ابن قدامة المقدسي وذم التأويل والاجتهاد العقلي

مؤلفاته متنوعة وتشهد على اهتمامات أهل العلم في عصره

ابن قدامة المقدسي وذم التأويل والاجتهاد العقلي
TT

ابن قدامة المقدسي وذم التأويل والاجتهاد العقلي

ابن قدامة المقدسي وذم التأويل والاجتهاد العقلي

أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي الجماعيلي والدمشقي الصالحي الحنبلي (541 - 620 هـ)، المعروف، اختصارًا، بابن قدامة المقدسي، ولد بجماعيل (نابلس - فلسطين). ورحل إلى دمشق في عقده الأول مع أهله وعائلته. وتلقى علومه من كبار مشايخ دمشق وعلمائها. وسافر إلى بغداد أربع سنوات لتلقي العلوم، ليعود إلى دمشق، حيث عاش إلى أن وافته المنية، ودُفن في دمشق بجبل قاسيون، خلف الجامع المظفري.
ترك مؤلفات متنوعة تشهد على اهتمامات أهل العلم في عصره، منها: «العمدة»، و«المقنع»، و«الكافي»، و«المغني»، و«الاستبصار»، و«في الأنساب»، و«الاعتقاد»، و«التوابين»، و«ذم الوسواس»، و«روضة الناضر وجنة المناظر»، و«فضائل الصحابة»، و«القدر»، و«لمعة الاعتقاد»، و«مسألة في تحريم النظر في علم الكلام»، و«مناسك الحج»، و«ذم التأويل» وغيرها. ويعد الأخير (نشر عن: «الدار السلفي» - الكويت، في طبعته الأولى سنة 1406، وهو من تحقيق: بدر بن عبد الله البدر)، واحدًا من كتب التراث التي تؤسس لتحريم التأويل والاجتهاد، سيرًا على هدي شيوخه.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أبواب: بيّن في الأول مذهب السلف الصالح وسبيلهم. وحث في الثاني، على اتباعهم ولزوم أثرهم. وفي الثالث، أبان صواب ما صار إليه السلف، وأن الحق فيما كانوا عليه. ويهدف في ذلك إلى إبراز قول السلف في أسماء الله وصفاته، وينصح بضرورة اتباعهم ومحبتهم، والرد على الشقاق عن الرسول باعتبار مآلهم نار جهنم.
يشدد المقدسي على ذم التأويل، مستندًا في ذلك على نصوص قرآنية وأحاديث نبوية، وبعض الأخبار المتداولة في التراث الشفوي في مساجد بغداد ودمشق، ليخلص إلى أن:
التأويل من أهل جهنم والزنادقة (ويقصد تحديدًا المعتزلة والجهميين والفلاسفة).
التأويل ليس بواجب بالإجماع، ولو كان كذلك، فالنبي وأصحابه أخلُّوا بهذا الواجب. وهذا محال، وغير جائز قوله.
يتعين تحريم التأويل.
لا يُلزِم أحدًا الكلام في التأويل.
ينبغي أن يُعلم أن الأخبار الصحيحة التي ثبت بها صفات الله تعالى، هي الأخبار الصحيحة الثابتة بنقل العدول الثقات، التي قبلها السلف ونقلوها ولم ينكروها ولا تكلموا فيها. وأما الأحاديث الموضوعة التي وضعها الزنادقة ليلبسوا بها على أهل الإسلام، أو الأحاديث الضعيفة، إما لضعف رواتها أو جهالتهم، أو لعلةٍ فيها لا يجوز أن يقال بها ولا اعتقاد ما فيها، بل وجودها كعدمها، وما وضعته الزنادقة، فهو كقولهم الذي أضافوه إلى أنفسهم.
طريقة السلف رحمة الله عليهم جامعةٌ لكل خير.
يدعو الشيخ السلفي إلى ضرورة الإيمان بصفات الله، سيرًا على نهج السلف الصالح، وهي الصفات التي وصف بها نفسه في آياته وتنزيله وعلى لسان الرسول، من غير زيادةٍ ولا نقصان ولا تجاوز لها ولا تفسير ولا تأويل، بما يخالف ظاهره.
ويعتبر أن السلف لم يقبلوا التأويل، بدليل أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم وأخبار الرسول نقل مصدقٍ لها مؤمنٍ بها، قابلٍ لها، غير مرتاب فيها، ولا شاكّ في صدق قائلها. ويحاج بسيل من الروايات والمحكيات، لبيان صدق وصحة أهل السلف، في عدم الدعوة إلى التأويل، وخصوصًا صفات الله. لذلك يقول: «أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي، حيث أنبأنا أبو الحسن محمد بن مرزوق ابن عبد الرازق الزعفراني، أنبأنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الطيب قال: (أما الكلام في الصفات، فإن ما روي منها في السنن الصحاح، مذهب السلف رضي الله عنهم، إثباتها وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها). والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرعٌ على الكلام في الذات. ويُحتذى في ذلك حذوه ومثاله. فإذا كان معلومًا أن إثبات رب العالمين تعالى، إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف. فإذا قلنا لله تعالى يد وسمع وبصر، فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله تعالى لنفسه. ولا نقول إن معنى اليد القدرة. ولا إن معنى السمع والبصر العلم. ولا نقول إنها الجوارح. ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح، وأدوات الفعل. ونقول إنما ورد إثباتها، لأن التوقيف ورد بها ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تبارك وتعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)، الشورى (11). وقوله تعالى: (ولم يكن له كفوا أحد). الإخلاص (الآية 4)».
ويذهب إلى أن المعتزلة والجهمية أصحاب تحريف وتشبيه. وكل من لم يؤمن بصفات الله، كما هي ظاهرة في النص، فهو كافر: «حرام على العقول أن تمثل الله تعالى، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الضمائر أن تعمق، وعلى الخواطر أن تحيط، وعلى العقول أن تعقل، إلا ما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان نبيه». وحجته في ذلك، أن العقل قاصر عن إدراك باطن النص القرآني، ولا يجوز له التعقل. ومن زعم غير ما أقره ظاهر النص، فهو معطلٌ جهمي. وأكثر من ذلك، يعتبر السؤال عن النص بدعة: «والسؤال عنه بدعة لأنه سؤال عما لا سبيل إلى علمه، ولا يجوز الكلام فيه، ولم يسبق في ذلك في زمن رسول الله ولا من بعده من أصحابه». والحجة هنا حجة ضعيفة، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ارتباط النص بسياقٍ تاريخي واجتماعي وسياسي ما، يحكم مضمونه، كإجابة عن متطلبات تلك الشروط. ولو أن الكلام في النص في زمن الرسول وفي زمان الصحابة من بعده، لم يتم، فهذا لا يعني أن الجواز باطل، لأن سياق ظهور علم الكلام والكلام في الصفات والآيات المتشابهات والمحكمات، مختلف تمامًا عن السياق الذي يتحدث عنه ابن قدامة. ولأنه محال أن تكون الشروط متطابقة عبر أزمنة مختلفة، وإن كان ذلك ممكنًا فما الذي يجعلها كذلك؟
يذهب أيضًا، إلى أن قول الفلاسفة بدعة، لأنه قول في الأعراض والأجسام، مستندًا في ذلك على حكي ورواية تطرح أكثر من سؤال: «وروى نوح الجامع قال قلت لأبي حنيفة رحمه الله ما تقول فيما أحدث الناس من كلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة فإنها بدعة». فأهل السنة يقتدون ولا يبتدون. ويتبعون ولا يبتدعون. ولا يزعمون بل عليهم بالعتيق وبلزوم السنة والسلف. فقد ثبت وجوب اتباع السلف رحمة الله عليهم، بالكتاب والسنة والإجماع، والعبرة دلت عليه. فإن السلف لا يخلون من أن يكونوا مصيبين أو مخطئين. فإن كانوا مصيبين وجب اتباعهم، لأن اتباع الصواب واجب، وركوب الخطأ في الاعتقاد حرام. ولأنهم إذا كانوا مصيبين، كانوا على الصراط المستقيم، ومخالفهم متبع لسبيل الشيطان الهادي إلى صراط الجحيم. وقد أمر الله تعالى باتباع سبيله وصراطه ونهى عن اتباع ما سواه، فقال: «وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون» (الأنعام: 15).
لم يشر المقدسي إلى أي فيلسوف ولا لأي نص من نصوص الفلاسفة. بل اكتفى بالحديث عن روايات تذم قول الفلاسفة في التشبيه ونفي الصفات، من دون أن يبحث في الحجج التي قدمها الأشاعرة والجهميون في ذلك. بل ويتحاشى حتى قراءة أثرهم واجتهاداتهم بدعوى أنها بدعة.
في القرآن آيات متشابهات وآيات محكمات. ومن اتبع التشابه إنما في قلبه زيغ يبتغي التأويل. في حين أن التأويل لله وحده «هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله» (آل عمران: 7).
ومن يبتغِ تأويل التشابه يقترن بمن يريد الفتنة، وذلك بين من خلال تفسيره للآية أعلاه. فالله ذم مبتغي التأويل. ولو كان معلومًا للراسخين لكان مبتغيه ممدوحًا غير مذموم، والنبي قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فهم الذين عنى الله فاحذروهم»، الناس قسمان: الزائغون المتبعون للمتشابه والراسخون في العلم، ويجب أن يكون كل قسم مخالفًا للآخر فيما وُصف به، فيلزم، حينئذ، أن يكون الراسخون مخالفين للزائغين في ترك اتباع المتشابه، مفوضين إلى الله تعالى، بقولهم: «آمنا به كل من عند ربنا» تاركين لابتغاء تأويله، وعلى قولنا يستقيم هذا المعنى، ومن عطف الراسخين في العلم أخل بهذا المعنى، ولم يجعل الراسخين قسمًا آخر ولا مخالفين للقسم المذموم فيما وصفوا به فلا يصح، لو أراد الله في هذه الآية العطف لقال ويقولون بالواو، لأن التقدير والراسخون في العلم، يعلمون تأويله ويقولون، قولهم آمنا به كل من عند ربنا، كلام يشعر بالتفويض والتسليم لما لم يعلموه لعلمهم بأنه من عند ربهم، كما أن المحكم المعلوم معناه من عنده، إذا رأى الصحابة من يتبع المتشابه، ويسأل عنه، استدلوا على أنه من أهل الزيغ، وأخيرًا لو كان معلومًا للراسخين لوجب أن لا يعلمه غيرهم، لأن الله تعالى نفى علمه عن غيرهم، فلا يجوز حينئذ أن يتناول إلا من ثبت أنه من الراسخين، ويحرم التأويل على العامة كلهم والمتعلمين الذين لم ينتهوا إلى درجة الرسوخ والخصم، في هذا يجوز التأويل لكل أحد، فقد خالف النص على كل تقدير. يخلص المقدسي من خلال تأويله لهذه الآية، إلى أن «تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى، وأن متبعه من أهل الزيغ وأنه محرم على كل أحد».
لا تدرك الصفات - في نظر ابن قدامة - بالعقل، على عكس ما يذهب إليه المعتزلة، لذا يقول: «صفات الله تعالى وأسماؤه لا تُدرك بالعقل، لأن العقل إنما يعلم صفة ما رآه أو رأى نظيره، والله تعالى لا تدركه الأبصار ولا نظير له ولا شبيه، فلا تعلم صفاته وأسماؤه إلا بالتوقيف»، ويحاج على ذلك بالآية 33 من سورة الأعراف: «قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون».
نجد أنفسنا أمام عقلٍ يذم التأويل ويحجر على العقل، بدعوى أن الإحساس البشري لا يمكنه إدراك الخالق. وبذلك نجد أن هذا النص الفقهي - السني لا يقيم اعتبارًا للميز بين الحجج العقلية والحجج المادية، كما فعل أهل النظر والاجتهاد العقلي في التراث العربي الإسلامي. ويتضح مما سبق أن صاحبنا عمل جاهدًا على رفض التأويل، كما عمل غيره من أهل السلف. وإن كانت محاولته لا تنطوي على أي تقدم بخصوص ذم التأويل. إذ إن عمله ما هو إلا جرد واجترار لدلائل السلف. وان كان الأولون عليه من سلفه قد ساجلوا أهل «القول بالصفات» و«التشبيه» و«التجسيم»، فإنه في عمله هذا يكتفي فقط، بإصدار الأحكام في عموميتها، دون أن يخوض في سجال مع من ينتقدهم، فالسجال والمعاندة بالنقاش المبني، خير سبيلٍ لتفضيل هذا عن ذاك، ولمقارعة هذه الفكرة بتلك، وفي غياب التداول يستحيل الحوار.

* أستاذ فلسفة



محمود البريكان... شعرية الاغتراب

محمود البريكان... شعرية الاغتراب
TT

محمود البريكان... شعرية الاغتراب

محمود البريكان... شعرية الاغتراب

تجربة الشاعر محمود البريكان، بوصفه أحد شعراء الحداثة العراقيين، المجايلين للشاعر الرائد بدر شاكر السياب، منذ خمسينات القرن الماضي، تجربة شعرية متفردة إلى حدٍ كبير، وكما يقال فالشاعر نسيج وحده. وهذه التجربة الفنية والعميقة تتيح للناقد والقارئ، على حدٍ سواء، الفرصة للولوج إلى عالمه السراني، وربما الإشراقي، وشبه الكابوسي، من مداخل عدة، تشجع على تقديم مقاربات نقدية وثقافية جديدة من زوايا يتفرد بها البريكان وقصيدته معاً.

فمثلما ظل الشاعر في حياته اليومية حبيس بيته، وربما رهين محبسه الأليف، مثل المعري، كما أشار الشاعر نفسه إلى ذلك في إحدى المرات، ظلت قصائده حبيسة أسراره وشعريته.

هذا التعاضل في الكتابة الشعرية، بقدر ما يشكل معضلة شائكة للناقد، فإنه يتيح له إمكانية الحفر عميقاً في الأُسس اللسانية والمعرفية والفلسفية لتجربة الشاعر. والناقد أمام معضلة القراءة وتفكيك شفرات النص الشعري لشعر البريكان يجد نفسه في امتحان عسير وتحدٍ غير مسبوق، ولذا فهو يجتهد في أن يرى ما لا يرى، ما دام يجد نفسه في حضرة شاعر رؤيوي visionary بكل معنى الكلمة.

الشاعر محمود البريكان شاعر إشكالي problematic، بمعنى أنه لا يستطيع أن يتصالح بسهولة مع العالم الخارجي، ولذا فهو يصطنع له قوة ذاتية وروحية يحتمي بها من الآخر والمجتمع. فهو يعيش بصورة دائمة في حالة اغتراب روحي، حيث نلحظ تماهياً كبيراً بين شخصية الشاعر وشعره. إنه يعاني من «فوبيا» الآخر و«فوبيا» الخارج، معاً، وهذا ما يتجسد بشكل مثير في تجربته الشعرية.

حياة الشاعر وتجربته الشعرية، يعانيان معاً من حالة اغتراب alienation شامل، وهو اغتراب زماني ومكاني وسيكولوجي وفلسفي في آن واحد.

ولذلك لكي يحتمي الشاعر من ضغوط الخارج يصطنع له قوقعة خاصة يتمترس داخها، وهي قوقعة الذات، وقوقعة القصيدة الملغزة، التي تعاني مثل الشاعر حالة انكفاء وإحباط، وخوف يصل حد الرعب من كل شيء. ومثلما كان الشاعر على المستوى الحياتي واليومي يغلق أبوابه أمام الآخرين نراه أيضاً يغلق الأبواب أمام قراء قصائده الذين يضطرون إلى ولوج باب التأويل بحثاً عن الأسرار المخبأة.

شعرية محمود البريكان المركبة تنطوي على عدة طبقات للمعنى والدلالة، وهو ما يدعو الناقد إلى البحث عن مفاتيح جديدة نقدية وسيميائية قد يتمكن بها من فتح مغاليق قصائد الشاعر، التي تبدو أحياناً عصية على البوح والاستنطاق والاستسلام لمجسات النقد.

وتطفو في قصائد الشاعر ظاهرة الاغتراب كواحدة من ثيمات الشاعر المركزية. واستطاع البريكان بفضل هذه الآلية في الكتابة الشعرية، أن يخلق له عبر كتاباته الشعرية وحياته، أسطورته الخاصة، التي لا تشبه غيرها من الأساطير.

ويمكن أن نعد قصيدته «البدوي» مانيفستو اغترابه.

«ضائع في الزمان

ضائع في العوالم

فاقدٌ للبصيص من الذاكرة

سادرٌ في شوارع لا يتذكر أسماءها

تائه في زحام المدن».

ويتوسل الشاعر بالرب أن يساعده في استعادة روحه الضائعة وفي استعادة وجهه الغريب:

«هبني الشجاعة» أن أتأمل وجهي الغريب

أعني لكي أتنفس ثانية في سمائي

لكي أستعيد روائح أرضي

أعني لكي أعثر يوماً على روحي الضائعة

أعني لكي أعبر الفاجعة».

يتقمص البريكان قناع البدوي ومحنته في مواجهة الصحراء والمجهول والضياع، فقد كتب الله ألا يموت هذا البدوي وألا يرى وجهه أحد:

«وجهه الأول المستدير البهي

الذي غضنته المهالك وافترسته الحروب

وحطت عليه المآسي علاماتها». (المجموعة الكاملة، ص150)

إنه يعيش غربة هذا البدوي الذي رفضته الصحارى والقصور

«أنا هو ذاك

أنا البدوي الذي لفظته الصحارى

الذي رفضته القصور

الذي أنكرته الشموس». (ص150)

في هذه القصيدة التي هي قصيدة قناع، يبحث الشاعر عن اسمه ومسقط رأسه، وقد ضاع منه كل شيء.

وفي قصيدة «حارس الفنار» يتقمص الشاعر شخصية حارس الفنار الذي ينتظر على الشاطئ، دون جدوى، سفينة الأشباح:

«أنا في انتظار سفينة الأشباح تحدوها الرياح». (ص51).

لكنه لا يلمح ظلاً لأي سفينة:

«الأفق الطويل خالٍ وليس هناك ظل سفينة». (ص51).

ويعلن أنه «الشاهد الوحيد» الذي رأى كل المآسي والحروب:

«شاهدت ما يكفي وكنت الشاهد الحي الوحيد في ألف مجزرة بلا ذكرى

وقفت مع المساء». (ص53).

ويظل ربما مثل غودو في انتظار عبثي لا نهاية له:

«أنا في انتظار اللحظة العظمى

سينغلق المدار/ سينغلق المدار

الساعة السوداء سوف تُشلُّ تجمد في المدار». (ص54).

وفي قصيدة «تدمير رجل ما» (ص92) يشعر بأنه أمسى غريباً على ذاته، بعد أن ملَّ من الانتظار:

«هنا رجلٌ تم تدميرهُ/ والهب بالسم تفكيرهُ

هنا رجلٌ ملَّ ما ينتظر/ وأمسى غريباً على ذاته

ففي كل ثانية ينشطر

وما من مدى لانقساماته». (ص92).

وفي إحدى قصائده يتحدث الشاعر عن موت الإنسان في داخله خلافاً لبقية المخلوقات، حيث يقترب هذا الموت بغيبوبة الذكرى:

«وحده يموت في داخله الإنسان

في العالم الباطن

في مركز السريرة الساكن

يموت في غيبوبته الذكرى

يموت في لحظة

يكابد القيامة الكبرى». (ص158).

ينظر البريكان إلى العالم عبر منظور فلسفي شخصي اجترحه لنفسه أداةً ومجساً لسبر غور العالم الخارجي. لذا يمكن أن نصفه بالشاعر المتفلسف أو الشاعر الفيلسوف. فكل المرئيات والوقائع والشخصيات تمر عبر عدسة الفيلسوف الشعرية.

وشعر محمود البريكان مغموس بفلسفة شخصية عميقة هي فلسفة الشاعر في الحياة على وفق قيمه وثقافته وخبرته اليومية، حتى ليمكن أن ندرج شعره ضمن الشعر الفلسفي أو الشعر المتفلسف، أو الشعر الذي يحلق بجناحي الخيال والفلسفة معاً.

لو قيض لشعرية محمود البريكان أن تكتشف وتنتشر في وقت مبكر، قبل السياب، أو بالتزامن معه، ربما لأعيدت كتابة تاريخ حداثة الشعر، وجرى التساؤل حول الريادة في الشعر الحداثي في العراق.

يخيل لي أن تجربة البريكان أعمق وأغزر وأخصب من تجارب الكثير من مجايليه وربما يقف، في هذا، منافساً خطيراً للسياب نفسه، وهو يختلف عن السياب الذي كان يفتقد هذا الانغماس في الهم الفلسفي والرؤيوي والكوني، المجرد أحياناً.

تجربة البريكان تبتعد إلى حدٍ كبير عن النزعة الغنائية، التي وجدناها حاضرة أيضاً في شعر بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي، فالشاعر ينحو نحو لون من الموضوعية التي دعا إليها في وقت مبكر في مطلع القرن العشرين الشاعر ت. س. إليوت بوصفها أحد أبرز مقومات الحداثة في الشعر. لكن موضوعية البريكان تنحو منحى أسطورياً ورؤيوياً وفلسفياً أيضاً، ولكنها لا تتجاوز الأطر السردية لحكاية الخلق والتكوين، فهي معجونة بهذه الكينونة السرية التي تتلبس كل شيء.

كما نجد لدى الشاعر، من جهة أخرى، ميلاً إلى التجريد واختزال الكائنات والمرئيات إلى علامات مجردة تتلاشى في سيرورة التاريخ والزمن. واللغة التي هي تشكيل علامي تبدو له مخادعة:

«فزعت من خديعة اللغة

هنيهة؟ من ملمس العالم في القرار

وكتلة الموت الهلامية». (ص198،ج1).

في قصيدة «أسطورة حقيقية»، يشعر الشاعر بالغربة المطلقة، حيث تنكره الأشياء، وينكره الواقع، ويبدو طافياً فوق بحيرة ذاكرة آفلة:

«عدت إلى بيتي

فلم أجد بيتي في مكانه المعهود

وهزّ بي الجميع

رؤوسهم

بيت كهذا لم يكن موجوداً

قلت لهم بيتي أمام الشجرة

كان هنا

قالوا جميعاً ولم تكن هناك يوماً شجرة». (ص215).

ويزداد رعب الشاعر وهو يواجه هذا الإقصاء في المكان والزمان، فراح يتساءل بوجع فاجع:

«والآن ماذا ينبغي علي أن أفعل؟

وكيف لي أن أنسف الذاكرة» (ص 213).

ويتساءل الشاعر بخوف فيما إذا كان كل شيء مجرد عبث. فالأسود والأبيض على حدٍ سواء، عواطف الآباء والأمهات، وقوة اللغات، عبث ليس إلا:

«أكان الحزن والفرح

ذاكرة من التاريخ

وقوة اللغات

جميعها عبث؟» (ص223).

يحس الشاعر أحياناً، بأن العالم قد مزقه مزقاً، فقد جاء أناس واقتسموا جسده، وجاء الأصدقاء فسرقوا هويته، وارتدوا ثيابه:

«وجاء أصدقائي

فاختلسوا هويتي

ثم ارتدوا ثيابي». (ص228).

شعرية محمود البريكان المركبة تنطوي على عدة طبقات للمعنى والدلالة

وفي قصيدة «في إعدام الأبنية» يشعر الشاعر بأنه نسي كل شيء حتى وجهه:

«هل أتذكر بعض الوجوه

هل أتذكر وجهي؟» (ص26).

فالعالم بالنسبة للشاعر مجرد وهم:

«هل يتذكر أحدٌ أحداً

في هذا الأفق المتحرك؟

في هذا العالم

الممحو كوهم؟» (ص261).

وفي قصيدة «ظهور ناقص» يحدد البريكان وظيفة الشاعر السرية،

وحلمه الأبدي، في اقتناص الزمن وتجسيم رؤيته عبر مرايا الزمن:

«إنه حلم الشاعر الأبدي

اقتناص الزمن

أن يجسم رؤيته ودوي عوالمه دفعة واحدة». (ص281).

ومن الثيمات المركزية المهمة في شعر البريكان ثيمة الموت، فكل الأشعار آيلة إلى الموت: الملوك والعبيد والسماسرة كلهم آفلون. ولذا غالباً ما يقترن الاغتراب بالموت:

«الحب والعقاب

دبيب موت خافت ورعشة اغتراب». (ص235).

ويقترن الضياع والاغتراب لدى الشاعر بفقدان الذاكرة، حيث يفقد الشاعر ذاكرته:

«سادرٌ في شوارع لا يتذكر أسماءها

تائه في زحام المدن

يتعثر في حدقات العيون

عسى أن يرى يوماً صديقاً

قديماً سيعرفه

ويعرّفه باسمه

ويساعده في الوصول إلى بيته

والى أهله الشاحبين». (ص339).

ويتمنى الشاعر أن تأتيه الشجاعة ليتأمل وجهه الغريب:

«هبني الشجاعة أن أتأمل وجهي الغريب

أعني لكي أتنفس ثانية في سمائي

لكي أستعيد روائح أرضي

أعني لأعثر يوماً على روحي الضائعة». (ص340).

وأقسى شكل من أشكال الغربة، عند الشاعرعندما يكتشف أنه غريب حتى عن نفسه، ويتحرك بلا وعي أو إرادة:

«مسحوراً بنداء لا يفهمه

منتزعاً في مملكة الأفراح الأرضية

مغترباً حتى عن نفسه

يخطو نحو الباب». (ص348).

ويحتفي البريكان بالأشياء الآفلة، التي تسير نحو الفناء أو التلاشي أو الموت. ففي قصيدة «احتفاء بالأشياء الآفلة» نجد هذا الانشغال بما هو زائل:

«أجمل ما في العالم

مشهده العابر».

ويختتم ذلك بسيرورة الزوال:

«طوبي لك

إن كنت بسيط القلب

فستفهم مجد الأرض».

ثم تأتي الضربة الحاسمة، عندما يعانق الشاعر لحظة الأفول والزوال:

«وجمال أواصر لا تبقى

وسعادة ما هو زائل». (ص358).

يشعر الشاعر هنا أن وجهه لا يشبه أياً من الوجوه، الرجل الذي يحمل هداياه، المريض الداخل غرفة العمليات، الطفل المهزول من الجوع، فهو غريب ولا مكان له في هذا العالم:

«لا يشبهك أحد ولا أمل لك أن تشبه أحداً»

فهو مجرد كائن مُسَجّى، ورقي ليس إلا:

«ليس العالم مكانك،

بل المعجم، فحتى وجهك، ليس هو وجهك». (ص416).

محمود البريكان، مثل طلسم محاط بالأسرار والأقفال، وهو بحاجة إلى جهاز نقدي خاص لتحليل وتفكيك وتأويل شعريته ذات الطبيعة الإشراقية وربما الغنوصية.

محمود البريكان، العصي على الاستكناه، شاعر لم ولن يتكرر في تاريخ الشعرية العراقية، وحان الوقت لكي يستعيد مكانته التي يستحق.


قصص قصيرة من أفريقيا

قصص قصيرة من أفريقيا
TT

قصص قصيرة من أفريقيا

قصص قصيرة من أفريقيا

ضمن سلسلة «آفاق عالمية» التي تصدرها «الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة»، صدرت «أنطولوجيا القصة القصيرة السواحيلية» التي تضم عدداً من النصوص الإبداعية لمجموعة متنوعة من الأدباء مكتوبة جميعاً باللغة السواحيلية التي تميز دول شرق أفريقيا، ترجمة وتقديم الدكتور محمد يسري محمد.

وتتعدد القضايا والهموم التي يطرحها مؤلفو المجموعة، من القتل المجَّاني، وعنف الحروب الأهلية، إلى التعبير الشاعري عن الطبيعة، والتدين الشكلي، ونفاق البعض للسلطة، وتوتر العلاقات الأسرية، وصراع الأجيال، وتبدُّل المفاهيم بين الماضي والحاضر.

وأشار المترجم في مقدمته إلى أن الترجمة هي الوسيلة الأكثر فاعلية التي من خلالها تمتد جسور التواصل بين الشعوب والثقافات المختلفة، لافتاً إلى أن اللغة السواحيلية لغة أصيلة في الشرق الأفريقي تتحدث بها تنزانيا وكينيا وأوغندا ورواندا وبروندي (دول منابع النيل)، كما أنها تعد اللغة الثانية في القارة الأفريقية بعد العربية؛ لافتاً إلى أن السواحيلية تعد كذلك اللغة الأولى لعدد من الأدباء الأفارقة المرموقين الواردة نصوصهم في الكتاب، مثل: كلارا موماني، وشافي آدم، وجون هابوي، وكيالو أميتيلا، وواريا تيمامي، وغيرهم ممن قدموا أعمالاً أدبية في جميع فروع الأدب المكتوب، من قصة قصيرة ومسرح ورواية وشعر.

وتعد تلك المختارات القصصية بمنزلة خطوة أولى على درب الترجمة عن السواحيلية، وما تتضمنه من أدب مجهول لدى القراء العرب، يتماس مع البيئات العربية بشكل أو بآخر، ولا سيما أن الأدب الأفريقي لا يزال خصباً، وفي حاجة إلى مزيد من البحث والتنقيب؛ خصوصاً بعد أن حاز الأفريقي التنزاني عبد الرازق قرنح جائزة نوبل في الأدب عام 2021. ومن أجواء المجموعة القصصية نقرأ في قصة «اللاجئ» للكاتب الكيني جون هابوى:

«حين غادر قطاع الطرق المنزل بعد انتهائهم من جريمتهم الوحشية، غادرتُ الردهة، وتحركتُ في منزلنا الذي أصبح مكشوفاً؛ إذ دُمرت أبواب المنزل كلها، واستطعت أن أرى جثث إخوتي بالإضافة إلى جثة أمي الحبيبة التي توفيت بمرارة شديدة وهي تعض على شفتها السفلى بأسنانها، وعيناها جاحظتان كالتي كانت تحارب العالم الذي أعطاها ظهره.

أصابت جسدي البرودة الشديدة برؤية تلك الجثث، وقفت مصدوماً مدة، حتى سمعت صوتاً من الخارج، فتملَّكني الخوف فجأة، وهرولت خارج المبنى الذي كان منزلنا منذ مدة قصيرة قد مضت.

مررتُ بسرعة ودخلت غابة كانت موجودة أسفل المنزل، وأخفيت نفسي بداخلها. رأيت مجموعة من الخنازير البرية التي تجري هنا وهناك، وقد أدخلت في نفسي حالة من الخوف. تمنيت الهروب إلى مكان آخر بسبب الرعب الذي أدخلته عليَّ تلك الحيوانات ذات الأسنان الحادة البارزة إلى الخارج كالمقص، ولكن أين سأهرب؟ لم يعد هناك أي مكان آخر يُطلق عليه منزل. أصبحت بلا إخوة أو حتى أبوَيَّ، أصبحت وحيداً».


الشاعر البصري والروحية الحداثية

TT

الشاعر البصري والروحية الحداثية

جرى الإعلان منذ أيام عن عرض قريب لفيلم سينمائي جديد لتيرنس ماليك اسمه «طريق الرياح»، يدور حول حياة المسيح، ولذا سنكتب شيئاً عن هذا الذي أسمّيه «الشاعر البصري». هذا الفنان الفريد في تاريخ السينما المعاصرة، يعيد صياغة الوجود عبر الكاميرا والصورة والضوء والإيقاع، ويجعل من الشاشة مجالاً لتجربة تأملية تمسّ تخوم السؤال الفلسفي والروحي معاً. فسينماه لا تُبنى على منطق الحكاية بقدر ما تتأسس على منطق الكشف، ولا تسعى إلى سرد أحداث بقدر ما تفتح أفقاً إدراكياً يُعاد فيه تأمل الحياة بوصفها لغزاً محيّراً، لا حدثاً عابراً. هنا تصبح الصورة ضرباً من التفلسف الصامت، وتغدو اللقطة لحظة انكشاف تتجاور فيها الحساسية الشعرية مع القلق الوجودي.

ينتمي عالم ماليك إلى ذلك النمط من الرؤية، حيث نجد الإنسان كائناً مقذوفاً به في العالم، محمولاً بين حضور هشّ ومصير غامض، وهو ما يقرّبه بوضوح من التصور الهايدغري للدازين، الإنسان المهموم بوجوده، ذلك الكائن الذي لا يعيش العالم بوصفه موضوعاً محايداً، بل بوصفه زمناً منفتحاً على القلق والموت والمعنى المؤجَّل. غير أن ماليك لا يترجم هذه الرؤية بمفاهيم فلسفية مباشرة، رغم أنه أستاذ فلسفة ومترجم، بل يجعلها تتجسد في حركة كاميرا شبيهة بالتنفس، وفي أصوات داخلية هامسة لا تفسّر الواقع بل تلامسه، كمن يمرّ على الأشياء بإصغاء رحيم لا بسطوة تحليلية.

تتجلى السمة الأساسية في فنه في هيمنة الصوت الداخلي، الذي يشبه المناجاة الصامتة أو الصلاة المترددة، حيث لا تتكلم الشخصيات بلسان السرد، بل بلسان الضياع. إنه صوت كائن يبحث عن موضعه بين النعمة والسقوط، بين الطبيعة والروح، بين القسوة والرأفة. هذه الثنائية، التي تظهر بوضوح في «شجرة الحياة» تُحيل إلى تصور أخلاقي عميق يربط سلوك الإنسان بموقعه الوجودي، والصراع ليس بين خير وشرّ بسيطَين، بل بين نمطَين من الوجود: نمط يثقل الروح ويشدّها إلى الأرض، وآخر يفتحها على الضوء واللطف والشفافية.

إن علاقة ماليك بالطبيعة ليست تجميلية ولا توثيقية، بل وجودية في جوهرها، إذ تتحول الأشجار والمياه والغيوم إلى شهود صامتين على هشاشة الإنسان وانكساره الذي كان دائماً يعود، نراه في مرايا تعكس صراعه مع الزمن والفناء. الزمن ليس خطاً متسلسلاً، بل نسيج مشروخ من الذكريات، حيث تتقاطع الطفولة مع الشيخوخة، والحلم مع الواقع، والندم مع الرجاء. هذا التمزق الزمني ليس تقنية سردية فحسب، بل تعبير عن كينونة قلقة لم تعد تثق بتتابع الزمن، بل تعيشه بوصفه تياراً داخلياً متكسّراً.

سينما ماليك تستحضر مناخاً قريباً مما يسميه الصوفية «الليل المظلم للروح»، فهي كثيراً ما تتحرّك في تلك المنطقة الرمادية بين النور والانطفاء، بين الرجاء والتيه، حيث تُمحى السيطرة العقلية وتتفتت الأنا أمام إحساس بحضورٍ أعظم منها. غير أنّ هذا الحضور، بخلاف الخبرة الصوفية، لا يتجلّى في صورة رؤيا ولا يقود إلى يقين ختامي، بل يظهر في صمتٍ طويل وامتداد بصري يجعل المشاهد شريكاً في تجربة التوقف والإنصات والتساؤل، دون أن يَعِده بكشفٍ نهائي أو طمأنينة مكتملة.

من هنا يمكن القول إن تيرنس ماليك لا يصنع سينما بل يبني تجربة وجودية تُرى أكثر مما تُفهم، وتُحسّ أكثر مما تُفسَّر. إنه شاعر بصري يعيد للفن قدرته على التأمل، ويذكّرنا بأن السينما ليست فقط وسيلة للتحدث، بل إمكانية عيش للدهشة، ومدخل إلى مواجهة الذات أمام الزمن والمصير والجمال. إنها تقيم في السؤال، ونحن معه، على تخوم المعنى، حيث يتجاور الضوء مع الظل، والحنين مع الفقد، والإنسان مع هاوية وجوده، في لحظة شفيفة تذكّرنا بأننا لا نعيش لنفهم العالم فحسب، بل لننصت إلى سره الخفي أيضاً. أن ندعه يتكلم.

ومما يميّز تجربة ماليك كذلك ذلك الإصرار على تفكيك مركزية الإنسان وعقله، وإزاحته عن موقع السيادة لصالح رؤية أوسع ترى في الوجود شبكة مترابطة من العلاقات، وليس مسرحاً لهيمنة بشرية مغلقة على ذاتها. فالكاميرا كثيراً ما تنصرف عن الوجه الإنساني إلى تفاصيل مهملة: حشرة تزحف على ورقة، ذبذبة ضوء على سطح ماء، عشب ينحني تحت وطأة الريح. هذه اللقطات ليست زينة جمالية، بل إشارات فلسفية تذكّر بأن الإنسان ليس محور الكون، بل جزء هشّ من نسيج كوني أوسع وأعمق منه.

كما أن الحضور الدائم للموت في أفلامه لا يُقدَّم بوصفه نهاية مأساوية، بل بوصفه أفقاً وجودياً يضفي على الحياة معناها الهشّ والعابر. فالموت عند ماليك ليس قطيعة مفاجئة، بل ظلٌّ صامت يرافق كل لحظة من لحظات الجمال، ويجعلها أكثر شفافية وأشدّ إيلاماً في الوقت نفسه. وهذا الحضور يعمّق البعد الوجودي لفنه، ويضع المشاهد أمام وعي مؤلم بأن كل ما يُحَبّ معرّض للزوال، وأن الجمال ذاته محكومٌ بالتلاشي.

بهذا المعنى، تصبح سينما ماليك ممارسة روحية حداثية، لا تعظ ولا تُبشّر، لكنها تفتح نافذة على ما سمّاه هايدغر «انكشاف الكينونة»، وعلى ما عبّر عنه الصوفيون بوصفه «لحظة تماس مع المطلق»، وعلى ما عبّر عنه إنغمار برغمان بوصفه «صمت السماء أمام صراخ الإنسان». غير أن ماليك يختار طريقاً أكثر رهافة، يمرّ عبر الضوء والسكينة والحنين، لا عبر العنف أو المواجهة أو الانكسار الدرامي الفجّ.

ومن هنا يترسخ موقعه بوصفه شاعراً يجد للشعر وسيلة كاشفة جديدة. لا يكتفي بأن يصوّر العالم، بل يعيد مساءلته من الداخل، ويقترح على المتلقي أن يرى بعين أبطأ، وقلب أرهف، ووعي أكثر استعداداً للدهشة. فمشاهدة أفلامه ليست تجربة استهلاك، بل رحلة بطيئة في عمق الزمن، حيث تذوب الحدود بين الفن والفلسفة، بين الصورة والتأمل، بين الواقع والحلم، ليغدو السؤال نفسه هو الغاية، والدهشة هي المعنى، والإنصات هو الطريق.