هربًا من «داعش».. عائلات ليبية تلجأ إلى الطرق الصحراوية

الجيش يتجه لطرد التنظيم المتطرف من سرت.. وفتح الطريق الساحلي بين الغرب والشرق

أحد عناصر «داعش سرت» يلقي خطبة الجمعة في «مسجد الرباط» بالمدينة («الشرق الأوسط»)
أحد عناصر «داعش سرت» يلقي خطبة الجمعة في «مسجد الرباط» بالمدينة («الشرق الأوسط»)
TT

هربًا من «داعش».. عائلات ليبية تلجأ إلى الطرق الصحراوية

أحد عناصر «داعش سرت» يلقي خطبة الجمعة في «مسجد الرباط» بالمدينة («الشرق الأوسط»)
أحد عناصر «داعش سرت» يلقي خطبة الجمعة في «مسجد الرباط» بالمدينة («الشرق الأوسط»)

في وقت يستعد فيه الجيش الوطني الليبي، بقيادة الفريق أول خليفة حفتر، لطرد تنظيم داعش من سرت وفتح الطريق الساحلي بين غرب البلاد وشرقها، لجأت عائلات ليبية للدروب الصحراوية للتواصل بين شطري الدولة هربًا من التنظيم الذي يسيطر، منذ صيف العام الماضي، على المدينة الواقعة في الشمال الأوسط من ليبيا، بما فيها الطريق الرئيسي بين أكبر مدينتين وهما طرابلس العاصمة غربًا، وبنغازي في الشرق.
ومن بين مئات المآسي التي تتردد بين الليبيين الذين كانوا يسعون للانتقال بين غرب البلاد وشرقها، تبقى حكاية مهندس البترول في شركة النفط الليبية، عبد الله، واحدة من القصص التي تعبر عن الحظ العاثر لمن تقطعت بهم السُّبُل في دولة تنتشر فيها التنظيمات المتطرفة.
ويقول مبروك سلطان، الأستاذ الأكاديمي في جامعة بنغازي، لـ«الشرق الأوسط» إن العبور بين جانبي ليبيا عن طريق سرت «أصبح محفوفا بالمخاطر.. بعض الناس يضطرون لارتداء ملابس سوداء»، حتى لا يثيروا غضب «داعش»، مشيرا إلى أن «الطريق الساحلي المار من سرت لم يغلق، لكن كل من يدخل منه يتعرض للتفتيش من تنظيم داعش، وإذا كان من الشرطة أو الجيش فيتم حجزه واختطافه».
ويضيف أن «الطرق الالتفافية التي أصبح يلجأ إليها كثير من العابرين بين جانبي البلاد، تزيد عن الطريق العادي من سرت بنحو 600 كيلومتر. من يتكبد هذه المشقة يبحث عن سلامته».
ويقدر عدد النازحين الليبيين في داخل البلاد، واللاجئين خارجها، بنحو مليونين، في دولة نفطية شاسعة المساحة ولا يزيد عدد سكانها على نحو ستة ملايين نسمة. ومنذ خمس سنوات يعاني معظم الليبيين من غياب الأمن وتأخر الرواتب ومن شكوك في قدرة الفرقاء السياسيين على إنهاء الخلافات فيما بينهم، إلا أن السفر بين المدن بات من الكوابيس المزعجة.
أدت الفوضى إلى تفرق ألوف العائلات والأسر بعضها عن بعض، خصوصا تلك التي تعيش في مدن يسيطر عليها «داعش» أو يسيطر على الطرق الرئيسية في البلاد، بما فيها طريق سرت الواصل بين الشرق والغرب، وطريق سبها بين الجنوب والشمال. تمكن «داعش» من سرقة شاحنات طعام ومؤن كانت تمر عبر الطريق الساحلي الشمالي، وطريق سبها الجنوبي، وإعادة بيعها في السوق السوداء، إلى جانب الاستيلاء على منازل تخص مواطني سرت وتأجيرها لعناصر أجنبية تلتحق بالتنظيم. ويعتقد أن عدد العناصر الداعشية في سرت وصل إلى نحو ثلاثة آلاف.
ويسيطر التنظيم على الحدود الإدارية لسرت، وزحف بقواته إلى مناطق محاذية للهلال النفطي وطرد حراس المنشآت النفطية من عدة حقول للبترول، كما تمركز في مدينة هراوة التي تبعد نحو 90 كيلومترا شرق المدينة. ويقوم التنظيم بفرض ضرائب وإتاوات على المواطنين؛ سواء المقيمون أو العابرون، تحت مزاعم منها «جمع الزكاة» و«الجهاد بالمال».
وفرَّ عبد الله، بأسرته وسيارته من طرز «غراند شيروكي»، من تنظيم داعش في سرت، أواخر العام الماضي، بعد أن وضع التنظيم فوهة المسدس على رأس هذا المهندس البالغ من العمر 45 عاما، أمام زوجته وطفليه.
ثم هرب من الحرب التي بدأت تشتعل مجددا بين ميليشيات طرابلس، خصوصا عقب وصول المجلس الرئاسي للعاصمة، ليجد عبد الله نفسه وجها لوجه مع «داعش» من جديد على طريق «طرابلس - ودان». وطلب عبد الله عدم نشر صورته أو اسمه كاملا. ومع أن «الشرق الأوسط» تمكنت من تصوير واقعة المطاردة التي جرت قرب ودان، إلا أنه طلب أيضا عدم نشر الصور التي تظهر فيها أسرته وسياراته، خشية تعرضه للانتقام من «داعش».
لم يدرك الرجل، مثل كثير من الليبيين، أن الدولة تشهد حالة من السيولة وتغيير المواقع بين المجاميع التي تحمل الأسلحة، وأن قوات من «داعش» بدأت تتمدد إلى خارج سرت، وتستعد لمواجهة هجوم للجيش، رغم أن الجيش نفسه يواجه مشكلات في توفير الأسلحة وتعترضه خصومات مع عدة ميليشيات في غرب البلاد. ويقول الأكاديمي سلطان: «رغم المحنة التي تتعرض لها سرت، فإن العالم يبدو أنه لا يريد أن يسلط الضوء على المعاناة التي يتسبب فيها وجود (داعش) بالمدينة وسيطرته على الطريق الساحلي».
في الأسبوع الماضي بدأ كثير من الليبيين ممن أصبحوا يخشون وقوع اقتتال بين ميليشيات العاصمة، في التحرك من «طرابلس» إلى الشرق، لكن عبر الطريق المؤدي إلى بلدة «ودان» التي تبعد إلى الجنوب من العاصمة بنحو 600 كيلومتر. ويمر الطريق المرصوف بالقار وسط فيافي جرداء.
وكما هي الحال لقوافل الليبيين الصغيرة التائهة في الصحراء، كان عبد الله يريد أن يصل إلى «ودان» لعدة أسباب؛ منها الابتعاد عن مناطق نفوذ «داعش» في بلدته سرت، وأن يتزود بالمؤن والوقود، ثم يبدأ في رحلة الصعود إلى الشمال الشرقي لكي يصل إلى أقاربه في بنغازي الواقعة على بعد نحو 800 كيلومتر من «ودان».
غالبية الليبيين، وقبل أن يتحركوا بسياراتهم على الطرق السريعة التي تتماس مع أماكن وجود المتطرفين، يقومون بعملية معقدة من الاتصالات والتحري للتأكد من أن هذا الطريق آمن أم غير آمن. وكما يقول المثل: «الحاجة أم الاختراع»، فقد ظهرت بين أيدي الشباب خرائط مطبوعة من الإنترنت تخص دروبًا ترابية وطرقًا قديمة مرصوفة بالقطران، تمر من جنوب سرت بمئات الكيلومترات، وغالبيتها كان مهجورا منذ سنين، لكن آثارها ما زالت هناك بطريقة ما.
ويوضح الأكاديمي الجامعي في بنغازي، المبروك سلطان، مجددا أن مساحة ليبيا «تشبه مساحة القارة»، ولهذا وجد الليبيون دروبا وطرقا أخرى للتحرك بعيدا عن سيطرة «داعش» في سرت.. «هناك مناطق قبل سرت تحت سيطرة التنظيم أيضا، ولا توجد ضمانات لأي شخص يعبر من هذه المنطقة. لا وجود للدولة»، مشيرا إلى أن «أحد طرق الالتفاف من الجنوب يمر من منطقة هون، ومنها إلى بلدة زلة في الجنوب، وبعد ذلك إلى منطقة مرادة، ثم العقيلة.. كل هذه المشقة من أجل الابتعاد عن الطريق الساحلي من سرت».
بعض الطرق الأخرى تبدأ من حدود بنغازي الجنوبية.. ومنها ما يصل إلى إجدابيا، وطرق أخرى تهبط إلى الجنوب وتتفرع بين الاتجاه الشرقي حيث بلدة أوجلة ومدينة الكفرة، والاتجاه غربا حيث مدينة الجفرة وبني وليد وبلدة ودان. ومن هناك يمكن أن تعبر شمالا إلى طرابلس، أو العكس، إلى بنغازي.
حتى أسابيع قليلة مضت، لم يكن الطريق الالتفافي بين طرابلس وبنغازي، عبر ودان، يشكل أي خطر، لكن خروج مجاميع من الدواعش من سرت، تسبب في عدة حوادث بين العناصر الدموية وغالبيتها من الأجانب، ومن اصطدموا معهم على الطرق الجنوبية، مما أدى إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى. وكان آخر هذه المواجهات في منطقة السدادة في نطاق بلدة بني وليد.
بعد نحو 400 كيلومتر من طرابلس، فوجئ عبد الله بموكب لـ«داعش» يتكون من ثلاث سيارات.. يقول: «كانت زوجتي نائمة في مقعدها. وفي الكنبة الخلفية كان ابني محمود (10 سنوات) وابنتي غادة (13 سنة) نائمان أيضا. رأيت من بعيد السيارات وفوقها علم (داعش). كانوا متوقفين على جانب الطريق، ولم ينتبهوا إلا بعد أن اقتربت منهم، وعليه قررت أن انطلق بأقصى سرعة».
هل فتحوا النار.. هل حاولوا اللحاق به؟ يجيب قائلا: «لا أعرف.. لحظتها لم أكن أرى. المهم تخطت سرعة سيارتي 190 كيلومترا في الساعة، وبعد نحو خمسين كيلومترا، انفجر الإطار الخلفي، وانحرفت في الرمال، ثم انقلبت وتعطلت. والحمد لله كانت الإصابات بسيطة، لكن بقينا في رعب وحدنا في الصحراء، خوفا من أن يلحق بنا الدواعش، وذلك من العصر حتى العشاء. وأنقذنا شباب من بلدة ودان كانوا عائدين من طرابلس».
تزامنت تلك الحادثة مع هجوم نفذه «داعش» على مشارف بلدة ودان سقط فيه قتيل واحد من البلدة وعدد غير معروف من الدواعش. وحين جرى قطر سيارة عبد الله والدخول بها مع أسرته إلى ودان، ظن كثيرون أنه من ضحايا المعركة التي جرت قبل يومين على حدود المنطقة. وأصبحت القصة واحدة من بين كثير من القصص المأساوية التي انتشرت بخصوص محاولات المواطنين للانتقال بين جانبي البلاد عبر التجمعات الصحراوية الصغيرة البعيدة عن مدينة سرت من ناحية الجنوب الأوسط.
وتحتضن بلدات «ودان» و«بني وليد» و«الجفرة» وغيرها، في الوقت الراهن، أسرًا ليبية بعد أن تقطعت بها السبل وبعد أن كانت تأمل في الانتقال من الشرق إلى الغرب أو العكس.. في الليل يتجمع الرجال في غرف الضيافة في «ودان» التي يكثر فيها النخيل، للاستماع إلى قصص غالبيتها يدور عن تنظيم داعش في سرت والفظائع التي ارتكبها بحق أشخاص معروفين من القبائل والجيش وحرس المنشآت النفطية.
سيطرة «داعش» على سرت منذ قرابة عشرة أشهر، أدت إلى استيلاء التنظيم المتطرف على الطريق الرئيسي الذي يصل بين شطري الدولة. وتعرض عشرات المواطنين الليبيين، ممن حاولوا العبور من خلال هذا الطريق، للقتل والتعذيب والسرقة على أيدي التنظيم، ولهذا بدأ كثير من الليبيين البحث عن دروب وطرق بديلة كانت أساسا تخص شركات التنقيب عن البترول، وجلب البلح من الواحات، وتخص أيضا تحركات الجيش في زمن القذافي.
وفي الأشهر القليلة الماضية جرى استخدام مثل هذه المسالك الالتفافية والصعبة، على نطاق لافت، بين العائلات الليبية التي ترغب في الانتقال بين طرابلس وبلدات الغرب وبنغازي وبلدات الشرق، بعيدا عن «داعش سرت». كانت هناك محاولات من جانب بعض المواطنين العالقين بين شطري البلاد لاستخدام البحر للانتقال عبر المراكب من شرق البلاد إلى غربها، مرورا بخليج سرت، لكن المشكلة أن «داعش» يراقب هذا الخليج عن طريق عناصر مدربة تتمركز في ميناء المدينة يطلق عليها التنظيم اسم «فيلق البحر».
أما الانتقال بالطائرات فما زال صعب المنال بعد أن تسببت حروب الميليشيات في تدمير مطار طرابلس الدولي وحرقه. ويوجد في العاصمة مطار آخر هو «امعيتيقة» لكن حركة الطيران الداخلي فيه محفوفة بالمخاطر بسبب خضوعه لسيطرة جماعات لا تتتبع السلطات الشرعية. أضف إلى ذلك تراجع عدد المطارات في المنطقة الشرقية بعد تخريب الحرب الأهلية مطار بنينة في بنغازي، وسيطرة «داعش» على مطار القرضابية في سرت نفسها.
ورغم استمرار الحظر الدولي على تسليحه، فإن الجيش تمكن من تحقيق انتصارات صعبة ولافتة على المجاميع الداعشية والمتطرفة في مدينتي درنة وبنغازي. العسكريون ومن معهم من متطوعين قادمين من الشرق، يرددون الأهازيج والأغاني الشعبية على هدير محركات آليات الجيش، وتمكنوا قبل يومين من اجتياز الطريق الطويل الواصل بين بنغازي وإجدابيا. ويقول الضابط حسن العبيدي، أحد القادة العسكريين في جيش حفتر: «يبدو أن المجتمع الدولي غير متحمس لمؤازرة حفتر، لكن نحن معه، ومن شأن التقدم على عدة جهات أن يغير المعادلة على الأرض. هذا ما قمنا به في بنغازي».
طريق «بنغازي - إجدابيا» يعد مدخلا رئيسيا في اتجاه الهلال النفطي الذي يحوي نحو 60 في المائة من مخزون البترول الليبي، وفي اتجاه مدينة سرت أيضا. هذا الطريق الذي يبدأ من منطقة «قار يونس»، كان قبل شهر من الآن، تحت سيطرة جماعات متطرفة تتعاون مع «داعش»، من بينهم مقاتلون من «جماعة الإخوان» ومن «أنصار الشريعة» ومن «الجماعة الليبية المقاتلة»، ولم يكن من المأمون السير فيه من جانب سائقي الشاحنات وسيارات المسافرين، أو حتى الجيش. ويضيف العبيدي قائلا: «نحن أصبحنا هنا.. الأمور تغيرت».
رحلة المهندس عبد الله بدأت منذ خروجه من مدينته سرت التي قُتل فيها معمر القذافي عام 2011، حتى وصوله إلى هنا في بلدة «ودان». وفي ديسمبر (كانون الأول) 2015، ترك منزله الكائن خلف مسجد الصحابة بالمدينة، وحمل أسرته، وتوجه بسيارته إلى طرابلس، طلبا للأمان، بعد أن أصبحت سرت تحت سلطة التنظيم المتطرف منذ صيف العام الماضي.
توقف كثير من حقول النفط عن العمل، وتراجعت كمية التصدير من 1.6 مليون برميل يوميا في أيام القذافي، إلى أقل من 350 ألف برميل هذه الأيام، مما جعل المهندس عبد الله يقضي معظم أيام الأسبوع بعيدا عن مقر عمله في حقل الشركة جنوب المدينة، وغير قادر في الوقت نفسه على السفر إلى أقاربه في بنغازي التي كانت تخضع لسيطرة المتطرفين وتدور فيها حرب ضروس ولم يتمكن الجيش من حسم المعركة فيها إلا الشهر الماضي.
أصبح عبد الله يصلي الأوقات الخمسة في المسجد المجاور لبيته «انتظارا للفرج»، وأملا في نزول راتبه في مصرف المدينة، حيث كان يتابع عبر التلفزيون محاولات الأمم المتحدة تقريب وجهات النظر بين عدد من الأطراف الليبية، في الحوار الذي عرف باسم «حوار الصخيرات»، لكن الدواعش سيطروا سريعا على المسجد، وعلى الإذاعة المحلية للمدينة، ونفذوا حملة لإزالة الأطباق اللاقطة للمحطات التلفزيونية من فوق أسطح البيوت.
يقول إنه بدأ يشعر بالخطر. كانت أعداد الدواعش تزداد في سرت من جنسيات مختلفة يأتون عبر البر وعبر البحر ويأكلون كل شيء في المدينة مثل الجراد.. «سيطروا أيضا على مقار الحكومة، وعلى قاعة المؤتمرات الدولية المعروفة باسم (واغادوغو)، التي كانت تستقبل في عهد القذافي زعماء من الدول العربية والأفريقية».
ومع ذلك، لم يتخذ المهندس عبد الله وعدد من جيرانه قرار الفرار من المدينة إلا بعد حملة القتل التي نفذها «داعش» ضد ضباط متقاعدين ومسؤولين محليين ورجال دين معتدلين. ويضيف: «في ذلك اليوم أطلقوا النار على جاري وعلقوه على الصاري لأنه كان في يوم من الأيام القديمة ضابطا في الدولة».
أثناء خروجه من سرت، أوقفته دورية داعشية تتكون من 7 عناصر أفريقية، على الطريق الغربي الفرعي المؤدي إلى الطريق الساحلي الرئيسي المتجه إلى طرابلس، خارج المدينة. يقول: «أولا سألوني من أين أنت؟ ولأنني أعرف الإجابة التي يريدونها فقلت لهم: من (الدولة الإسلامية) في سرت. لو كنت قلت لهم إنني من سرت فقط، لضربوني أو قتلوني. إجابتي سهّلت الأمور. فحصوا بطاقة الهوية وراجعوا بياناتها على حاسب إلى جوال.. ثم طرحوا أسئلة أخرى عن الشهادة التي يقولها المسلم كدليل على الإيمان بالله ورسوله. أجبت، لكنهم قرروا أن أخضع لـ(الاستتابة)».
ويضيف عبد الله: «صوَّب أحدهم مسدسه إلى رأسي وأمرني أن أجثو على ركبتي. بدأ رجل آخر، أعتقد من لكنته أنه سوداني الجنسية، يلقنني قول الشهادة بطريقته، والتي لم تكن في الحقيقة تختلف كثيرا عما ذكرته لهم في البداية.. مجرد إعادة صياغة. المهم نفذت ما أرادوه بحذافيره، بينما كان أطفالي وزوجتي يشاهدون ما يجري من خلف زجاج السيارة. كنت أخشى أن يفجروا رأسي أمامهم».
كانت هذه أول مرة يتعامل فيها عبد الله، وجها لوجه، مع عناصر من تنظيم داعش في سرت. وبينما كانت وجهته الفرار إلى العاصمة، كانت مئات العائلات الأخرى تهرب إلى مدن ليبية لا يوجد خطر على الطرق المؤدية إليها، بينما لجأ بعض العائلات للإقامة في تونس أو مصر، انتظارا لما ستسفر عنه الأحداث.
الأمور لم تجر كما كان يأمل.. يوضح عبد الله أن العاصمة، في الأسابيع الماضية، تتحول في الليل إلى مدينة حرب. قذائف مدفعية وقذائف صاروخية، وطائرات تحوم في الظلام، وطلقات للمضادات الأرضية، بينما كانت أسر كثيرة تبحث عن مكان آخر للجوء إليه سواء في الشرق، أي في مدن البيضاء وطبرق وغيرهما، أو حتى خارج البلاد.. «وبعد أن علمت بأن الجيش دخل إلى بنغازي ونظفها من المتطرفين، قررت أن أترك العاصمة وأن أتوجه إلى أقاربي في بنغازي، عبر طريق طرابلس ودان».
من جانبهم، يتطلع أبناء سرت ممن لجأوا لمدن وبلدان أخرى، لحسم الجيش للعملية سريعا، حتى يتمكنوا من العودة إلى ديارهم والاطمئنان على ذويهم. وتوجد مخاوف من أن يستخدم تنظيم داعش الأهالي المحاصرين في سرت دروعا بشرية في حال تعرضه للهجوم. ويقول المبروك سلطان: «يوجد تحشيد من الجيش، ويبدو أن هناك تصميما على دخوله إلى سرت، لكن الموعد غير معروف. القوات انتقلت إلى مناطق قريبة. وتدريجيا نتوقع أنه ستوضع نقاط تفتيش وسيتقدمون حين تصدر الأوامر العسكرية».
ومنذ الأسبوع الماضي بدأت أرتال من آليات الجيش الوطني بقيادة حفتر، في التحرك من مواقعها في شرق البلاد، في اتجاه سرت، لتحريرها من التنظيم الدموي، حيث يمكن بعدها، كما يأمل كثير من الناس هنا، إعادة فتح الطريق الساحلي، وتأمين عبور المواطنين بين جانبي الدولة.



الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».