شكلت صناعة الصورة واستخدام أقصى طاقات التكنولوجيا في ترويجها، وقياس ردود الفعل المحتملة حيالها، ركيزة أساسية في الحرب المتطرفة التي يديرها ويشنها بنجاح تنظيم داعش الإرهابي، ويدعم من خلالها أهدافه الاستراتيجية على الأرض، وعلى رأسها عقيدة قتالية تستند على الفعل أولا، ثم مرحلة التبرير والتفسير ثانيًا.
وعلى ذلك، لم يكن وليد الصدفة، نشر «داعش» صور الرهائن قبل تنفيذ حكم الإعدام فيهم، وتبرير إعدامه العناصر التي تمردت، خاصة الأجانب في الفترة الأخيرة. فهذا التصرف مستوحى من دستور الحركات المتطرفة الذي هو كتاب «إدارة التوحش». وبينما يرى خبراء مصريون أن خطاب هذا الكتاب يُعد أداة قتال رئيسية يعتمد عليها «داعش» بشكل كبير وليس مجرد آلية للدعاية والتسويق العالمي من أجل مُخاطبة مُقاتليه»، يقول مراقبون إن «الكتاب دليل خطير على تكتيكات عنيفة جدا احتضنها (داعش) الإرهابي وخليفته المزعوم أبو بكر البغدادي ليُطبقها كما جاءت بكل دقة».
لقد خرج على العالم كتاب خطير يكشف مضمونه من اسمه هو «إدارة التوحش». ويقوم هذا الكتاب، الذي سبق لـ«الشرق الأوسط» أن ناقشت بعض ما فيه، على نظرية تدعو لمزيد من التخريب من أجل استدراج «العدو أميركا» - حسب وصفهم - لأرض المعركة التي يختارها «المجاهدون» وهي، للأسف، أرضهم.
ومن ثم، لعب هذا الكتاب دورًا محوريًا في تشكيل وعي الجماعات المتشددة طيلة الفترة الماضية وفي مقدمتهم «الدواعش»، الذين انتهجوا الإرهاب والتطرف المفرط. وكان ظهوره الأولي عبارة عن مجموعة مقالات نشرت على مواقع الإنترنت، ولم يلتفت كثير في حينه إلى هذا الذي يمكنه أن يبث فكرًا تفجيريًا لا يقل خطورة عن أسلحة الدمار المستخدمة ضد الآمنين.
ولكن اليوم يعتبر كثيرون من الخبراء كتاب «إدارة التوحش»، الذي عُثر عليه في عام 2008 ضمن وثائق ورسائل موجهة من وإلى زعيم تنظيم «القاعدة» السابق أسامة بن لادن، مشروع المتطرفين الذين يسمون أنفسهم «أهل التوحيد والجهاد» أو «مشروع العمل الإسلامي» أو دستور الحركات المتطرفة التي تمارس الإرهاب باسم الإسلام. وجميع الجماعات الإرهابية تتداول هذا الكتاب فيما بينها بكثير من الاحترام والقدسية، وهو مُؤلف صغير الحجم (113 صفحة) لمؤلف مجهول يحمل اسم «أبو بكر ناجي».
وتأتي استراتيجية خطاب الجماعات المتطرفة في الكتاب من العناصر الرئيسة التي تحدث عنها الكتاب، فيقول الكتاب إنها تستهدف وتركز على فئتين: الأولى، فئة الشعوب لدفع أكبر عدد منهم إلى الانضمام لـ«الجهاد» باسم الدين، وكسب التعاطف السلبي لمن لا يلتحق بصف الجماعات. والثانية، أصحاب الرواتب الدنيا (المُعدمين) لدفعهم نحو الانضمام لـ«المجاهدين».
ويتابع الكتاب - بحسب مؤلفه المزعوم - أن الجماعات الدينية تهدف لإعداد خطة تستهدف في كل مراحلها تبريرًا عقليًا وشرعيًا للعمليات (أي القتال) خاصة لفئة الشعوب. ويقول الكتاب إن الشعوب هي الرقم الصعب الذي سيكون ظهر ومدد «الجماعات» في المستقبل.. على أن يكون في هذه الخطة من الشفافية؛ بل الاعتراف بالخطأ أحيانا لترسيخ انطباع الصدق عن «الجماعات» عند الشعوب. ويؤكد الكتاب أن قادة الجماعات المتشددة يرون ضرورة إظهار مشاهد الأشلاء والدماء والجماجم في وسائل الإعلام المختلفة لبث الرعب والخوف في نفوس العالم أجمع.
بدوره علق الدكتور عبد الصبور فاضل، الأستاذ في جامعة الأزهر بالعاصمة المصرية القاهرة، إن ما أخذه «داعش» من هذا الكتاب هو «بث الرعب في الطرف الآخر وإحداث نوع من الحرب النفسية ببث بعض الأخبار الكاذبة عن – دولة الخلافة المزعومة - ومشاهد القتل والدمار والعنف، فضلا عن المقاطع المُصورة المُفبركة في بعض الأحيان لتصوير أنه تنظيم لا يُقهر أصلا لتوجيه رسالة للعالم خاصة الغربي». ولفت إلى أن «داعش» ليس لديه أخلاقيات ويعتمد بشكل كبير على الدعاية السوداء والكذب، التي تستعين بها جميع التنظيمات المتطرفة.
هذا، ويقترح الكتاب أن يعمل المتشددون على جرّ الولايات المتحدة إلى حرب ستتحوّل في نهاية المشوار إلى «حرب استنزاف»، الغاية منها إجبار الولايات المتحدة على الاستسلام. وتتطلب هذه الاستراتيجية استقطاب العالم الإسلامي وإقناع المسلمين المعتدلين الذين كانوا يأملون بالحماية من جانب الولايات المتحدة، بأن هذا الأمر لا يجدي نفعًا. وهنا يقول مراقبون إن «ثمة مخاوف الآن في الغرب، خاصة، بعدما طوّرت (داعش) قدراتها القتالية بشكل يتيح لها شن هجمات إرهابية كبيرة في أماكن مختلفة بعيدة عن المناطق التي يسيطر عليها التنظيم في سوريا والعراق وليبيا».
وكان «داعش»، بالفعل، قد توعد في فيديو مصوّر الغربيين أخيرًا بهجمات «تنسيهم» - على حد زعمه هجمات نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وباريس نهاية العام الماضي.
وحسب الدكتور فاضل فإن «داعش» وفّر «الإمكانيات المادية لتدريب كثير من الكوادر لاختراق المواقع الإلكترونية في الدول بتكنولوجيا حديثة بدليل استعانته بالأجانب، لمساعدة التنظيم في ضم كثير من الشباب والفتيات عبر (تويتر) و(فيسبوك)».
وفي السياق نفسه، يؤكد الخبراء أن تنظيم «داعش» الإرهابي ينشر يوميًا ما يقرب من 250 ألف تغريدة على مواقع التواصل الاجتماعي «تويتر» و«فيسبوك» لتوصيل رسالة بأن عدد الداعمين لأفكار التنظيم في تزايد مستمر، لافتين إلى أن «داعش» يعتمد اعتمادًا كليًا على قراصنة الكومبيوتر «الهاكرز» لاختراق حسابات رواد التواصل الاجتماعي لجذب المزيد من المتابعين والتأثير عليهم. كما أن «الهاكرز» يقومون بتصوير الحياة في ظل - مزاعم «دولة الخلافة» - بأنها حياة طبيعية، متجاهلين فيديوهات القتل والذبح والوحشية التي يرتكبها عناصر التنظيم. وهذا يعني أن «داعش» يمتلك «جيشًا إلكترونيًا» لنشر الفيديوهات عبر دول العالم لزيادة شعبيته، خاصة، في الدول الأوروبية.
وعن ضرورة إظهار مشاهد القتل والدمار التي نقلها الدواعش من فكر الكتاب، قال الدكتور فاضل لـ«الشرق الأوسط» - وهو حاليًا عميد كلية الإعلام بجامعة الأزهر إن هناك حالة من التضخيم تسببت فيه بعض وسائل الإعلام الغربية لإقناع البسطاء في العالم أن «داعش» يملك كيانا يُقارب حجم الدول. ويؤكد كتاب «إدارة التوحش» أن خطة الجماعات المُتطرفة عندما تواكب مرحلة إدارة «التوحش» بصفة خاصة هدفها - الذي يجب أن تقوم لجانها تخصيص من يخطط لها من الآن (أي عام 2008)– هو أن تطير جموع الشعوب إلى المناطق التي تديرها وتقع تحت سيطرة الجماعات، خاصة الشباب منهم.
ومن ثم حدّد الكتاب شخصية مَن يقوم بصياغة الخطاب الذي يوجه لجذب أنصار جُدد للجماعات الإسلامية، حيث يقوم بتوجيه أغلبها للرد على شبهات من يزعم أنهم «مشايخ السوء» (وهم المشايخ الرسميون في الدول)، والتركيز على تخيل صحيح لعقلية العوام وأكثر الأفكار التي تعوقهم (أي العوام) عن الالتحاق بصفوف «الجهاد» المزعوم.
من جانبه، يقول الخبير الإعلامي الدكتور مرعي مدكور لـ«الشرق الأوسط» إن خطاب «داعش» الذي استوحاه من «إدارة التوحش» يُعد «أداة قتال» رئيسة من أدوات المعركة التي يخوضها التنظيم المتطرف، وليس مجرد آلية للترويج الخارجي لمُقاتليه، لافتًا إلى أن خطابه يعتمد على التخويف والترويع كما كان يفعل التتار عندما يغزون البلدان في الماضي.
ويقول الكتاب أيضًا عندما نريد توصيل رسالة كأن نخطف رهينة ثم بعد ذلك إثارة ضجة حولها ونطلب من مراسلي المحطات والشبكات الإعلامية إعلان ما نريد إيصاله للناس كاملا مقابل تسليم الرهينة، فيمكن أن يكون ما نريد إعلانه بيانًا تحذيريًا أو تبريرًا لعمل مصيري. ولم يستبعد مدكور، وهو عميد كلية إعلام جامعة 6 أكتوبر، امتلاك «داعش» في المستقبل قنوات فضائية قد تُبث عبر الأقمار الصناعية مثل «النايل سات»، مؤكدا أن ما يروّجه «داعش» بأنه يستطيع تخطي أي خطوط أو عقبات أمامه، ينبعي أن يوضع جديًا في الاعتبار.
كذلك، يؤكد خبراء أن «داعش» ينطلق في أنشطته الاتصالية من استراتيجية متكاملة يوفر لها طاقات كبيرة ويحشد لها موارد ضخمة، ويقول الدكتور حسام شاكر، عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر، إن «التنظيم لديه شبكة من المؤسسات التي تعمل بتكامل، وتتخصص كل واحدة منها في أداء دور مُحدد»، موضحا لـ«الشرق الأوسط» أن «مَن يحلل رسائل (داعش) يجد أنها تتمتع بدرجة عالية من الاحترافية والجودة، لا تتناسب مطلقا مع المواقف الآيديولوجية التي ينطلق منها أعضاء التنظيم، فضلا عن تمتع تلك الرسائل بموارد ضخمة وقدرات تنظيمية عالية».
ويوضح الكتاب في فصله السابع أنه «في مرحلة شوكة (النكاية والإنهاك) نحتاج لاستقطاب الأخيار من الشباب وأفضل وسيلة هي العمليات المبررة شرعًا وعقلاً.. وأعلى درجات التبرير، هو تبرير العملية نفسها بنفسها؛ لكن لوجود الإعلام المضاد - بحسب مؤلف الكتاب - يصعب إيجاد العملية التي تبرر نفسها بنفسها، وإن كان من الممكن أن يحدث ذلك عندما نصل لمرحلة عالية من الإعلام، وعندها يعجز الإعلام المضاد عن متابعتنا وتشويهنا».
ويضيف المؤلف: «لكن في المرحلة التي ينشط فيها الإعلام المضاد، فلا سبيل لتبرير العمليات إلا بإصدار بيانات من خلال الإعلام المسموع أو المرئي تمهد لكل العمليات قبل القيام بها - دون تحديد - وتبرر لها بعد القيام بها تبريرًا شرعيًا وعقليًا قويًا، يراعى فيها الفئة المُخاطبة، وينبغي أن تشمل أغلب البيانات أهدافنا العامة المقبولة عند الناس حتى دون عبارات صريحة مثل: «إننا نقاتل لإخراج أعداء الأمة ووكلائهم الذين دمروا البلاد عقائديًا...».
هذا وندّد الدكتور مدكور بطرق المواجهة الإعلامية المنتشرة في الإعلام العالمي الآن، والتي تواجه «الدواعش» بالتركيز على مدى وحشية ممارساتهم وكأنها تحاول أن تثبت للعالم أن هذا التنظيم هو الشر المطلق. إذ يرى مدكور أن القائمين على هذه الحملات لم يدركوا أن هذا يصب في مصلحة «داعش» التي نجحت في توجيه وتوظيف وسائلها ووسائل الإعلام العالمية في خدمة أهدافها المتمركزة حول نشر ثقافة الرعب والخوف.
أخيرًا، مؤلف الكتاب يرى أن فترة «إدارة التوحش» هي «الأخطر على الأمة»، وذلك بالتحوّل من مقاتلة العدو القريب المتمثل في الأنظمة السياسية والنخب العربية والإسلامية التي يصفها بـ«المرتدة»، إلى مقاتلة «العدو البعيد» المتمثل في الغرب عمومًا، والولايات المتحدة وإسرائيل خصوصًا. وحسب الخبراء فإن دول غرب أوروبا تحتل المرتبة الثالثة بين أكثر المناطق الجغرافية تصديرًا للمتطرفين المنضمين لـ«داعش» بتعداد وصل إلى 5 آلاف مقاتل نهاية عام 2015، بينما تأتي منطقة الشرق الأوسط والمغرب العربي في المرتبتين الأولى والثانية. أما على مستوى الدول فتأتي تونس في المرتبة الأولى برقم وصل إلى 6 آلاف مُقاتل، تليها روسيا بـ2400، فتركيا 2100، فالأردن بألفي مقاتل. وعلى مستوى أوروبا الغربية تأتي فرنسا في المقدمة بتعداد 1700 مُقاتل، ثم بريطانيا وألمانيا بتعداد 760 مقاتلاً لكل منهما.
ويشير حسام شاكر إلى أن «داعش» يصوغ استراتيجيته «ليخاطب ثلاثة مستويات مختلفة تمامًا: فهناك خطاب للأتباع والمتعاطفين والمؤيدين، وهناك خطاب يستهدف المتابعين الذين يقفون على الحياد أو في مفترق طرق إزاء التنظيم وأعدائه، أما الخطاب الثالث فيستهدف أعداء التنظيم».
«داعش» يستمد عقيدته من «إدارة التوحش» للمتطرفين ويتخذه دستورًا له
شرعنة قتل العناصر المُتمردة ونشر صور الرهائن قبل إعدامهم.. أبرز ملامحه
«داعش» يستمد عقيدته من «إدارة التوحش» للمتطرفين ويتخذه دستورًا له
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة