بسيسو.. الخوف من الغربة

«كن ضدّك مرّتين» لوزير الثقافة الفلسطيني

بسيسو يوقع على مجموعته
بسيسو يوقع على مجموعته
TT

بسيسو.. الخوف من الغربة

بسيسو يوقع على مجموعته
بسيسو يوقع على مجموعته

«كن ضدّك مرتين.. حين تسافر كي يعيدك الحنين إليك.. وحين تصاب بالحنين كي لا تنسى التفاصيل الصغيرة.. وعش بين هذين الضدّين، بكل ما لديك من مجاز ومخيلة..»، كان هذا المقطع الذي فضله الشاعر الدكتور إيهاب بسيسو، وزير الثقافة الفلسطيني، ليكون على صدر الغلاف الخلفي لمجموعته الجديدة «كن ضدّك مرتين»، التي خرجت، قبل أيام، عن دار الشروق للنشر والتوزيع في كل من العاصمة الأردنية عمّان، ومدينة رام الله في فلسطين.
وتوزعت المجموعة في 186 صفحة، في عدة محاور، حمل كل منها اسمًا، وضم كل محور منها مجموعة قصائد، وكأنها عدة مجموعات شعرية في مجموعة، دون أن يغيب عنها الخط الدرامي الموحد نسبيًا، ما يجعل منها مجموعة شعرية بنفس سردي، رسم خلالها بسيسو في تكويناتها المتعددة: «مساحة لكتابة مغايرة»، و«عند أول الذاكرة»، و«أمكنة حادة»، و«هر وسمكة وحكاية نمل»، و«احتمالات ممكنة»، وبالكلمات لوحات ظلت خطوط الاغتراب تؤطرها، ويشعل ألوانها الحنين، ولكن بريشة مغايرة لتلك التي رسم فيها لوحات مجموعته السابقة «حين سار الغريب على الماء»، وأصدرها عام 2014، والتي تبدو الأخيرة «كن ضدّك مرتين»، بشكل أو بآخر، جزءًا متممًا لها.
وأرى أن إيهاب بسيسو في مجموعته الجديدة «كن ضدّك مرتين» لا يزال يعزف سيمفونية الغربة، وإن بنوتة جديدة، حيث لا يزال مصابًا بالفوبيا أو الغربة التي تحولت إلى رهابا لا ينفك عنه أو عليه، مجموعة شعرية تلو الأخرى.
بل إنه وفي بعض القصائد يستخدم فعل الأمر، وكأنه يخاطب دواخل من يفكرون بالاغتراب، ويرجوهم ألا يفعلوا، كي لا يستنسخوا تجربته المؤلمة بشكل أو بآخر، فالغربة المغرية موجعة حد الكتابة.
ويكفي أن الإهداء إلى والدته مرتبط بصبرها وتحملها غربته، التي لا ينفك يدور في فلكها، وكأنه لم يتعب من السير على الماء، ولا يزال كأنه يرى نفسه، وينتظر خبرًا سارًا.. «إلى أمي.. من حملت شوك الانتظار، في الحرب والحصار.. سنوات من صبر وأمل، كي تلقى ابنها المسافر».
ونرى أن لفظة الوحدة وتنويعاتها تتكرر في المجموعة، وهذا له دلالاته، فهو لا يزال يشعر بالاغتراب، ليس فقط الجغرافي، بل أيضا الاجتماعي والثقافي وأيضا الفكري والإنساني مع أنه في رام الله الفلسطينية، وهو ما عبّر عنه بالقول «المدينة التي تستمع إلى أنّات صمتك وطن.. المدينة التي تسرق صدى صوتك في الضجيج منفى..».
وعودة للحديث عن السرد في «كن ضدّك مرتين»، فهذا يظهر جليًا كمسودات روائية في الجزء المعنون بـ«هر وسمكة وحكاية نمل»، إذ تم تقسيم القصائد في هذا الجزء إلى مشاهد روائية لم تخل من تنويعات تجريبية، في حين أن فكرة الاغتراب في هذا الجزء، وفي الديوان بشكل عام اتخذت نمطًا مغايرًا عما جاء في «حين سار الغريب على الماء»، و«كأنك تراك»، وغيرها.
في المجموعة هناك مساحات وطرائق جديدة على صعيد التقنيات (التكنيك)، وعلى صعيد التركيب اللغوي، والاستعارات المشهدية، يصل حد التجريب والتجريد أيضًا، وإن كان لا يزال يلهث وراء كلمة أو قصيدة أو مجموعة شعرية أو يزيد تعيد له التوازن بعد سنوات من الغياب للغريب، الذي لم تكتمل عودته، كما لم تنته غربيته بعد.
ويبدو بسيسو في «كن ضدّك مرتين»، كمهاجم بارع يسعى إلى الوصول للمرمى، الذي لم يصل إليه بعد، وكأن هناك من يحاول عرقلته، أو حكما يفاجئه بصفارة تشير إلى حالة تسلل غير مبررة، بينما يقلقه حارس مرمى بارع في الفريق المقابل، ولاعبون غير مهرة في فريقه بحيث يمنحونه تمريرات تجعله يستغل مهاراته في التسديد والمراوغة، لعله يخرج من حالة لا نهائية من السير على الماء، كغريب يعيش حالة استقرار غير مكتمل.
ويشير الناقد والكاتب الفلسطيني الدكتور إبراهيم أبو هشهش، في ندوة عن المجموعة، إلى أن عنوانها ليس مجرد يافطة مرفوعة على ناصية النص، بقدر ما هو متيب دال يقول الدلالة الكلية التي تتخلل قصائد الديوان بتجليات وتمثلات متنوعة، وقد جاءت القصيدة الأولى لتكون حاضنة العنوان، ومختبرًا لتشكيله، وبقراءتها تتأكد الدلالة الأساسية المتضمنة في العنوان، وهي أن نفي النفي إثبات، بمعنى أنك إذا كنت ضد نفسين مرتين، فإنك ستكون معها بالمحصلة النهائية، ولا يمكن للأنا الشاعرة أن تكون متطابقة تطابقًا كليًا مع ذاتها إلا في حالة الصدق المطلق، أي أثناء كتابة القصيدة، ومن هنا فإن الصورتين المتقابلتين: الأنا وصورتها المرآوية تلتقيان في ذات واحدة تجلس لتكتب قصيدتها، ولتمثل انحيازها في المحصلة الأخيرة إلى كيوننتها الفردية والإنسانية والأخلاقية».



لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم
TT

لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم

في مقالةٍ نُشرت الأسبوع الماضي، كتب الزميل ميرزا الخويلدي عمّا سمّاها «ظاهرة» أسامة المسلّم الأديب النجم، غير المسبوق أدبياً بشهرته محلياً وعربياً؛ القادر على جذب حشود من المعجبين والمعجبات، ممن قرأوا له وممن لم يقرأوا بعد، إلى معارض الكتب التي يوجد فيها.

بدون أدنى شك، يجسّد المسلم ظاهرة الروائي النجم. ومحاولة التقليل من شأن نجوميته والاستهزاء بها ضرب من العبث، والساخر منها والمستهزئ بها «كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل». المسلم جاء، أو ظهر، ليبقى، والنظر إلى تجربته ومنجزه الإبداعي باستعلاء ونفور لن يكون له أي تأثير في الواقع وعليه. وسيستمر الإقبال على مؤلفاته، والتزاحم حوله إلى حد إغماء البعض، أو التسبب في إلغاء فعاليات توقيع رواياته - حقيقةٌ تؤكد حقيقةً أخرى: تداعي أو انهيار صروح الوصاية على الإبداع الأدبي، وتقلص سلطة من يُنَصِّبُون أنفسهم أوصياء وحكام ذوق، يحلمون، رغم تغير الظروف والأحوال، في الاستمرار في توزيع صكوك الاعتراف والتزكية ممهورة بإمضاءاتهم.

جي كي رولنغ

«المُسَلَّمُون» قادمون

وسيأتي «مُسَلَّمُون» (من مُسَلّم) آخرون، مُقَلِّدُون ومتأثرون به، يحاكون أسلوبه في الكتابة، وفي ترويج كتبهم وذواتهم؛ وآخرون تغريهم جوائز «القلم الذهبي» بالمال وبأضواء الشهرة، وبوصول أعمالهم السردية أفلاماً إلى صالات السينما. وسنشهد، محلياً على نحو خاص، ظاهرة الإقبال على كتابة القص الشعبي (popular fiction): الفانتازيا والرعب والإثارة والتشويق والجريمة والرومانس، أو ما يسمى «الأدب الأكثر تأثيراً». وسيوازي ذلك الانتشارُ الفطري - المشرومي لدورات وورش كتابة «الأدب الأكثر تأثيراً». وليس على «المشهد الثقافي» سوى تحمل الظاهرة بإيجابياتها وسلبياتها، حتى وإن كان يوجد من يرفض وجودها. «المُسَلَّمُون» قادمون، فعلى الرحب والسعة، ففي المشهد متسع للجميع. ستجد مؤلفاتهم من يقرأها، ومن يمتنع، وله الحرية والحق في ذلك. لكن ثمة حقيقة أنه لا أحد يملك، أو له الحق في امتلاك، مفاتيح بوابات المشهد الثقافي، يفتحها أمام من يحب، ويقفلها في وجوه من لا يستطيع معهم صبراً.

ستيفن كنغ

البناء الذاتي للشهرة

حقيقة أخرى ذكرها الزميل الخويلدي في مقالته، وهي أن المسلم صنع شهرته بنفسه دون أي نوع من أنواع الدعم والرعاية من المؤسسات الثقافية بنوعيها الرسمي والأهلي. كما لم يكن للنقاد والصحافة فضل عليه، أو إسهام في صنع نجوميته. أضيف إلى ما ذكره الخويلدي، الحقيقة الأخرى: رفض 20 ناشراً لروايته «خوف»، ما اضطره إلى بيع سيارته لينشرها على حسابه.

أعتقد أن رفض نشر روايته علامةٌ على أنه كائن محظوظ، جعله الرفض ينضم بدون اختيار وقرار منه لقائمة الذين رُفِضتْ مؤلفاتهم وانتهى بهم المطاف كُتّاباً وأدباء مشهورين. يبدو أنه ما من شخص تعرضت كتاباته للرفض، إلا وأصبح مشهوراً، يضاف اسمه لقائمة الأسماء التالية على سبيل المثال لا الحصر: إرنست هيمنغوي، ف. سكوت فيتزجيرالد، سيلفيا بلاث، مايا أنجيلو، باربرا كنغسولفر. ومن كُتّاب القص الشعبي: أغاثا كريستي، ج. ك. رولينغ، ستيفن كينغ. سأسقط بعض الضوء على تجربتي ج. ك. رولينغ، وستيفن كينغ مع النشر.

رفض «هاري بوتر» و«كاري»

رفضت 12 دار نشر مخطوطةَ رواية رولينغ «هاري بوتر»، ليس هذا فحسب، بل حذرها أحد الوكلاء الأدبيين بأنها لن تحقق ثروة بتأليفها كتباً للأطفال. ربما شعر، أو لا يزال يشعر، ذلك الوكيل بوخزات الندم على تحذيره رولينغ، وهو يراها الآن تشغل المركز الأول في قائمة أكثر الكاتبات والكُتّاب ثراءً بثروة تقدر بمليار دولار. تحقق لها الثراء من كتاباتها للأطفال، وللكبار، خصوصاً الذين لم تنطفئ دهشة الطفولة فيهم.

أما كينغ، فقد رُفِضَتْ مخطوطةُ روايته «كاري» من قبل 30 ناشراً. وقد أوضح أحد الناشرين في خطاب الرفض إليه أنهم لا يهتمون بروايات الخيال العلمي التي تصور يوتوبيات سلبية (ربما يقصد ديستوبيات) لأنها «لا تبيع»، أي لا تحقق أرقام مبيعات مرتفعة. لكن «كاري» نُشِرَت أخيراً في 1974. ولما أُطْلِقَتْ نسخةُ الغلاف الورقي بعد عام من نشرها، 1975، بِيْعَ منها ما يزيد على مليون نسخة خلال 12 شهراً. والآن كينغ واحد من الكُتّاب الأثرياء، بثروة تقدر بــ500 مليون دولار.

مثلهما واجه المسلم رفض الناشرين. وستصبح سيرته الأدبية أقوى شبهاً بسيرتيهما، خصوصاً سيرة كاتبه المفضل كينغ، عندما تعرض الترجمات السينمائية لرواياته على الشاشتين الكبيرة والصغيرة في القريب العاجل كما يُفهم من كلامه عن ذلك.

تيري وودز وفيكي سترينغر

وللروائتين الأميركيتين تيري وودز وفيكي سترينغر، أعود من كتابة سابقة. فلوودز وسترينغر قصتان طويلتان مع الرفض المتكرر من الناشرين، ولكنهما وضعتا لهما نهايتين مختلفتين عن نهاية قصص الكاتبات والكُتّاب المذكورين أعلاه. يتجلى في قصتيهما الصبر والإصرار على تحقيق الهدف. كان النشر الذاتي نهاية قصة كل منهما، لينتهي بدوره بتأسيس كل منهما دار نشر، شقت الطريق أمامها إلى الثراء.

في المتبقي من وقتها الموزع بين واجبات الأمومة وعملها سكرتيرة في شركة قانونية، فتحت تيري وودز من فيلادلفيا، التي ستصبح فيما بعد رائدة القص المديني - قص المدينة، أو أدب الشارع، أو أدب العصابات، فتحت لنفسها باباً تدلف من خلاله إلى عالم الكتابة، لتشرع في تأليف روايتها الأولى «True to the Game». وبعد فراغها من الكتابة، راحت تطرق أبواب الناشرين. وعلى مدى 6 سنوات، من 1992 إلى 1998، كانت تتلقى الرفض تلو الآخر. ولمّا نفد صبرها، قررت طباعة وتغليف روايتها بنفسها وبيعها مباشرةً لباعة الكتب وللناس في الشوارع. كانت تطوف بالمدن. تنام في سيارتها في مواقف السيارات، وعلى الأريكات في بيوت معارفها، وتقضي ساعات في شوارع نيويورك. ثم انتقلت الى الخطوة التالية: تأسيس دار للنشر. بعد مضي ثلاث سنوات، أصبحت وودز الكاتبةَ المليونيرة. وكان عام 2007 عام خير عليها، وقَّعَت خلاله صفقةَ خمس كتب مع «غراند سنترال بَبلِشينغ»، وظهر الجزء الثاني من روايتها «True to the Game II» على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لصحيفة «نيويورك تايمز»، وفي العام التالي (2008)، كان الجزء الثالث على قائمة «نيويورك تايمز» أيضاً.

أما فيكي سترينغر، فقد أتاحت لها الكتابة مفراً من ضيق الزنزانة إلى رحابة العالم المتخيل في روايتها «Let That Be the Reason»، التي كتبتها في السجن. غادرت فيكي سترينغر ولاية ميشيغان إلى مدينة كولومبس للدراسة في جامعة ولاية أوهايو. وهناك التقت بمن أصبح صديقاً لها. وكان يتعاطى ويروج المخدرات، فاستدرجها إلى الانزلاق إلى هاوية المخدرات وتعاطيها وترويجها، حيث توجّت بلقب «ملكة الكوكايين في كولومبوس». وحين ألقي القبض عليها كان في حوزتها كمية كبيرة من المخدرات ومئات آلاف الدولارات.

في السجن وبعد الخروج منه، كانت الكتابة «خيط أريادني» الذي اهتدت به للخروج من متاهة التعثرات والتيه في الماضي. فعلى الفور، راحت تبحث عمن ينشر مخطوطة روايتها الأولى، لتُمَنى برفضها 26 مرة، ما اضطرها إلى نشرها ذاتياً، وتأسيس دارها للنشر. وتوالى نشر الأجزاء الأخرى من الرواية، ورواياتها الأخرى. أطلقت مجلة «بَبليشرز ويكلي» على سترينغر لقب «ملكة أدب المدينة الحاكمة». وفي 2005، شهدت طوكيو، نشر ترجمات رواياتها إلى اليابانية.

إغراء الناس بدخول المكتبات

تقول الكاتبة آن بارنارد في مقالتها «من الشوارع إلى المكتبات»، المنشورة في «نيويورك تايمز» (23-10-2008)، إن المكتبات في «كوينز»، ونظام المكتبات المنتشرة في البلاد، إلى مقاطعة يورك في بنسلفانيا، تحرص على اقتناء روايات (القص المديني - أدب الشارع - أدب العصابات) كطريقة مثيرة، وإن تكن خِلافيَّةً أحياناً، لجذب أشخاص جدد إلى قاعات القراءة، ولنشر محو الأمية والتفكير واستكشاف ميول واهتمامات الجمهور الذي يخدمونه.

جوهرياً، لا يختلف ما تقوله بارنارد عن روايات وودز وسترينغر وغيرهما من كُتّاب أدب الشارع، عمّا يقال عن روايات المسلم، وجذبها آلاف من الشباب إلى الكتاب والقراءة، وإلى معارض الكتب، وإثارتها الاختلاف والجدل، والانقسام ما بين مادحٍ وقادح.

لكن رغم التشابه بين تجارب وودز وسترينغر والمسلم، يتميز الأخير بأن في وطنه جائزة (جائزة القلم الذهبي) خصصت ستةُ من مساراتها الثمانية للقص الشعبي. قد لا يفوز في الدورة الأولى، ولا في الثانية، ولا الثالثة، ولا الرابعة. وقد لا يفوز بها أبداً. لكنه سيظل الكاتب مثير الجدل، وجاذب الحشود لمعارض الكتب.

ترُى هل سيعزز المسلم التشابه بينه والروائيتين الأميركيتين من ناحية رفض الناشرين في البدايات وجاذبية أعمالهم السردية بتأسيس دار لنشر القص الشعبي، أو هل أقول «الأدب الأكثر تأثيراً»، إذا كان بالإمكان اكتشاف مدى قدرة كتاب على التأثير قبل النشر، وبعده بدون أجهزة وآليات رصد خاصة ومعايير؟

ناقد وكاتب سعودي