سد الموصل .. يوحد الأميركيين ويفرق العراقيين

احتمالات انهيار رابع سد في الشرق الأوسط له تداعيات كارثية

سد الموصل .. يوحد الأميركيين ويفرق العراقيين
TT

سد الموصل .. يوحد الأميركيين ويفرق العراقيين

سد الموصل .. يوحد الأميركيين ويفرق العراقيين

حتى بعد القرار الذي اتخذته الحكومة العراقية بإحالة صيانة سد الموصل إلى شركة إيطالية بعد جدل ومماطلات فإنه لا يزال مصدر قلق للعراقيين بسبب تكرار الحديث عن إمكانية انهياره في أي لحظة ما يتسبب بغرق مدن بل ومحافظات كاملة مثل نينوى وصلاح الدين وسامراء وأجزاء من الأنبار وحتى العاصمة بغداد. الأخبار والتقارير اختلط حابلها السياسي بنابلها الفني مما أضاع للعراقيين حكاما ومحكومين ومثلما يقول مثلهم السائر «الخيط والعصفور». ففي حين اتبعت وزارة الموارد المائية، وهي الوزارة ذات الاختصاص والمعنية أكثر من سواها بقضية السد، سياسة الإنكار التام لجهة عدم وجود مخاطر تهدّد السد، فإن التقارير الواردة من قبل الجانب الأميركي كانت تتحدث باتجاه آخر وجد له طريقا في التفسير يجمع بين إمكانية أن تكون المعلومات الأميركية صحيحة أو أنها تدخل في سياق «نظرية المؤامرة».

مثل قضايا كثيرة تمسّ العراق هذه الأيام، بل منذ 2003. ما عاد ممكنًا فصل السياسة عن أي ظاهرة. ومع أن أزمة بخطورة إمكانية انهيار سد الموصل، أكبر سد في العراق ورابع أكبر سد في الشرق الأوسط، لتداعياتها الكارثية، فإن ثمة اختلافًا علنيًا في تشخيص المشكلة بين الحكومة العراقية، ممثلة بوزارة الموارد المائية، والتقارير الصادرة عن جهات أميركية تتابع الشأن العراقي.
وفي حين تنكر الوزارة وجود أي خطر يهدّد السد، تنقسم الآراء حول التقارير الأميركية بين مصدّق ومكذّب يرى أنها تدخل في سياق «نظرية المؤامرة»، لجهة تعزيز النفوذ الأميركي العسكري في المناطق الغربية من البلاد، لا سيما، بعد القرار الذي اتخذته واشنطن بتحرير الموصل بمشاركة حصرية للجيش العراقي والمتطوعين من أبناء المدينة وقوات البيشمركة الكردية. وهذا يعني الاستبعاد التام لميليشيا «الحشد الشعبي» خصوصا بعد إنزال قوات الفرقة 101 الأميركية المجوقلة في الموصل مع وجود القوات التركية بالقرب من بلدة بعشيقة القريبة من الموصل، بالإضافة إلى القوات الإيطالية التي ستدخل لحماية السد. كل هذه القوات تنتمي إلى حلف شمال الأطلسي «ناتو» وهو ما شحذ الذاكرة السياسية بمزيد من التحليلات والأفكار بشأن إمكانية تشكيل خريطة سياسية جديدة في المنطقة بدءًا من العراق، خصوصًا مع تنامي التنافس الروسي ـ الأميركي.

بداية حكاية السد
القضية الأصل بالنسبة لسد الموصل كان، بداية، الكلام عن وجود مشكلة فنية في أساسات السد منذ البدء بإنشائه عام 1983 وبدء العمل به وتشغيله عام 1986. ذلك أن السد الذي تعود خطط بنائه إلى خمسينات القرن الماضي عبر ما كان يسمى «خطط مجلس الإعمار» على عهد رئيس الوزراء العراقي في العهد الملكي نوري السعيد، ولقد اختير موقعه في حينه بأرض جبسية ما يعني إنها تتأثر بالماء، وهو ما يحتاج إلى تحشية مستمرة كي لا تتآكل أساسات السد وينهار. وهذا ما دعا النظام العراقي السابق إلى بناء معمل إسمنت بالقرب منه لهذا الغرض، واستمر العمل بهذه الطريقة حتى سقوط نظام صدام حسين عام 2003.
بعد هذا التاريخ عانى هذا السد بعض الإهمال رغم الاستمرار في عمليات التحشية. وبما أن المشكلة تفاقمت فإلى حد ما رصد مبلغ 3 مليارات دولار إبان حقبة حكومة نوري المالكي السابقة لبناء سد يطلق عليه «سد الصد» لإعاقة تسرّب المياه إلى المدن والأراضي المحيطة به وحتى مئات الكيلومترات في حال انهياره، إضافة إلى المحافظة على المياه التي تستخدم لتوليد الطاقة الكهربائية، وبجانب ذلك إطلاق كميات إضافية من المياه خلال فصل الصيف الحار في العراق خصوصا للمحافظات الجنوبية من البلاد التي تعاني أصلاً شحًا في المياه. غير أن الفساد المالي والإداري حال دون إطلاق هذا المبلغ الذي كان كافيًا تمامًا لدرء المخاطر الحالية المحيقة بالسد، التي تفاقمت بعد احتلال تنظيم داعش مدينة الموصل. فالتنظيم المتطرف احتل السد لأقل من شهرين لكن خلال هذه الفترة توقفت خلالها عمليات التحشية ما أدّى – وفق التقارير – إلى تحرّك في أساسات السد.

جدلية الماء والسياسة
وهنا، سرعان ما انتقلت قضية سد الموصل من الجانب الفني إلى الإطار السياسي، داخل قبة البرلمان العراقي، الذي لم يأخذ قضية السد على محمل الجدّ لتخوفه من فتح جبهة جديدة من الجدل والخلاف بين الأطراف والكتل والمكونات السياسية ما من شأنه زيادة الفرقة والمناكفات السياسية.
هكذا ظل الحال حتى دخل الأميركيون بقوة على خط المشاكل المحيطة بالسد. ففي مكالمة هاتفية أبلغ الرئيس الأميركي باراك أوباما رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي – بناءً على ما أعلنه لـ«الشرق الأوسط» سياسي عراقي رفيع المستوى طالبًا إغفال ذكر اسمه – أن «كوابيس ليلية تراودني في منامي»، وأردف أن «أوباما أكد للعبادي أن أول سؤال يوجهه لمستشاريه عند كل صباح هو ماذا لديكم من تقارير بشأن سد الموصل». السياسي العراقي تابع أن «هذه المعلومات أدلى بها العبادي خلال اجتماع مجلس الوزراء»، قائلا: إن أوباما كان جادًا جدًا، وأبلغ العبادي أنه لا يريد للسد أن ينهار خلال فترة رئاسته.
هذا الموقف الأميركي الحاسم حيال السد سرعان ما وجد تنفيذه على أرض الواقع حين بدأت فرق العمل الأميركية مسحا لمشكلة السد، بالتعاون مع الجانب العراقي الذي أخذ يعي حجم المشكلة، وإن ليس بالمستوى المطلوب. إذ تحوّل الأمر إلى جدل داخل قبة البرلمان بين من يرى أن المشكلة حقيقية ومن يرى أنها مبالغ فيها. وفي حين وجهت اتهامات إلى وزير الموارد المائية محسن الشمّري «بالتهاون وعدم التعامل بجدية مع القضية» فإن مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، الذي ينتمي الوزير إلى كتلته البرلمانية طلب منه سحب نفسه من قضية المفاوضات مع الشركة الإيطالية.
البعد السياسي للسد عبّر عنه عضو البرلمان العراقي عن تحالف القوى العراقية (الكتلة السنّية في البرلمان) فارس طه في تصريح لـ«الشرق الأوسط» فقال: «المخاوف التي عبرنا عنها في تحالف القوى العراقية بشأن قضية سد الموصل ليست ناجمة عن فراغ، بل هي مخاوف حقيقية مبنية على وقائع وحيثيات. فحياة الملايين باتت مهددة في حال انهيار السد، الذي يبقى برغم كل الكلام الذي يقوم على تطمينات غير مؤكدة احتمالا قائما».
طه أشار إلى أنه «سبق أن قدمت الجهات المسؤولة تطمينات قبل دخول داعش إلى المحافظات والمدن الغربية من أن الجبهة آمنة حتى استيقظ العراقيون ليجدوا داعش احتل الموصل وصلاح الدين». وأوضح طه أن «المشكلة أن الحكومة الحالية، حالها في ذلك حال مثيلتها الحكومة السابقة، لا تتعامل بجدية كاملة مع التحذيرات بما فيها التحذيرات الدولية المتخصصة، وهو أمر يجعلنا نقف بقوة من أجل أخذ المخاطر التي يمثلها السد على محمل الجد». واستطرد أن «الضحية الأكثر تعرضا للكارثة في حال انهيار السد هم أبناء المناطق المحتلة (من داعش)، وبالتحديد، الموصل وتكريت».
وفي السياق نفسه تقول انتصار الجبوري، عضو البرلمان العراقي عن محافظة نينوى، في حديثها لـ«الشرق الأوسط» بأن «المشكلة التي نواجهها الآن ليس أن الجهة الرسمية المسؤولة عن الأمر، وهي وزارة الموارد المائية، لا تملك خطة بشأن السد فحسب، بل إنها تنفي كل ما يتعلق بالمخاطر التي تحذّر منها جهات عالمية معتبرة». وأضافت الجبوري «الإجراءات لا تزال ترقيعية، ومن بين ما يجري القيام به الآن هو زيادة الإطلاقات المائية وتشغيل الكهرباء. حيث إن بيوت أهالي الموصل بدأت تأتيها المياه بكثافة، بالإضافة إلى عودة التيار الكهربائي إلى المنازل. وبالتالي، فإن سياسة حبس الماء بالسد إلى حد وصوله مرحلة الخطر من دون تشغيل مولّدات الكهرباء، أو إطلاق المياه إلى الأهوار الجافة، يعني أنه لا توجد سياسة حكيمة في التعامل مع السد».

تقرير أميركي
طبقا لما أعلنه مصدر عراقي مطلع لـ«الشرق الأوسط» أن «تقريرًا أميركيًا من 80 صفحة قدّم خلاصة مكثفة معزّزة بالرسوم والخرائط عبر الأقمار الصناعية، فضلاً عن المجسّات الجوية، إلى الرئيس باراك أوباما بالإضافة إلى إطلاع الجانب العراقي، لا سيما، رئيس الوزراء العبادي الذي يعد أكثر القادة العراقيين تفهمًا للمخاطر المترتبة على السد. وفي المقابل، يقلل مسؤولون وقيادات أخرى من هذه المخاطر، بل نفيها بالكامل، وهو ما تعمل عليه وزارة الموارد المائية التي تتبع سياسة الإنكار التام». وأضاف المصدر المطلع أن «ملخّص ما ورد في هذا التقرير هو أن احتمال انهيار السد يبقى قائمًا، لكنه قد لا يكون كبيرًا بالدرجة التي تصوّرها بعض الجهات. مع هذا لا ينبغي التقليل من هذه المخاطر في حال لم تتم معالجتها بطريقة جذرية». وأردف أن «عدة دول أوروبية، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، أجرت مسوحًا جوية ودراسات وتحاليل مختبرية جيولوجية متكاملة وحديثة لوضع السد، بالتعاون مع الجانب الأميركي وبموافقة الحكومة العراقية، بينما التقارير والتحاليل العراقية تعود إلى عام 2004». ثم أضاف: «استعان الأميركيون، إضافة إلى التصوير عبر الأقمار الصناعية، بالغواصين... الرئيس أوباما يتابع شخصيًا موضوع السد، حتى إنه في إحدى مكالماته الهاتفية مع العبادي أبلغه بالنص أن السؤال الذي أبدأ به يومي لمستشاري هو: ماذا لديكم عن سد الموصل؟ وهو ما أدى إلى تعجيل الإجراءات التي بدأت تأخذها الحكومة العراقية لا سيما رئيس الوزراء ومنها الاتفاق مع شركة إيطالية لصيانته». وحول مدى الاهتمام الدولي بقضية سد الموصل، أكد هذا المصدر المطلع أنها التي «حفزت البنك الدولي على منح العراق القرض الأخير البالغ مليارا ونصف مليار دولار لأن البنك الدولي لا يعطي قروضًا من أجل سداد الرواتب».
وبشأن المخاطر التي تحوم حول السد من النواحي الفنية، قال المصدر المطلع إن «الإطلاقات المائية الحالية حاليًا أدت إلى خفض منسوب السد من 330م إلى 319م لكنها حتى الآن ليست كافية، لأن المخاطر التي قد تخرج الوضع خارج نطاق السيطرة تبدأ من 25 فبراير (شباط) الجاري حتى أول أبريل (نيسان)، موسم ذوبان الثلوج، وهو ما يعني العجز عن تحويل مياه السد إلى بحيرتي الثرثار والرزّازة في محافظة الأنبار بسبب أن النواظم التي تحول الماء إلى هناك تقع تحت سيطرة داعش، كما أن إطلاق المزيد من المياه الآن سيؤثر جديًّا على حصول بغداد والمحافظات الجنوبية على مياه إسالة خلال فصل الصيف، وهو ما يعني وجود أكثر من مشكلة في آن واحد».
مشكلة مزمنة وحلول وقتية

مراكز الأبحاث الأميركية المتخصصة في مجال السدود والجسور وجدت بعد الدراسات التي أجرتها على سد الموصل أنه يعاني من مشكلات عدة، لا سيما في قاعدته التي شيدت على أرض رخوة غير متماسكة. ورأت أن أعمال الحقن بمادة الإسمنت الخاص التي تقوم بها جهات عراقية مختصة غير ناجعة لحمايته بشكل نهائي وتلافي المشكلات التي يواجهها، ما يعني أن استمرار إهماله سيتسبب في قرب انهياره. وفي حال انهار سد الموصل فإنه سيطلق أربعة مليارات متر مكعب من المياه دفعة واحدة، الأمر الذي سيؤدي إلى مقتل الآلاف في غضون ساعتين من الزمن، وستكون بمثابة كارثة العصر في القرن الحادي والعشرين.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.