لولا المتغيرات الكبرى التي شهدتها المنطقة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي. إذ إن «الثنائي الشيعي»، المتمثل في حركة «أمل» و«حزب الله»، تمسّك بمرشحه رئيس تيار «المرَدة»، سليمان فرنجية، طوال الفترة الماضية، بينما امتنع رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، وزعيم «أمل»، عن الدعوة لأي جلسة انتخاب لعام كامل رابطاً أي جلسة جديدة بحوار وتفاهم مسبق. غير أن الوضع تغيّر، عندما ترك «الثنائي» تشدده الرئاسي جانباً بعد الحرب القاسية التي شنتها إسرائيل على «حزب الله»، وأدت لتقليص قدراته العسكرية إلى حد كبير، كما حيدّت قادته الأساسيين وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله. ثم أتى سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الحليف الأساسي لـ«حزب الله» وإيران ليقطع «طريق طهران - بيروت» التي كانت الطريق الوحيدة لإمداد الحزب برّاً بالسلاح والعتاد، ليؤكد أن النفوذ الإيراني في المنطقة اندحر... ما اضطر حلفاء طهران في بيروت إلى إعادة حساباتهم السياسية. ولعل أول ما خلُصت إليه حساباتهم الجديدة، التعاون لانتخاب قائد الجيش، المدعوم دولياً، رئيساً للبلاد.

لدى مراجعة تاريخ لبنان المستقل، يتبيّن أن التدخل الخارجي في الانتخابات الرئاسية اللبنانية ليس أمراً طارئاً على الحياة السياسية في البلاد، بل هو طبع كل المسار التاريخي للاستحقاقات الرئاسية اللبنانية.

ويشير جورج غانم، الكاتب السياسي الذي واكب عن كثب الأحداث اللبنانية، إلى أن «الخارج، منذ أيام بشارة الخوري، الرئيس الأول بعد استقلال لبنان عام 1943، كانت له الكلمة الأساسية في اختيار الرؤساء في لبنان وفرضهم. ويضيف: «الانتخابات لا تحصل بتوافقات داخلية... بل يبصم مجلس النواب على قرارات خارجية».

ويشرح أن الخوري انتُخب في مرحلة كان فيها التنافس البريطاني الفرنسي في أوجه، وكان البريطانيون يحاولون جاهدين وضع حد لنفوذ باريس في المشرق. ولذا، تعاونوا مع «الكتلة الوطنية» في سوريا والحكم الهاشمي في العراق والحكم في مصر ومع «الكتلة الدستورية» في لبنان، عندما كانت المنافسة على الرئاسة الأولى محتدمة بين إميل إده المدعوم فرنسياً، وبشارة الخوري المدعوم بريطانياً ومن حلفائهم العرب، وبما أن فرنسا كانت دولة محتلة وخسرت الحرب، نجح المرشح الرئاسي اللبناني الذي يريده البريطانيون الذين سيطروا يومذاك على منطقة الشرق الأوسط.

انتخاب كميل شمعون

ويلفت غانم، الذي حاورته «الشرق الأوسط»، إلى أنه بعد هزيمة الجيوش العربية في «حرب فلسطين» عام 1948، برز تنافس أميركي - بريطاني للسيطرة على المنطقة، فبدأت تسقط أنظمة سواء في مصر أو سوريا، وتبلور محور مصري - سعودي في وجه محور أردني - عراقي مدعوم بريطانياً. وفي ظل الاضطرابات التي كانت تشهدها المنطقة وإصرار الخوري على الحياد في التعامل مع سياسة الأحلاف، سقط الخوري، وانتُخب كميل شمعون بدعم بريطاني - عربي، وتحديداً أردني - عراقي. ومن ثَمَّ، إثر انكفاء بريطانيا بعد «حرب السويس» عام 1956، دخلت الولايات المتحدة في منافسة شرسة مع الاتحاد السوفياتي. وفي تلك الفترة كانت الموجة الناصرية كاسحة ما جعل شمعون يواجه بثورة كبيرة انتهت بتفاهم مصري - أميركي على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً.

من فؤاد شهاب... إلى سليمان فرنجية

الواقع أن شهاب انتُخب عام 1958 بتوافق مصري - أميركي نشأ بعد انكفاء البريطانيين ونضوج التنافس الأميركي - السوفياتي وصولاً إلى عام 1964. عند هذه المحطة حين انتُخب شارل حلو، المحسوب أساساً على «الشهابيين»، رئيساً، في المناخ نفسه، ولكن هذه المرة برضىً فاتيكاني - فرنسي مع نفوذ مستمر أميركي - مصري.

ويضيف غانم: «بعد حرب 1967 انكفأت (الناصرية) وضعُفت (الشهابية) وانتشر العمل الفدائي الفلسطيني... وتلقائياً قوِيَ الحلف المسيحي في لبنان المدعوم غربياً، وفي ظل حضور فاقع لإسرائيل في المنطقة. وبعد اكتساح «الحلف الثلاثي» الماروني اليميني السواد الأعظم من المناطق المسيحية في الانتخابات، جاء انتخاب سليمان فرنجية عام 1970، بفارق صوت واحد، تعبيراً عن هذا المناخ وعن ميزان القوى الجديد في المنطقة».

الاجتياح الإسرائيلي و«اتفاق 71 أيار

ويتابع جورج غانم سرده ليقول: «انتخاب إلياس سركيس رئيساً عام 1976 جاء بتفاهم سوري - أميركي حين كان النفوذ والدور السوريين يومذاك في أوجه... وقد دخلت حينها قوات الردع السورية والعربية إلى لبنان». أما انتخاب بشير الجميل عام 1982 فأتى بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وفي ظل دعم أميركي وأطلسي مطلق. وانسحب هذا المناخ على انتخاب أمين الجميل مع فارق وحيد هو أن المسلمين المعتدلين في لبنان الذين لم يؤيدوا بشير، أيدوا انتخاب شقيقه أمين.

لاحقاً، عام 1984، حصلت «انتفاضة 6 شباط» الإسلامية، فتراجعت إسرائيل وألغي «اتفاق 17 أيار» الذي فرضته تل أبيب بالقوة. وهكذا، بحلول عام 1988 لم يكن ميزان القوى المرتبك يسمح بانتخاب رئيس للبنان، فكانت النتيجة الشغور الرئاسي الذي استمر لمدة سنتين تخللتهما «حرب التحرير» والحرب بين الجيش و«القوات اللبنانية»... وانتهى بتوقيع «اتفاق الوفاق الوطني في الطائف» عام 1989، وهو اتفاق عربي - دولي أنتج انتخاب رينيه معوض، ثم مباشرة بعد اغتياله، انتخاب إلياس الهراوي. وظل لبنان يعيش في ظل هيمنة سورية، شهدت انتخاب العماد إميل لحود عام 1998 وتمديد ولايته حتى عام 2007.

ميشال سليمان وميشال عون

ويتابع جورج غانم السرد فيشير إلى أنه «في عام 2004، وبعد اجتياح العراق قامت معادلة جديدة في المنطقة، فتمدّدت إيران إلى العراق وازداد نفوذ (حزب الله) في لبنان، وخصوصاً بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005»، في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. ومع انتهاء ولاية إميل لحود الثانية، لم يتمكن اللبنانيون من انتخاب رئيس حتى عام 2008 حين كان هناك صعود قطري - تركي في المنطقة. وهكذا، جاء «اتفاق الدوحة» الذي أوصل العماد ميشال سليمان إلى سدة الرئاسة بموافقة سعودية - مصرية بعد «أحداث 7 مايو/ أيار» التي كرّست نفوذ «حزب الله».

وأردف: «لكن اتفاق الدوحة سقط عام 2011 بعدما اندلعت الأزمة السورية، فضرب الشلل عهد الرئيس سليمان، وقد سلّم قصر بعبدا للفراغ عام 2014. وفي ظل التوازن السلبي الذي كان قائماً حينذاك، عاش لبنان فراغاً رئاسياً ثانياً طال لسنتين ونصف السنة في أعقاب تمسك (حزب الله) بمرشحه العماد ميشال عون. ولم تتغير التوازنات إلا بعد وصول الجيش الروسي إلى سوريا عام 2015، و(تفاهم معراب) بين عون ورئيس حزب (القوات اللبنانية) سمير جعجع، وأيضاً تفاهم عون مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري. وكانت هذه التفاهمات قد تزامنت مع حياد أميركي بعد التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران وعشية انتهاء ولاية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما... ما أدى إلى انتخاب عون رئيساً عام 2016».

غانم يلفت هنا إلى أنه «مع انطلاق عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بدأ التشدد تجاه إيران والتصعيد ضد (حزب الله)، ولذا بدأ عهد عون يخبو... حتى بدأ يحتضر مع أحداث 17 أكتوبر 2019». ثم يضيف: «ومع انتهاء ولاية عون ترسّخ توازن سلبي بين (حزب الله) وحلفائه من جهة، والقوى المناوئة له من جهة أخرى، الأمر الذي منع انتخاب رئيس خلال العامين الماضيين. لكن هذا التوازن انكسر بالأمس لصالح خصوم إيران السياسيين، وهكذا أمكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً جديداً للبلاد».

جوزيف عون

البرلمان اللبناني انتخب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً في التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي بـ99 صوتاً من أصل 128 بعد سنتين وشهرين وعشرة أيام من الفراغ الرئاسي. وحمل «خطاب القسم» الذي ألقاه الرئيس المنتخب عون مضامين لافتة، أبرزها: تأكيده «التزام لبنان الحياد الإيجابي»، وتجاهله عبارة «المقاومة»، خلافاً للخطابات التي طبعت العهود السابقة. كذلك كان لافتاً تأكيده العمل على «تثبيت حق الدولة في احتكار حمل السلاح». ولقد تعهد عون الذي لاقى انتخابه ترحيباً دولياً وعربياً، أن تبدأ مع انتخابه «مرحلة جديدة من تاريخ لبنان»، والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان.

خشّان: كل رؤساء لبنان يأتون بقرار خارجي ويكتفي البرلمان بالتصديق عليهم

دولة ناعمة

الدكتور هلال خشّان، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، رأى في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنه ليس خافياً على أحد أن «كل الرؤساء في لبنان يأتون بقرار خارجي، ويكتفي البرلمان اللبناني بالتصديق على هذا القرار بعملية انتخابهم»، ويضيف أن «لبنان عبارة عن دولة ناعمة تعتمد على الخارج، وهي مكوّنة من مجموعة طوائف تحتمي بدول عربية وغربية».

وتابع خشّان أن «مفهوم الدولة ركيك وضعيف في لبنان، والقسم الأكبر من اللبنانيين لا يشعرون بالانتماء للبلد. والمستغرب هنا انتخاب رئيس من دون تدخلات خارجية وليس العكس... لأنه واقع قائم منذ الاستقلال». ويشرح: «فرنسا كانت للموازنة الأم الحنون، والسُّنّة كانوا يرون مرجعيتهم جمال عبد الناصر ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم المملكة العربية السعودية. أما الشيعة فمرجعيتهم الأساسية إيران».

هزيمة «حزب الله»

وفق خشّان، «هزيمة (حزب الله) العسكرية نتج عنها هزيمة سياسية، وخصوصاً بعد سقوط نظام الأسد وفصل لبنان عن إيران جغرافياً، أضف إلى ذلك أن الحزب يتوق إلى إعادة إعمار مناطقه المدمّرة، ويدرك أنه لا يستطيع ذلك دون مساعدة خارجية... لقد استدارت البوصلة اللبنانية 180 درجة نحو أميركا ودول الخليج، كما سيكون هناك دور أساسي تلعبه سوريا، تحت قيادتها الجديدة، في المرحلة المقبلة».

وهنا تجدر الإشارة، إلى أن لبنان شهد منذ 17 سبتمبر (أيلول) الماضي تطوّرات وأحداثاً استثنائية قلبت المشهد فيه رأساً على عقب. وبدأ كل شيء حين فجّرت إسرائيل أجهزة «البيجر» بعناصر وقياديي «حزب الله» ما أدى إلى قتل وإصابة المئات منهم. ثم عادت وفجّرت أجهزة اللاسلكي في اليوم التالي ممهِّدة لحربها الواسعة. ويوم 23 سبتمبر باشرت إسرائيل حملة جوية واسعة على جنوب لبنان، تزامنت مع سلسلة عمليات اغتيال خلال الأيام التي تلت وطالت قياديي ومسؤولي «حزب الله» وتركزت في الضاحية الجنوبية لبيروت. وبدأت الاغتيالات الأكبر في 27 سبتمبر مع اغتيال حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، وتلاه اغتيال رئيس المجلس التنفيذي للحزب، هاشم صفي الدين، في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. كما أنه في يوم 1 أكتوبر بدأت تل أبيب عملياتها العسكرية البرّية جنوباً قبل أن تطلق يوم 30 من الشهر نفسه حملة جوية مكثفة على منطقة البقاع (شرقي لبنان).

وتواصلت الحرب التدميرية على لبنان نحو 65 يوماً، وانتهت بالإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ولقد سمح هذا الاتفاق للجيش الإسرائيلي بمواصلة احتلال قرى وبلدات لبنانية حدودية على أن ينسحب منها مع انتهاء مهلة 60 يوماً.

ولكن، خارج لبنان، تواصلت الصفعات التي تلقاها المحور الذي تقوده إيران مع بدء فصائل المعارضة السورية هجوماً من إدلب فحلب في 28 أكتوبر انتهى في ديسمبر (كانون الأول) بإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

وعلى الرغم من إعلان أمين عام «حزب الله» الحالي، الشيخ نعيم قاسم، أن حزبه سيساند النظام في سوريا، فإنه صُدم بسرعة انهيار دفاعات الجيش السوري، ما أدى إلى سحب عناصره مباشرة إلى الداخل اللبناني، وترك كل القواعد التي كانت له منذ انخراطه في الحرب السورية في عام 2012.

وأخيراً، في منتصف ديسمبر، أعلن قاسم صراحة أن «حزب الله» فقد طرق الإمداد الخاصة به في سوريا... أي آخر انقطاع طريق بيروت - دمشق.