من التاريخ: الحرب البريطانية ـ الأميركية 1812

الرئيس جيمس ماديسون
الرئيس جيمس ماديسون
TT

من التاريخ: الحرب البريطانية ـ الأميركية 1812

الرئيس جيمس ماديسون
الرئيس جيمس ماديسون

شهد عام 1812 اندلاع واحدة من أغرب الحروب في التاريخ الحديث هي «الحرب البريطانية الأميركية». ولقد اندلعت في وقت كانت أوروبا غارقة في الحروب النابليونية المتتالية، بعدما سيطرت فرنسا على مساحات شاسعة من القارة، وكانت تعد لغزو روسيا، ووسط هذا الجهد العسكري وجّهت بريطانيا جيوشها إلى أميركا الشمالية مرة أخرى بعد حرب استقلال الولايات المتحدة.
وواقع الأمر أن بريطانيا لم تكن الدولة التي أعلنت هذه الحرب بل كان وراء الإعلان الكونغرس الأميركي عندما صوت مجلس الشيوخ لصالح الحرب بغالبية 19 صوتًا مقابل 13 عارضوها. وفي مجلس النواب جاءت النتيجة أيضًا بالغالبية 79 صوتًا مقابل 49. وعلى الرغم من ذلك، فإن السلوك البريطاني كان السبب الرئيسي وراء إعلان الأميركيين الحرب، وذلك بسبب إقدام بريطانيا على تفتيش السفن التجارية الأميركية المتوجهة إلى فرنسا، وفرض رسوم جمركية على البضائع الخاصة بها، فضلاً عن تحرشات ممتدة مع البحرية الأميركية انتهت في إحدى المرات بضرب فرقاطة أميركية وقتل ثلاثة من طاقمها، والقبض على عدد من المجندين البريطانيين الهاربين من التجنيد.
استمر هذا السلوك البريطاني المتغطرس المُغطى بدوافع حربية ضد فرنسا، وهو ما أدخل الدولتين في حرب ممتدة استمرت قرابة السنتين.
من الثابت أن الرئيس الأميركي (يومذاك) جيمس ماديسون، الذي يعد من أبرز المشاركين في كتابة الدستور الأميركي، لم يكن راضيًا عن هذه فكرة الحرب لأنه كان يرى أن الدولة الأميركية ما زالت فتية وتفتقر إلى القدرات العسكرية لمواجهة أقوى الجيوش العالمية، ناهيك بأن جيشها النظامي لم يكن مستعدًا للحرب.
غير أن الضغوط من النخبة الحاكمة كانت قوية ومدفوعة بفكرة التوسّع شمالاً في كندا البريطانية ونحو الغرب على حساب السكان الأصليين (الهنود الحمر)، الذين كانت بريطانيا تدعمهم بالسلاح. وهو ما دفع الرئيس المغلوب على أمره إلى توجيه رسالة إلى الكونغرس يدق فيها طبول الحرب التي لم تكن بلاده قادرة عليها في حقيقة الأمر.
أما الجانب البريطاني فقد كان جهده العسكري منصبًا على القارة الأوروبية، ومع ذلك استطاع أن يحشد الجيش تلو الآخر لمحاربة الولايات المتحدة، خصوصا أن مرارة الهزيمة العسكرية إبان «حرب الاستقلال الأميركي» كانت لا تزال عالقة في الأذهان والوجدان على حد سواء. ولذا، رأت لندن أن هذه فرصة سانحة لها للاستيلاء على أجزاء من الولايات المتحدة ومحاصرتها عبر تحالف قوي مع قبائل السكان الأصليين، الذين بدأوا ينظمون صفوفهم تحت قيادة قائدهم الفذ تيكومسي، زعيم قبائل الشاووني، فيما يشبه الكونفدرالية الهندية المنظمة. وكانت فرص الانتصار وأطماع المكسب وراء توجيه الجهد العسكري البريطاني المكثف نحو الولايات المتحدة.
وكما كان الرئيس ماديسون يتوقع، بدا الجيش الأميركي لبعض الوقت عاجزًا عن تحقيق النصر. وبدأ ذلك واضحًا من خلال الحملات الثلاث التي أقرها لانتزاع كندا من أيدي البريطانيين الذين لم يجلوا عنها بعد «حرب الاستقلال»، إذ انتهت الحملات الثلاث بالفشل التام بسبب القيادة العسكرية الهزيلة وسوء خطوط التموين والاتصالات المتقطعة. أيضًا كان الجهد الحربي للهنود الحمر حاسمًا في ترجيح كفة البريطانيين، وهكذا حققت القوات البريطانية انتصارات حاسمة معظمها بفضل قيادتها العسكرية الرشيدة ممثلة بالجنرال إيزاك بروك Brock، ولكن بروك سرعان ما قُتل في آخر المعارك (معركة كوينزتون هايتس)، وباتت القوات البريطانية تعاني أيضًا من فقر القيادات كنظيرتها الأميركية تمامًا، لا سيما أن كبار الجنرالات البريطانيين كانوا يحاربون مع القائد الكبير آرثر ويلينغتون في القارة الأوروبية ضد فرنسا.
رغم الهزائم الأميركية المتتالية، فإن الأميركيين توجهوا نحو المعارك البحرية في البحيرات الكبرى التي تفصل بين كندا والولايات المتحدة خاصة بحيرة إري Erie، حيث استطاعت البحرية الأميركية أن تهزم الأسطول البريطاني المرابط هناك، وهو ما أتاح لها إنشاء خطوط تموين وضخ مستمر للقوات من البحيرات، فاضطر البريطانيون للانسحاب نحو الشمال. هذا القرار أدى ذلك لخلافات بين تيكومسي والقيادة البريطانية، إذ أصر الأول على الصمود ومواجهة القوات الأميركية التالية، بينما رفض البريطانيون هذا الطرح من الأساس، وتركوه ليواجه مصيره وحده. وبالنتيجة قتل القائد الهندي الأحمر وتفتت وحدة تحالفه القتالي، وخسر البريطانيون حليفًا قويًا كان قادرًا على إدارة دفة الحرب لصالحهم.
مع هذا فشلت القوات الأميركية تباعًا في الاستيلاء على مدينتي مونتريال وكيبيك الكنديتين بسبب ضعفها وانقساماتها. ولكن في المقابل، لم تكن بريطانيا قادرة على الدفع بثقلها الحربي لحسم هذه الحرب بسبب انشغالها بالجبهة الأوروبية. وهذا ما وفر للأميركيين فرصة تجهيز جيشهم بصورة أفضل تحت قيادات شابة.
في هذه الأثناء، ظل الرئيس الأميركي محتاطًا من خطورة انتهاء الحرب الأوروبية الوشيكة بعد هزيمة الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، لأن هذا كان سيعني تفرغ بريطانيا لمحاربة الولايات المتحدة. ولذا وافق على بدء مفاوضات مع لندن، تأجلت بعض الشيء بسبب غطرسة البريطانيين وشعورهم بضرورة تعزيز وجودهم العسكري في أميركا من أجل السيطرة على المفاوضات وتوجيه مسارها لصالحهم. وهنا أسهمت الانتصارات المحدودة للبحرية الأميركية على نظيرتها البريطانية في تقوية عزيمة الأميركيين للمواجهات المقبلة.
بعدها دفعت لندن حملة تلو أخرى، ونقلت الحرب من البحار وكندا إلى قلب الولايات المتحدة، وشنت حملة عسكرية قوية في الشرق الأميركي استطاعت احتلال العاصمة واشنطن، وأحرقتها تمامًا في مشهد مأسوي لم يتكرّر في تاريخ الولايات المتحدة. وعندها اضطرت الحكومة الأميركية للانسحاب معيدة إلى الأذهان انسحاب الكونغرس من فيلادلفيا إبان «حروب الاستقلال» ضد العدو نفسه. وهكذا بدأت الولايات المتحدة تواجه تعقيدات كثيرة، وهي انحسار قوتها العسكرية وتمركزها في الشمال مع انهيار العاصمة، فضلاً عن حالة اقتصادية متردية لوجود البحرية البريطانية قبالة السواحل الأميركية الشرقية ومحاصرتها للبلاد. أما العامل الأهم فكان بداية ظهور توجه خاصة في الولايات الشمالية الشرقية التي كانت ضد الحرب - يطالب بالانسحاب من الاتحاد الأميركي.
وهنا لعب القدر دوره من خلال معركتين حربيتين فاصلتين غيرتا مجرى الحرب: الأولى عندما استطاعت البحرية الأميركية المرابطة في خليج بلاتسبورغ (في بحيرة شامبلان بشمال ولاية نيويورك) صد الهجوم البحري البريطاني الذي كان كفيلاً بفتح باب التموين والإمداد للجيوش المتتالية لغزو الولايات المتحدة من الشرق. والثانية كانت حول حصن ماكهنري في مدينة بولتيمور، إذ صمد هذا الحصن البحري أمام الهجمات البريطانية المتتالية، فأوقف أي تقدم بريطاني ودفع البريطانيين للانسحاب من هذه المنطقة بحريًا، وأنهى إمكانية التموين والإمدادات لقواتهم تمامًا.
وتزامن مع ذلك تحرك سريع من قبل الولايات المتحدة لتعزيز وجودها العسكري لمواجهة القوات البريطانية، بما جعل في استطاعتها أن وقف أي تقدم بريطاني نحو الغرب. وكانت آخر المحاولات البريطانية الجادة محاولة غزو الجنوب الأميركي من نيو أورليانز (ولاية لويزيانا)، عندما بعثت بحملة قوامها أكثر من خمسة آلاف جندي، لكن واشنطن أرسلت على الفور قائدًا شرسًا - تولى الرئاسة الأميركية بعد ذلك - هو الجنرال آندرو جاكسون، الذي أفلح بتنظيم الصفوف وحشد الجيش اللازم من الميليشيات المختلفة من الهنود والعبيد والمواطنين، واستطاع صد المحاولة البريطانية لعبور نهر الميسيسيبي، وألحق هزيمة ساحقة بالبريطانيين.
كانت نتيجة هذه التحركات العسكرية موافقة بريطانيا على إنهاء الحرب، متخلية عن الشروط التي كانت وضعتها في مطلع المفاوضات بالاستيلاء على الشمال الشرقي الأميركي وإقامة دولة الهنود الحمر في الغرب، ووقعت «اتفاقية غنت» بين الدولتين لتعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب وتضع نهاية لهذه الحرب الغريبة.
مشهد هذه الحرب يعيد إلى الأذهان خطورة الاندفاع نحو إعلان حرب لا تستطيع الدولة التي تعلنها الانتصار فيها إلا بشق الأنفس، ولكن هذه الحرب كانت في واقع الأمر السبب الرئيسي الذي دفع الساسة الأميركيين للعمل على إنشاء جيش نظامي قوي وأسطول بحري قادر على حماية الدولة بشكل منظم، وهي العقيدة السياسية التي لم تحد عنها الولايات المتحدة حتى اليوم. كذلك أوضحت هذه الحرب خطورة الاعتماد على قادة مفلسين عسكريًا، كما عُدت تقويضًا للأطروحة السياسية الدائرة في الأوساط الأكاديمية التي تزعم أن «الديمقراطيات لا تحارب بعضها»، فهذا مثال على أن الديمقراطيات تحارب بعضها لو أن السياسة الدولية تخرجها من نمط التحالف الذي شاهدناه في القرن العشرين.
ورغم سعي الجميع لمحاولة نسيان هذه الحرب غير الضرورية والغريبة فالطريف فيها أنها شهدت كتابة النشيد الوطني الأميركي على أيدي أحد الصحافيين الأميركيين أثناء متابعته معركة فورت ماكهنري، إذ كتب قصيدة تقرر تلحينها لتصبح النشيد الوطني الأميركي، الذي ينتهي بكلمات «أرض الأحرار وموطن الشجعان».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.