جبرا وطه والقط ارتكبوا أخطاء لا تغتفر في الترجمة

صلاح نيازي يتناول تقنياتها الحديثة في كتابه الجديد

جبرا وطه والقط ارتكبوا أخطاء لا تغتفر في الترجمة
TT
20

جبرا وطه والقط ارتكبوا أخطاء لا تغتفر في الترجمة

جبرا وطه والقط ارتكبوا أخطاء لا تغتفر في الترجمة

صدر عن دار المدى ببغداد كتاب جديد يحمل عنوان «من تقنيات التأليف والترجمة» للشاعر والناقد صلاح نيازي. يضمّ الكتاب بين دفتيه واحدًا وعشرين فصلاً، إضافة إلى مقدمة وافية وحوار عن التقنيات الحديثة في الترجمة.
قبل أن ندخل في تفاصيل هذا الكتاب المهم لا بد من الإشارة إلى أن الرعيل الأول من المترجمين أمثال المنفلوطي، وأحمد رامي، وفيتزجيرالد كانوا معنيين بنقل المعنى فقط، أما المترجمون المحدثون فهم معنيون بنقل التقنية التي كُتب فيها النص، ويبدو أن جبرا إبراهيم جبرا وطه محمود طه وعبد القادر القطّ وآخرين كانوا يكتفون بنقل المعنى ولا يعيرون بالاً للتقنيات، الأمر الذي أوقعهم في أخطاء جسيمة لا يمكن غضّ الطرف عنها أو السكوت عليها، لأنها جاءت مرتبكة ومُربكة في آنٍ معا، وحتى لو كانت المعاني منقولة بشكل صحيح، إلا أنها ظلت متخشِّبة وخالية من الروح.
يتمحور الكتاب على ثلاث من مسرحيات شكسبير، وهي «مكبث»، و«هملت»، و«الملك لير»، إضافة إلى قصيدة لهيلدرلن ورواية «يوليسيس» لجيمس جويس، والأخطاء الكثيرة التي وقع بها مترجمو هذه التحف الفنية لأسباب أخرى، منها عدم معرفتهم بالمصطلحات، وعدم إحاطتهم بالمنظورية، وتقنية الحواس والألوان، وعدم استعانتهم بالشروحات الإنجليزية المتيسرة عن هذه الكتب التي غيّرت ذائقة الناس.
يتوقف نيازي في مستهل الكتاب عند «بعض وجوه استحالة الترجمة»، متخذًا نماذج من الآي القرآني الكريم، والشعر العربي «السمعي» الذي يصل إيقاعه الداخلي إلى درجة لا تُضاهى من التنغيم، لأن الكلمات والصور الشعرية تتمرد على معانيها القاموسية المتحجرة، وتنتقل إلى المعاني الإيحائية ذات التداعيات المتشعبة والرنين الخاص الذي قد يختلف من شخص إلى آخر.
ترد كلمة «ضيزى» في الآية الكريمة: «ألكمْ الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى» (سورة النجم). وتعني قِسمة «جائرة» أو «منافية للحق»، إلا أن اجتماع حروفها، كما يذهب نيازي «بهذه الصورة المركبة يستدعي عدة تداعيات صوتية (ص 12) فكيف يفلح المترجم في العثور على المعنى المناسب لتداعيات هذه الكلمة وأصدائها السحيقة؟».
تتكرر هذه التداعيات في كلمة «جرّاها = جراءها» التي استعملها المتنبي في بيته، ذائع الصيت: «أنامُ ملء جفوني عن شواردها / ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ»، وهي لا تعني «بسببها» فقط وإنما تصرف الذهن إلى عملية الجرّ، كأن الشاعر يجرّ العالم وراءه. وهذه الصورة السمعية لها من الإيحاءات والتداعيات والأصداء التي تفلت من المترجم حتى إذا كان متضلِّعًا باللغة المُترجم منها واللغة المُترجم إليها.
يطرح نيازي تساؤلاً جوهريًا مفاده: متى تجوز الإضافات في الترجمة؟ ويجيب عليه: «من حق المترجم أن يضيف كلمة هنا، أو كلمة هناك، شرط ألا يخلّ في البناء العضوي للنص، أو إذا ارتأى أن الإضافة لمصلحة القارئ فهمًا وتأثيرا» (ص 25).
سنتوقف عن بعض إضافات جبرا، ولنرَ إن كانت تعزز البناء العضوي أم تخلخله؟ تتحدث الساحرة عن طبخة سحرية فتقول: «حراشف تنّين هذه / وأنياب ذيب كالقنطريب». أضاف المترجم كلمة «القنطريب» التي أضرّت بالنص، كما أن هذه الكلمة لا وجود لها في أشهر القواميس العربية المتداولة. يضيف المترجم نفسه تشبيه «كاللهاث» إلى كلام الساحرة الأولى التي تتساءل: «متى نلتقي ثانية نحن الثلاث / في بروق ورعود وأمطار كاللُهاث؟». تبدو كلمة «كاللهاث» قلقة، ولا تنسجم مع قدرة الساحرات اللواتي ينتقلن بخفة وبلا عناء، فما جدوى هذه الإضافة المُربِكة؟
يفضي عدم الإحاطة بمعرفة المصطلحات إلى أخطاء جمّة، فمصطلح Nature يترجمه جبرا بـ«الطبيعة»، لكن كل دارسي شكسبير يتفقون على أن Nature عني الحياة أو الشيء الحي، فلا غرابة أن يقول جبرا: «وفي رأسه حُفرت عشرون طعنة / أصغرها موت الطبيعة»، بينما الأصوب أن يقول: «... أصغرها كافية لقتل أي شيء حيّ». يجتهد جبرا في أن يترجم مصطلح Time بـ«الزمان» الذي يعني في نظر غالبية الدارسين «العالَم» أو «الناس»، فيعتور ترجمته الغموض والتشوّش والإرباك. يترجم جبرا مصطلحات أخرى ترجمة حرفية لا تعني شيئًا بالمرة مثل full of bread He died «مات مليئًا بخبزه»، وهي تعني «مات منغمسًا في ملذاته». يحذِّر نيازي من المساس بالمصطلحات والمفاهيم والاقتباسات، فلا يجوز أن يترجم جبرا «النخلة» بغصن الزيتون أو «دجاجة الحرش» بالعصفور أو كما ترجمها عبد القادر القطّ بديك الغابة.
يعزو نيازي معظم الأخطاء التي ارتكبها جبرا، وعبد القادر القطّ، ومحمد عوض، وخليل مطران وغيرهم، إلى عدم الإلمام بالمنظورية، والقصور في فهم تقنية الحواس والألوان، وعدم قراءة النصوص بوصفها وحدة عضوية متضّامة، الأمر الذي يدفعهم إلى ارتكاب كثير من الأخطاء القاتلة التي لا يمكن إساغتها بأي حال من الأحوال.
يتمثل القصور في تقنية الحواس والألوان لدى جبرا بكثير من الأخطاء التي ارتكبها في هذا الصدد، فحينما يغضب مكبث من خادمه يصرخ قائلاً: «سخطك الشيطان عبدا أسود يا وغدًا حليبي الوجه. من أين لك سحنة الإوزة هذه؟». لقد أضاف جبرا كلمة «عبدا» وترجم Cream - faced حرفيًا «حليبي الوجه»، وأخفق في ترجمة الصيغة الاستفهامية الأخيرة من الجملة. والصواب أن يق0ول: «مسخك الشيطان أسود يا وغدًا أبيض وجهه من الخوف. من أين جئت بقشعريرة الجلد هذه؟»، كما ترجم Lily - liver'd حرفيًا بـ«زنبقي الكبد»، والصواب «رعديدا» وWhey - face «يا وجهًا من لبن» التي تعني بالضبط «يا وجهًا بلون مصل اللبن».
الأخطاء التي وقع بها عبد الرحمن بدوي أكثر من أن تُحصى، لأنه لم يلم باستعماله للأفعال في القصيدة الموضوعية، ولم يلتفت إلى المنظور الزمكاني، ولم يعنَ بالرموز التي تزدان بها القصيدة، فلا غرابة أن يحتشد النص بسوء الفهم والإخفاق المتواصل في ترجمة صوره الشعرية.
أما مزالق المرحوم طه محمود طه في ترجمته «يوليسيس» فهي كثيرة بمكان، قد تبدأ بسوء فهمه للمصطلحات، وتمرّ مرورًا طويلاً بالتقنيات، ولا تنتهي بما فاته من قصور في فهم الكلمات العامية، لا سيما الآيرلندية منها، فقد وصف جويس رئيس إحدى كليات دبلن بـTinned فترجمها طه «معلّبة»، وهي تعني «غني». كما ترجم On the baker's list «لا يشبع من الأكل»، بينما هي تعني «على ما يرام». وترجم Turn up like a bad penny. «كالعملة الرديئة تلّف وتدور»، وهي تعني «تفاصيل مزعجة لا معنى لها». ترجم طه عبارة Gammon & Spinach بـ«سمك لبن تمر هندي»، بينما هي تعني «ماجريات يومية عادية». نختم قائمة الأخطاء الطويلة بسبب ضيق المساحة بترجمته لعبارة Mity cheese بـ«الجبنة العظيمة»، وصوابها «الديدان المفصلية». ومع ذلك فإن نيازي يعترف بشجاعة طه محمود طه، حيث قال في مقدمته لترجمة «يوليسيس» «ولولاه.. لولا تدشينه لما كانت لديّ أي شجاعة على الإقدام على الترجمة» (ص 7 - 8).



جمعة اللامي... خرج من السجن أديباً وصحافياً متميزاً

جمعة اللامي
جمعة اللامي
TT
20

جمعة اللامي... خرج من السجن أديباً وصحافياً متميزاً

جمعة اللامي
جمعة اللامي

لم يأتِ رحيل المبدع العراقي جمعة اللامي في السابع عشر من هذا الشهر مفاجئاً لمعارفه ومحبيه. إذ لم تحمل السنوات الأخيرة الراحة له: فقد سكنه المرض، وتلبدت الذاكرة بضغوطه، فضاع كثير من الوهج الذي تميزت به كتاباته. وتجربة جمعة اللامي فريدة؛ لأنه لم يكن يألف الكتابة قبل أن يقضي سنواتٍ عدة سجيناً في عصور مضت. لكنه خرج من هذه أديباً، وصحافياً متميزاً.

ربما لا يعرف القراء أنه شغل مدير تحرير لصحف ومجلات، وكان حريصاً على أن يحرر الصحافة من «تقريرية» الكتابة التي يراها تأملاً بديعاً في التواصل بين الذهن واللغة. خرج من تلك السنوات وهو يكتب الرواية والقصة. وكانت روايته «من قتل حكمت الشامي» فناً في الرواية التي يتآلف فيها المؤلف مع القتيل والقاتل. ومثل هذه المغامرة الروائية المبكرة قادت إلى التندر. فكان الناقد الراحل الدكتور علي عباس علوان يجيب عن تساؤل عنوان الرواية: من قتل حكمت الشامي؟ جمعة اللامي. لكن الرواية كانت خروجاً على الرواية البوليسية وإمعاناً في المزاوجة ما بين ماورائية القص وواقعتيه (ما بعد الكولونيالية). وسكنته روح المغامرة مبكراً. وكان أن كتب مسرحية بعنوان «انهض أيها القرمطي: فهذا يومك»، التي قادته أيضاً إلى محنة أخرى، لولا تدخل بعض معارفه من الأدباء والمفكرين. وجاء إلى القصة القصيرة بطاقة مختلفة جزئياً عن جيله. إذ كان جيل ما بعد الستينات مبتكراً مجدداً باستمرار. وكان أن ظهرت أسماء أدبية أصبحت معروفة بعد حين وهي تبني على ما قدمه جيلان من الكتاب: جيل ذو النون أيوب، وما اختطه من واقعية مبكرة انتعشت كثيراً بكتابات غائب طعمة فرمان، وعيسى مهدي الصقر وشاكر خصباك، وجيل عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي، والذين بنوا عليه وافترقوا عنه كمحمد خضير، وموسى كريدي، وأحمد خلف، وعبد الستار ناصر، وعدد آخر. وكان جمعة اللامي ينتمي إلى هذا الجيل، لكنه استعان بهندسة القصة لتكون بنية أولاً تتلمس فيها الكلمات مساحات ضيقة تنوء تحت وقع أي ثقل لغوي. ولهذا جاءت قصصه القصيرة بمزاوجة غريبة ما بين الألفة والتوحش، يتصادم فيها الاثنان، ويلتقيان في الأثر العام الذي هو مآل القص.

وعندما قرر اللامي التغرب وسكن المنفى، كان يدرك أنه لن يجد راحة البال والجسد. لكنه وجد في الإمارات ورعاية الشيخ زايد حاكم الدولة، وبعده عناية الشيخ الدكتور سلطان القاسمي ما يتيح له أن يستأنف الكتابة في الإبداع الأدبي وكذلك في العمود الصحافي. ولمرحلة ليست قصيرة كان «عموده» الصحافي مثيراً لأنه خروج على المألوف، ومزاوجة ما بين العام والشخصي، اليقظة والحلم، المادية والروحانية. وعندما ينظر المرء إلى مسيرة طويلة من الكد الذهني والجسدي فيها الدراية والعطاء، يقول إن الراحل حقق ذكراً لا تقل عنه شدة انتمائه لمجايليه وأساتذته وصحبه الذين لم يغيبوا لحظة عن خاطره وذهنه، كما لم يغب بلده الذي قيَّده بحب عميق يدركه من ألِفَ المنافي وسكن الغربة.

سيبقى ذكر جمعة اللامي علامة بارزة في أرشيف الذاكرة العراقية والعربية الحيّة.

 كانت روايته «مَن قتل حكمة الشامي؟» خروجاً على الرواية البوليسية وإمعاناً في المزاوجة ما بين ما ورائية القص وواقعتيه (ما بعد الكولونيالية)