عراق نوري المالكي.. زمن الخطايا الكبرى

ورث عن صدام ديكتاتوريته وأسوأ أيامه.. وأضاف الطائفية والفوضى (1)

نوري المالكي
نوري المالكي
TT

عراق نوري المالكي.. زمن الخطايا الكبرى

نوري المالكي
نوري المالكي

صعد نوري كامل المالكي إلى سدة رئاسة الوزراء في العراق، في غفلة مِن الزمن، على حد تعبير راج بين سياسيين عراقيين عدة. ولم يكن شغله هذا المنصب قد جرى وفق تخطيط مسبق، أو نتيجة لميزات خاصة يتمتع بها، جعلته أفضل من يتولى هذا المنصب، أو الأكثر كفاءة بين السياسيين المتنافسين على الحكم في تلك الفترة، التي أعقبت سقوط النظام العراقي السابق على أيدي الأميركيين.
قصة المالكي بدأت منذ اختار الائتلاف الوطني، أو التكتل الشيعي، أن تكون رئاسة الوزراء من نصيب حزب الدعوة الإسلامية، وهو الحزب الأقل عددا وقوة، بين الأحزاب والتنظيمات العراقية السياسية الأخرى. فقد عاش كوادر هذا الحزب فترة طويلة خارج العراق، وعادوا إليه في أعقاب الاحتلال الأميركي، في وقت كان تعداد من كان منهم في الداخل، لا يتعدى العشرات. ولم يكن في حسبان بقية الائتلاف الشيعي أن ينفرد نوري المالكي بالسلطة، مثلما حصل في ولايته الثانية؛ فقد حل المالكي محل إبراهيم الجعفري، الذي رفضته القوى الكردية وبقية القوى السياسية الأخرى، ولم يتمكن من إدارة الملفات الساخنة. وكان الأخير متمسكا بمنصبه، لكن إشارة من الأميركيين، وكان لهم الكلمة العليا، قضت بأن يخرج الجعفري من الحكم في إطار اتفاق يحل نوري المالكي بموجبه في مكانه. وهكذا تمكن المالكي من إزاحة الجعفري سريعا، من قيادة حزب الدعوة، وتولى الأمر مكانه، وجمع إلى قيادة الحزب رئاسته للوزراء.

ولد نوري المالكي في مدينة طويريج، التابعة لمحافظة بابل العام 1950. وحسب سيرته الرسمية، فقد حصل على شهادة من كلية أصول الدين، وماجستير من جامعة صلاح الدين في أربيل، في تسعينات القرن الماضي. وقد أشرف على أطروحته، السياسي الكردي المعروف فؤاد معصوم. وقد طبع أطروحته بعد ذلك، ونشرها في كتاب. كان المالكي، وقتها، في صفوف المعارضة العراقية، أما قبل ذلك، فقد كان عضوا في حزب الدعوة الإسلامية، لكنه لم يكن معروفا، حينذاك، على مستوى قيادة الحزب. وسبق للمالكي أن تحدث إلى إحدى القنوات الفضائية عن تلك الفترة، وعلى الرغم من ذلك، لم يتعرض للملاحقة أو الاعتقال من قبل أجهزة الأمن العراقية في زمن صدام حسين، وتمكن من مغادرة العراق مثل مئات آخرين، سواء من عناصر القوى اليسارية أو الدينية.
غادر المالكي العراق إلى سوريا أولا، ثم إلى إيران حيث أقام فترة من الزمن. وبعد نشوب خلافات مع المجلس الأعلى، سلم حزب الدعوة معسكر الصدر، وكان من فيه يقاتلون الجيش الإيراني ضد جيش بلادهم العراقي. وخضع أفراد هذا المعسكر لإمرة الجيش الثوري الإيراني. وكان المالكي وجماعة من أعضاء حزب الدعوة، قد تدربوا عسكريا على يد ضباط من قوات «سرايا الدفاع» السورية التي كان يقودها رفعت الأسد، شقيق الراحل حافظ الأسد، حيث انتقلوا، بعد ذلك، إلى إيران للاشتراك في عمليات عسكرية، وعمليات تفجير ضد النظام العراقي السابق.

* من جواد إلى نوري
* مما نُسب إلى حزب الدعوة، أثناء وجود نوري المالكي في سوريا، تفجير السفارة العراقية في بيروت (1981)، الذي راح ضحيته أكثر من 60 شخصا، منهم الصحافية العراقية بلقيس الراوي، زوجة الشاعر السوري نزار قباني. حينها كان نوري المالكي يدعى جواد المالكي، وظل يتعامل باسمه القديم ذلك، إلى أن أصبح رئيسا للوزراء في أول مايو (أيار) 2006.
عاش جواد المالكي في سوريا، أكثر من 20 عاما، كان خلالها، مسؤولا عن نشرة صحافية حزبية شهرية، يصدرها حزب الدعوة الذي ينتمي إليه. وكان الحزب، حينها، يتعامل مع المخابرات السورية، مقابل عدد من الامتيازات، منها استخدام الطريق العسكري بين دمشق وبيروت، والقيام بنشاط معارض للنظام العراقي السابق.
كل من عرف نوري المالكي في تلك الفترة، تحدث عن جواد المالكي، الإنسان البسيط الذي يتحاشى خوض النقاشات السياسية أو الفكرية، ويرتدي الدشداشة بشكل دائم، ويقيم في حي الست زينب. ولم يكن أحد يتصور، بعد سقوط صدام حسين ونظامه، أن يتجاوز المالكي مكانته كمدير في التربية والتعليم، وهذا ما كان يقوله هو حتى بعد عودته إلى العراق.
كان مكتب حزب الدعوة في حي الست زينب، يعمل، في ثمانينات القرن الماضي، في إطار إقامة التعازي الدينية. فالحي كان يعج بالحسينيات ومكاتب الأحزاب الدينية الشيعية العراقية. وكان يستخدم الطريق العسكرية إلى لبنان، وما توفره من نقل وتهريب بضائع للسوق السوداء، بما يسميه العراقيون «القجق»، وكان هذا جزءا من توفير دخل للحزب من أجل نفقاته.
لم يبرز جواد المالكي كمتحدث أو مفاوض حزبي، إلى درجة أن وجوها في المعارضة السابقة، لم تسمع باسم الرجل، ولم يترك في أذهانها ذكرى أو صداقة ما، حتى إن الحزب، حاول في الثمانينات، إبراز بعض الشخصيات، التي تتصدى للعمل التنظيمي، فجرى الاتفاق أن تعقد لقاءات مع بعض الأشخاص في صحافته. ولما طُلب من جواد المالكي إجراء لقاء معه، يتناول الأوضاع السياسية في العراق، اعتذر قائلا بالحرف الواحد: «ليس لي في السياسة والفكر من كلام».. وبالفعل، كان ذلك تعبيرا واقعيا عن مستواه وعلاقته بالسياسة والفكر.
حظي الإسلاميون العراقيون برضا الحكومة السورية، وكانوا على علاقة ببعض أجهزتها وخصوصا المخابرات. وهناك كثير من القصص التي تروى في هذا الإطار، ومنها العمل في داخل سوريا أو داخل لبنان.
بعد خرجه من العراق، عاش جواد المالكي في سوريا حتى 1982. وبعد انتهاء فترة تدريبه العسكري على يد سرايا الدفاع، رحل المالكي إلى إيران. ثم عاد لعيش في سوريا مسؤولا في مقر حزب الدعوة، مع شخص آخر، عمل في الكويت، قبل ذلك، لحاما (جزارا)، ظل بصحبة المالكي، ويعمل في توزيع الشاي داخل مكتب الحزب. بعد أن تولى المالكي رئاسة الوزراء، سُلّم الرجل مهمة إدارة مكتبه، وكأن العراق خلا ممن يدير مكتب رئاسة الوزراء، ولم يتبق من خيارات سوى شخص عمل في مكتب الحزب، قبل ذلك، موزعا للشاي.
ظل جواد المالكي طيلة فترة وجوده في سوريا، متواريا عن الأنظار، لا يطلق تصريحا، ولا يقود نشاطا، حتى في إطار مؤتمرات المعارضة العراقية التي راحت تُعقد، بعد حرب الكويت بانتظام، ومن دون أن يصاحبها ضجيج إعلامي، أو ترفع خلالها صورة للمالكي أو يُبَث صوته. لهذا عندما تسلم المالكي حقيبة رئاسة للوزراء، ظل أسير علاقاته السابقة، ولم يتمكن من فك أسره منها ومن كل ما أحاط به وأثّر في شخصيته. كان لم يزل يعيش بعقلية رجل المعارضة، ويعاني من ظروف المعارضة فعلا. تدريجيا، اجتمع الرفاق السابقون حول المالكي، وكان أغلبهم ممن قضى حياته في إيران، والتقى الأصهار والأبناء. ظل الحزب في تلك الفترة، وبوجود جواد المالكي في قيادته في سوريا، يقوم بمهمات يعدّها المالكي وحزبه جهادا، بينما لم تكن في حقيقتها سوى محاولات اغتيال، وعمليات تفجير وتخريب، استفادت منها إيران في حربها مع العراق. وهي مهمات ما كان مكتب حزب الدعوة قادرا على القيام بها، لولا تنسيقه مع مخابرات النظام السوري.
كان تبادل العنف بين النظامين العراقي والسوري على أشده في تلك الفترة. وإذا كان بعض إسلاميي سوريا، كالإخوان المسلمين، قد جرى استغلالهم من قبل نظام البعث العراقي ضد بلادهم، فقد استخدمت سوريا بدورها، القوى الدينية العراقية ضد بلدها أيضا. وقد نفذ عدد من التفجيرات في بغداد، يتحمل حزب الدعوة ومكتبه في دمشق المسؤولية عن بعضها. وهو لم يتردد، على أي حال، في عدّها عمليات «جهادية».
في تلك الأيام، التي واكبت الحرب العراقية - الإيرانية، لم يكن جواد المالكي أكثر من أداة لتنفيذ ما تريده دمشق وطهران من أعمال تخريب. وهو نفسه نوري المالكي، الذي صار رئيسا للوزراء، وقدّم نفسه في وسائل الإعلام، كشخص آخر. فقد سجل حلقات عن حياته «الجهادية»، ذكر فيها العراقيين، بما كان يفعله صدام حسين. وتحدث عن نفسه، بوصفه قاهر الديكتاتور والديكتاتورية، بينما كان أبسط عراقي وقف ضد نظام صدام حسين، قد تعرض لأضعاف ما تعرض له نوري المالكي، ناهيك عن أنه لم يُعتقل أصلا، ولم يجر معه أي تحقيق. وأن أقصى ما جرى بالنسبة له، هو تحريات من قبل أجهزة الأمن، للاشتباه به، أبلغه بها بعثي سابق. ثم قرر الخروج من العراق بعد أن أصدر النظام السابق حكما بالإعدام على كل من ينتمي إلى حزب الدعوة، في أعقاب تفجير الجامعة المستنصرية في أبريل (نيسان) 1980.
أقام جواد المالكي أكثر من 20 عاما في حي الست زينب، في منطقة معروفة بين العراقيين بالحجيرة. وكان يتردد خلالها على الحسينيات المنتشرة هناك من حين إلى آخر، وكذلك على محل للتصوير الفوتوغرافي يملكه عراقي، حيث كان يقضي عنده فترة الصباح. وهناك فكر في القيام بعمل ما، وخصوصا في الفترة الأخيرة التي سبقت سقوط نظام صدام حسين. ففي تلك الفترة، حدث تقارب بين النظامين السوري والعراقي، وأخذ العراقيون من داخل العراق، يتوافدون على سوريا، بعد فتح الحدود التي ظلت مغلقة طوال ثمانينات القرن السابق وتسعيناته. كذلك أخذت العلاقات بين إيران والعراق في التحسن نسبيا، ودشنت بزيارات رسمية بُعيد احتلال الكويت.
فكر المالكي في أن يفتتح مخبزا، لكن سقوط النظام العراقي المفاجئ، قدم فرصة تاريخية له، إذ عطل مشروعه لصالح التغير الكبير الذي سيطرأ على حياته لاحقا.
وخلال سنوات وجوده في الخارج، لم يتمكن المالكي من تحقيق تقدم مرموق على المستوى الدراسي، ولم يستفد حتى من تلك الفترة. فقد ظل أسير العمل الحزبي المغلق والعقلية المتحجرة، وانغلق على تدينه ومذهبه أيضا، مثل جميع من كانوا حوله. نقول هذا، كي نفهم العقلية الغريبة التي تقود الوضع الحالي في العراق. وهي عقلية لا تتجاوز عقلية منطقة الحجيرة وحسينياتها. فموزع الشاي في مكتب الحزب - الجزار السابق في الكويت - تبلغ قيمة أملاكه اليوم، مئات ملايين الدولارات، التي جمعها خلال وجوده إلى جانب نوري المالكي، الذي صار رئيسا لوزراء بلد غني مثل العراق.

* الشرنقة الإيرانية
* كان العمل الحزبي في سوريا مرتبطا بالمخابرات السورية، كما أسلفنا، وكذلك بالعيش على الخصومة بين النظامين البعثيين في سوريا والعراق. وحزب الدعوة الإسلامية، الذي تأسس على أساس عقيدة الإخوان المسلمين السياسية، تقهقر إثر الضربات التي تلقاها من قبل النظام السابق، مما حوله إلى حزب مكاتب، لم يجد قائدا بارزا فيه. وقد رافقت مسيرته الانشقاقات والانقسامات. وتفرع إلى مؤمنين بولاية الفقيه، وهؤلاء ظلوا يعيشون داخل إيران، ومَن ابتعد بعض الشيء عنهم، وهؤلاء توزعوا بين سوريا ودول الشتات الأوروبي.
ليس معيبا أن يعيش المالكي في منطقة فقيرة كمنطقة الحجيرة في سوريا، أو أن يجلس صباحا، على حجر أمام دكان المصور العراقي هناك، يحتسي الشاي، أو يلبس دشداشة وينتعل صندلا طوال يومه، ويعيش الضنك، فهذا لا يعيب الرجل. لكن ما يعيب المالكي فعلا، هو ممارساته ومواقفه السلبية، منذ تسلم منصبه في رئاسة الوزراء. فعلى الرغم من هذه الحياة التي عاشها قبل ذلك، والتي يُفترض أن تجعل منه إنسانا سويا، يتحسس هموم شعبه ويشعر بمعاناته وحاجاته، عمل منذ اليوم الأول، من أجل البقاء في منصبه. ولأجل ذلك، حارب الآخرين، وأخذ يجمع حوله الأقارب والأصهار، ويدير ظهره لمن كانوا معه وشاركوه العمل في موقع واحد. ولم يستطع الخروج من الشرنقة الإيرانية، وظل أسير عقليته من زمن المعارضة، العقلية التي لم يغادرها حتى اليوم.
كان جواد المالكي وبقية أعضاء حزبه ضد الاحتلال الأميركي للعراق. وكانت إيران تسعى لأن يبقى العراق ضعيفا، كما كان في سنوات الحصار الأميركي له. فاستنزاف قوته في الحروب يعد بالنسبة لها أفضل كثيرا من مجيء الجيش الأميركي - أي الشيطان الأكبر، كما تطلق إيران على أميركا - والاستقرار على مقربة من حدودها. في هذا لم يخرج جواد المالكي وحزبه عن الرأي، وكانوا يتحدثون ضد اجتياح الأميركيين. وقد استمروا على هذا الموقف وحتى قُبيل سقوط نظام صدام حسين بقليل. وقد أصدر فرعهم في إيران، ممثلا بعلي الأديب، ويشغل اليوم منصب وزير التعليم العالي، بيانا يهاجم فيه مؤتمر لندن الذي عُقد في منتصف ديسمبر (كانون الأول) 2002.
ومن المثير للاستغراب فعلا، أن يتحول حزب الدعوة الإسلامية الذي أشبع العراقيين زعيقا، إلى أول المستغلين للاجتياح الأميركي للعراق، والمستفيد الأكبر منه. وقد ذكر بول بريمر، في كتابه «عام قضيته في العراق»، الشخصيات السياسية التي تعايش معها. لكنه لم يذكر شيئا، لا من قريب ولا من بعيد، عن جواد المالكي أو نوري. فقد كان إبراهيم الجعفري، هو الرجل البارز بين زعامات حزب الدعوة. وقد حلّ المالكي مكانه في منصبيه الرسمي والحكومي. بمعنى أن المالكي كان في الظل تماما. ولا يعني هذا أن من كان في الظل لا مكان له، أو أنه لا يلعب دورا ما. لكن الحقيقة هي أن المالكي، لم يكن سوى ظلا لإبراهيم الجعفري بالفعل. فهو، كشخص، لا يتمتع بأي طموح يتجاوز إدارة دائرة تربية وتعليم في منطقته، وقد ظل يعيش حتى بعد عودته إلى العراق، باسمه الحركي لأكثر من عام.
عندما سقط النظام، لم يكن من السهل على جواد المالكي تأمين سيارة تنقله إلى بغداد، فذهب إلى أربيل حيث وفر له مسعود بارزاني ولجماعته واسطة نقل. وهناك تأسست الجمعية الوطنية بوجود بول بريمر، وترأسها عضو الاتحاد الوطني الكردستاني ورئيس الكتلة الكردستانية في البرلمان العراقي حاليا. وفجأة ظهر شخص يدعى جواد المالكي، كأحد نوابه في رئاسة الجمعية. غير أنه لم يطلق أي تصريح، أو يعبر عن أي موقف في تلك الفترة، على الرغم من أن بقية أعضاء الجمعية كانوا يظهرون في وسائل الإعلام بنشاط، باستثناء مرة واحد بعد انتهاء أحد اجتماعات الجمعية، حين ظهر شخص غير معروف ليقول: «حضروا بوسترات لكم» (يقصد ملصقات نعي)، معلقا على العمليات الإرهابية التي بدأت تشن آنذاك، حين جرى تفجير مقر الأمم المتحدة، وقتل السيد محمد باقر الحكيم ومعه نحو مائة.
لم يلفت المالكي النظر خلال ظهوره ذاك، مثل بقية السياسيين في مجلس الحكم أو بين معارضي الاحتلال الأميركي. يومها غطى مقتدى الصدر على المشهد تماما، إلى درجة أنه بدأ في تشكيل وزارة لإدارة العراق بخلاف ما شكله الأميركيون في بداية الأمر، كتوأم مع مجلس الحكم. ومن يقرأ كتاب بريمر وما كتب في تلك الفترة، يمكنه أن يتأكد من دور حزب الدعوة الإسلامية ووقوفه إلى جانب الأميركيين، إلى درجة أن أوساطهم تحدثت إليهم في موضوع اعتقال مقتدى الصدر الذي عدّوه عقبة في طريقهم.
بعد رئاسة إياد علاوي لمجلس الوزراء، التي استمرت بضعة أشهر، كحكومة مؤقتة، جاء دور الحكومة الانتقالية، واختلفت الأحزاب والجماعات الشيعية حول منصب رئيس الوزراء. كان أحمد الجلبي، أحد المرشحين للمنصب، باعتباره «صاحب خبرة في الاقتصاد والإدارة»، ويتحدر من عائلة وزراء إبان العهد الملكي، وخريج جامعة راقية. لكن للإيرانيين رأيا آخر وحسابات أخرى، دفعت باتجاه أن يتولى منصب رئاسة الوزراء شخصية إسلامية، والجلبي ليس إسلاميا على الرغم من تقاربه مع إيران آنذاك. وفي لحظات الاختيار بين الجلبي والجعفري، اتصل سفير إيران السابق لدى العراق حسن كاظمي قمي، مبديا اعتراضه على الجلبي، قائلا له: «أنت لست إسلاميا». وبهذا صار إبراهيم الجعفري رئيسا للوزراء، بعد أن شغل نيابة رئاسة الجمهورية عندما كان غازي مشعل الياور رئيسا، وإياد علاوي رئيسا للوزراء.
ولم تمضِ سوى أشهر، حتى جمع إبراهيم الجعفري حوله من هم من حزب الدعوة ومن له صلة سابقة به، واعتمد على شخصيات لا تتمتع بالخبرة في مجال الإدارة. ودبت الخلافات حوله داخل الكتل السياسية. فقد ظهر أن الرجل غير مؤهل لمنصبه. فقد انشغل في تدبيج الخطابات المطولة، التي صار العراقيون يتندرون بها. ولما أجريت الانتخابات الأولى (2005)، حاول إبراهيم الجعفري الاحتفاظ بمنصبه، لكنه فشل في تأمين دعم المرجعية الدينية له، وكذلك الجانب الأميركي. وانتهت الأزمة بأن حل جواد المالكي محل الجعفري. حدث هذا في مايو (أيار) 2006، حين تخلى الجعفري عن موقعه، مقابل ضمانات شخصية للبقاء في القصر الذي يسكنه الآن، وهو من القصور الرئاسية.

* وعود كاذبة
* في تلك اللحظة، قدم جواد المالكي نفسه باسمه الصريح؛ نوري كامل المالكي، وتعهد بأن تكون المصالحة الوطنية في مقدم مهامه، وتكفل بالقضاء على الإرهاب، ووضع حد للفساد المالي والإداري، واحترام الديمقراطية، والتعامل مع أبناء الشعب العراقي بمستوى واحد. وتلقف العراقيون وعود المالكي، رئيس الوزراء الجديد، بكثير من الأمل. صحيح أنهم لم يكونوا قد تعرفوا عليه باسمه أو رأوا صورا له، لكنهم شعروا بأنه مجيئه سيكون حلا لمشكلة، هي تقاسم السلطات على أساس المحاصصة. في ذلك الوقت، ظهر نوري المالكي في ثوب العازف عن السلطة، غير المتطلع إليها بأي حال، بل وتلبّس ثوب الزاهدين بالحكم. لكن مجريات الأمور بعد ذلك، بيّنت العكس تماما. ففي السنوات الأولى من حكمه، أخذ المالكي يقلص الدولة في شخصه ويفصّلها على مقاسه. بدأ يستخدم نفوذه في تصفية الحسابات وإزالة العقبات. واستخدم قوانين قاسية، مثل قانون «اجتثاث البعث»، وهيمن على القضاء. وتخلل العامين الأولين من حكمه حرب طائفية، بعد أن ورث عن الوزارة السابقة، تفجير مرقد سامراء. وغرق 1300 عراقي في نهر دجلة. وأخذ الإرهاب ينتشر وتتصاعد وتيرته. وعلى الرغم من ذلك، لم يكفّ المالكي عن ادعائه الكاذب برفض المحاصصة، في الوقت الذي قبل فيه ترؤس وزارة محاصصة، أطلق هو عليها «وزارة شراكة وطنية». شراكة لم يرَ العراقيون أثرا لها، بعد أن هيمن المالكي على المؤسسات المستقلة في البلاد، ولم يعد هناك أثر لدور «هيئة النزاهة»، ولا المؤسسة المالية (البنك المركزي)، ولا القضاء.
ولئن كانت وزارة إبراهيم الجعفري، قد دشنت الطائفية بمحاكمة صدام حسين على قضية الدجيل، كأول القضايا، فقد قدمت بذلك، خدمة كبيرة تبرئ صدام مما فعله بالشعب العراقي، من خلال ذلك المشهد الهزيل البشع وغير الأخلاقي، الذي تمثل في إعدامه ليلة عيد الأضحى، مما يتنافى مع القانون العراقي المعمول به، الذي لا يجيز تنفيذ حكم الإعدام خلال أيام العطل الرسمية، وأيام الأعياد الدينية بالذات.
لقد استمرت محاكمة صدام نحو ثلاث سنوات. كانت الفكرة، حسب ما كُتب عنها، أن تتحول محاكمته إلى دعاية لحزب الدعوة الإسلامية. فهذا الحزب، كما أسلفنا، فقد وجوده، إلى درجة أن راح من تبقى من كوادره، بعد عودتهم إلى العراق، يتصلون بأشخاص لا علاقة سابقة لهم بالحزب للتغطية على انكشافهم.
كان المطلوب من المحاكمة أن تقدّم حزب الدعوة بوصفه ضحية بين القوى التي عارضت نظام صدام حسين. وأنه هو من وضع الرئيس السابق في قفص الاتهام. ثم جاء المالكي ليوقع قرار تنفيذ الإعدام أمام الكاميرات، ويقول للعراقيين: نحن أصحاب التغيير، بينما كان صدام حسين لدى الأميركيين الذين كانت قواتهم ترابط على أبواب المحكمة. لقد واجه المالكي وحزبه زوبعة انتقاد ولوم شديدين للطريقة التي أُعدم بها صدام حسين، التي كشفت عن موقف طائفي. وكانت حجة المالكي وجماعته، بأنه لو لم يجرِ إعدام صدام ليلتها لهرَّبه الأميركيون. غير أن الواقع وقتها، كان يقول، إن الأميركيين أنفسهم أتوا بصدام إلى منصة المشنقة. وقد تحدث عن هذه القضية رئيس أو مستشار الأمن القومي السابق موفق الربيعي. وكانت تلك أول كذبة يطلقها نوري المالكي وأركان حزبه، وقد دشنت لحرب طائفية، وأسدلت الستار على كثير من أفعال النظام السابق فقد كانت محاكمة الأنفال جارية. كان ذلك في اليوم الأخير من عام 2006، وفي ليلة عيد الأضحى، ولم يستمع نوري المالكي لمناشدة الدولة تأجيل الإعدام بسبب العيد.

* كيف حصل ذلك؟
* جاء في مقال كُتب عن المناسبة بعد فترة من تنفيذ حكم الإعدام، أن المالكي استشار وزير العدل في حكومته في موضوع الإعدام، فقال له: القانون يحرم الإعدام في هذه المناسبة. لكن سرعان ما عُين خضير الخزاعي، وهو يمثل جماعة أخرى من حزب الدعوة، وزيرا للعدل بالوكالة، فوقّع مرسوم الإعدام. واضطر الوزير السابق، إلى تقديم استقالته من وزارة نوري المالكي. لقد تحول الأمر إلى مهزلة، فالدستور يقول شيئا آخر، والمالكي كان أول مَن تجاوز نصوص الدستور، ولا يزال يفعل إلى اليوم كل ما من شأنه زيادة تخريب العراق.



هل يتحول فيروس «الميتانيمو» البشري إلى وباء عالمي؟

تفشي فيروس «الميتانيمو» البشري في الصين يثير قلقاً متزايداً (رويترز)
تفشي فيروس «الميتانيمو» البشري في الصين يثير قلقاً متزايداً (رويترز)
TT

هل يتحول فيروس «الميتانيمو» البشري إلى وباء عالمي؟

تفشي فيروس «الميتانيمو» البشري في الصين يثير قلقاً متزايداً (رويترز)
تفشي فيروس «الميتانيمو» البشري في الصين يثير قلقاً متزايداً (رويترز)

أثارت تقارير عن تفشي فيروس «الميتانيمو» البشري (HMPV) في الصين قلقاً متزايداً بشأن إمكانية تحوله إلى وباء عالمي، وذلك بعد 5 سنوات من أول تنبيه عالمي حول ظهور فيروس كورونا المستجد في ووهان بالصين، الذي تحول لاحقاً إلى جائحة عالمية أسفرت عن وفاة 7 ملايين شخص.

وأظهرت صور وفيديوهات انتشرت عبر منصات التواصل الاجتماعي في الصين أفراداً يرتدون الكمامات في المستشفيات، حيث وصفت تقارير محلية الوضع على أنه مشابه للظهور الأول لفيروس كورونا.

وفي الوقت الذي تتخذ فيه السلطات الصحية تدابير طارئة لمراقبة انتشار الفيروس، أصدر المركز الصيني للسيطرة على الأمراض والوقاية منها بياناً، يوضح فيه معدل الوفيات الناتج عن الفيروس.

وقال المركز، الجمعة، إن «الأطفال، والأشخاص الذين يعانون من ضعف في جهاز المناعة، وكبار السن، هم الفئات الأكثر تعرضاً لهذا الفيروس، وقد يكونون أكثر عرضة للإصابة بعدوى مشتركة مع فيروسات تنفسية أخرى».

وأشار إلى أن الفيروس في الغالب يسبب أعراض نزلات البرد مثل السعال، والحمى، واحتقان الأنف، وضيق التنفس، لكن في بعض الحالات قد يتسبب في التهاب الشعب الهوائية والالتهاب الرئوي في الحالات الشديدة.

وحاولت الحكومة الصينية التقليل من تطور الأحداث، مؤكدة أن هذا التفشي يتكرر بشكل موسمي في فصل الشتاء.

وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، ماو نينغ، الجمعة: «تعد العدوى التنفسية شائعة في موسم الشتاء»، مضيفةً أن الأمراض هذا العام تبدو أقل حدة وانتشاراً مقارنة بالعام الماضي. كما طمأنت المواطنين والسياح، مؤكدة: «أستطيع أن أؤكد لكم أن الحكومة الصينية تهتم بصحة المواطنين الصينيين والأجانب القادمين إلى الصين»، مشيرة إلى أن «السفر إلى الصين آمن».

فيروس «الميتانيمو» البشري

يُعد «الميتانيمو» البشري (HMPV) من الفيروسات التي تسبب التهابات الجهاز التنفسي، ويؤثر على الأشخاص من جميع الأعمار، ويسبب أعراضاً مشابهة للزكام والإنفلونزا. والفيروس ليس جديداً؛ إذ اكتُشف لأول مرة عام 2001، ويُعد من مسببات الأمراض التنفسية الشائعة.

ويشير أستاذ اقتصاديات الصحة وعلم انتشار الأوبئة بجامعة «مصر الدولية»، الدكتور إسلام عنان، إلى أن نسبة انتشاره تتراوح بين 1 و10 في المائة من الأمراض التنفسية الحادة، مع كون الأطفال دون سن الخامسة الأكثر عرضة للإصابة، خاصة في الحالات المرضية الشديدة. ورغم ندرة الوفيات، قد يؤدي الفيروس إلى مضاعفات خطيرة لدى كبار السن وذوي المناعة الضعيفة.

أفراد في الصين يرتدون الكمامات لتجنب الإصابة بالفيروسات (رويترز)

وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن الفيروس ينتشر على مدار العام، لكنه يظهر بشكل أكبر في فصلي الخريف والشتاء، ويمكن أن يُصاب الأشخاص به أكثر من مرة خلال حياتهم، مع تزايد احتمالية الإصابة الشديدة لدى الفئات الأكثر ضعفاً.

وأوضح أن الفيروس ينتقل عبر الرذاذ التنفسي الناتج عن السعال أو العطس، أو من خلال ملامسة الأسطح الملوثة ثم لمس الفم أو الأنف أو العينين. وتشمل أعراضه السعال واحتقان الأنف والعطس والحمى وصعوبة التنفس (في الحالات الشديدة)، وتُعد الأعراض مختلفة عن فيروس كورونا، خاصة مع وجود احتقان الأنف والعطس.

هل يتحول لجائحة؟

كشفت التقارير الواردة من الصين عن أن الارتفاع الحالي في الإصابات بالفيروس تزامن مع الطقس البارد الذي أسهم في انتشار الفيروسات التنفسية، كما أن هذه الزيادة تتماشى مع الاتجاهات الموسمية.

وحتى الآن، لم تصنف منظمة الصحة العالمية الوضع على أنه حالة طوارئ صحية عالمية، لكن ارتفاع الحالات دفع السلطات الصينية لتعزيز أنظمة المراقبة.

في الهند المجاورة، طمأن الدكتور أتول غويل، المدير العام لخدمات الصحة في الهند، الجمهور قائلاً إنه لا داعي للقلق بشأن الوضع الحالي، داعياً الناس إلى اتخاذ الاحتياطات العامة، وفقاً لصحيفة «إيكونوميك تايمز» الهندية.

وأضاف أن الفيروس يشبه أي فيروس تنفسي آخر يسبب نزلات البرد، وقد يسبب أعراضاً مشابهة للإنفلونزا في كبار السن والأطفال.

وتابع قائلاً: «لقد قمنا بتحليل بيانات تفشي الأمراض التنفسية في البلاد، ولم نلاحظ زيادة كبيرة في بيانات عام 2024».

وأضاف: «البيانات من الفترة بين 16 و22 ديسمبر 2024 تشير إلى زيادة حديثة في التهابات الجهاز التنفسي الحادة، بما في ذلك الإنفلونزا الموسمية، وفيروسات الأنف، وفيروس الجهاز التنفسي المخلوي (RSV)، و(HMPV). ومع ذلك، فإن حجم وشدة الأمراض التنفسية المعدية في الصين هذا العام أقل من العام الماضي».

في السياق ذاته، يشير عنان إلى أن الفيروس من الصعب للغاية أن يتحول إلى وباء عالمي، فالفيروس قديم، وتحدث منه موجات سنوية. ويضيف أن الفيروس لا يحمل المقومات اللازمة لأن يصبح وباءً عالمياً، مثل الانتشار السريع على المستوى العالمي، وتفاقم الإصابات ودخول المستشفيات بكثرة نتيجة الإصابة، وعدم إمكانية العلاج، أو عدم وجود لقاح. ورغم عدم توافر لقاح للفيروس، فإن معظم الحالات تتعافى بمجرد معالجة الأعراض.

ووافقه الرأي الدكتور مجدي بدران، عضو «الجمعية المصرية للحساسية والمناعة» و«الجمعية العالمية للحساسية»، مؤكداً أن زيادة حالات الإصابة بالفيروس في بعض المناطق الصينية مرتبطة بذروة نشاط فيروسات الجهاز التنفسي في فصل الشتاء.

وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن الصين تشهد بفضل تعدادها السكاني الكبير ومناطقها المزدحمة ارتفاعاً في الإصابات، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة تحول الفيروس إلى تهديد عالمي. وحتى الآن، تظل الإصابات محلية ومحدودة التأثير مقارنة بفيروسات أخرى.

وأوضح بدران أن معظم حالات فيروس «الميتانيمو» تكون خفيفة، ولكن 5 إلى 16 في المائة من الأطفال قد يصابون بعدوى تنفسية سفلى مثل الالتهاب الرئوي.

تفشي فيروس «الميتانيمو» البشري في الصين يثير قلقاً متزايداً (رويترز)

وأكد أنه لا توجد تقارير عن تفشٍّ واسع النطاق للفيروس داخل الصين أو خارجها حتى الآن، مشيراً إلى أن الفيروس ينتقل عبر الرذاذ التنفسي والاتصال المباشر، لكنه أقل قدرة على الانتشار السريع عالمياً مقارنة بكوفيد-19، ولتحوله إلى جائحة، يتطلب ذلك تحورات تزيد من قدرته على الانتشار أو التسبب في أعراض شديدة.

ومع ذلك، شدّد على أن الفيروس يظل مصدر قلق صحي محلي أو موسمي، خاصة بين الفئات الأكثر عرضة للخطر.

طرق الوقاية والعلاج

لا يوجد علاج محدد لـ«الميتانيمو» البشري، كما هو الحال مع فيروسات أخرى مثل الإنفلونزا والفيروس المخلوي التنفسي، حيث يركز العلاج بشكل أساسي على تخفيف الأعراض المصاحبة للعدوى، وفق عنان. وأضاف أنه في الحالات الخفيفة، يُوصى باستخدام مسكنات الألم لتخفيف الأوجاع العامة وخافضات الحرارة لمعالجة الحمى. أما في الحالات الشديدة، فقد يتطلب الأمر تقديم دعم تنفسي لمساعدة المرضى على التنفس، بالإضافة إلى توفير الرعاية الطبية داخل المستشفى عند تفاقم الأعراض.

وأضاف أنه من المهم التركيز على الوقاية وتقليل فرص العدوى باعتبارها الخيار الأمثل في ظل غياب علاج أو لقاح مخصص لهذا الفيروس.

ولتجنب حدوث جائحة، ينصح بدران بتعزيز الوعي بالوقاية من خلال غسل اليدين بانتظام وبطريقة صحيحة، وارتداء الكمامات في الأماكن المزدحمة أو عند ظهور أعراض تنفسية، بالإضافة إلى تجنب الاتصال المباشر مع المصابين. كما يتعين تعزيز الأبحاث لتطوير لقاحات أو علاجات فعّالة للفيروس، إلى جانب متابعة تحورات الفيروس ورصد أي تغييرات قد تزيد من قدرته على الانتشار أو تسبب أعراضاً أشد.