دوركهايم وسوسيولوجيا الدين من أجل فهم أصله

بدأ منهجه بملاحظة التنوع اللامتناهي للأشياء وللكائنات المقدسة

دوركهايم
دوركهايم
TT
20

دوركهايم وسوسيولوجيا الدين من أجل فهم أصله

دوركهايم
دوركهايم

يقدم دوركهايم في كتابه «الأشكال الأولية للحياة الدينية» سنة 1912، رؤية للدين تحاول أن تقبض على حقيقته، وتعتبره ظاهرة اجتماعية مؤسسة لكل الظواهر الاجتماعية الأخرى، التي انبثقت منها بشكل أو بآخر. وتتأسس هذه الرؤية، على النقد الصارم لمختلف تعريفات الدين المتداولة في ذلك الوقت، حيث تعرضت تلك التعريفات التي تربط الدين بالقوى فوق الطبيعة، للطعن والنقد (عالم الوحي - السر الخفي - العالم غير القابل للمعرفة - العالم المبهم غير القابل للفهم). كما يوجد في الواقع ديانات كبرى (مثل البوذية bouddhisme)، حيث لا وجود لفكرة الإله والأرواح، أو على الأقل لا تلعب هذه الفكرة إلا دورا ثانويا ومتواضعا. معنى هذا أن هناك شعائر دون آلهة. وعلى هذا الأساس، يمكن أن يحدد الدين انطلاقا من كونه «كلا مكونا من أجزاء». فالدين عبارة عن «نظام مركب من الأساطير، العقائد، الشعائر، والطقوس». ومن أجل فهم الكل، يجب تفكيك هذا المجموع «المميز للظواهر الأولية التي تنتج عنها كل الأديان». إذ يتبين لنا أن الظواهر الدينية تنتظم في فئتين رئيسيتين: المعتقدات والشعائر (العادات). فالمعتقدات هي «تمثلات تعبر عن طبيعة الأشياء المقدسة، علاقاتها مع بعضها ومع الأشياء الدنيوية». العادات أو الشعائر، تعتمد على المعتقدات. فهي عبارة عن «قواعد للعمل، تصف وتحدد كيف يجب على الإنسان أن يتصرف مع الأشياء المقدسة». وعلى هذا الأساس، يعتبر الدين نظاما تضامنيا للمعتقدات المرتبطة بأشياء مقدسة. إنها «معتقدات وممارسات توحد وتجمع داخل الجماعة الأخلاقية نفسها، التي تسمى الكنيسة، كل أولئك الذين ينتمون إليها». إذن، بعد أن تم استبعاد التفسيرات الميتافيزيقية، أخد دوركهايم موقفًا متحفظًا من التفسيرات المقدمة من قبل الباحثين. إنه يأخذ بجدية كبيرة الظاهرة الدينية. فقد استمد منها البشر في كل الأزمنة، الطاقة الضرورية لحياتهم. فالتفسيرات «الحيوية» والتفسيرات «الطبيعية»، انطلقت من أن أصل التمثلات الدينية تكمن في طبيعة الإنسان أو في طبيعة الكون. وعلى هذا الأساس، ترفض هذه التفسيرات، بسبب اختزالها لهذه التمثلات، إلى مجرد التعبير عن حلم أو تفسير يتسم بالهذيان للظواهر الطبيعية، مسقطة العلاقة التي تؤسسها الأفكار الدينية مع الواقع المعيش، أي أنها تهمل الحقيقة الاجتماعية. يقول دوركهايم: «بما أن لا الإنسان ولا الطبيعة يمتلكان في حد ذاتهما، طابعًا مقدسًا، فإن هذا يعني أنهما يحتفظان بهذا الطابع من مصدر آخر، بعيدًا عن الإنسان الفرد وعن العالم الطبيعي. من الضروري إذن، أن توجد حقيقة ما أخرى يصبح أمامها مغزى وقيمة موضوعية. بعبارات أخرى، وراء ما يسمى بالنزعة الطبيعية والنزعة الحيوية، من الضروري أن نرى في ذلك عقيدة أخرى، عقيدة أكثر أصولية وأكثر بدئية، أشكالها الأولى ليست على وجه الاحتمال إلا أشكالا مشتقة أو أشكالا تمثل اعتبارات خاصة».
لكي نفهم الظاهرة الدينية، وفقًا لمنهج دوركهايم، يجب الاعتراف بثبات واستمرارية حقيقة الظواهر التي تسهم في تشكيل التقاليد والحياة الاجتماعية، الظواهر التي تشرك الأفراد والجماعات الإنسانية بعمق، وتمدهم باتجاهات وطرق للعمل. يجب الاعتراف بالاستمرارية الأساسية التي توجد بين المعتقدات الدينية للمجتمعات التقليدية، والمعتقدات الجمعية التي تدفعنا، نحن البشر المعاصرين، إلى الحياة، حتى على الرغم من العلم الذي نجحنا في أن نجعله يبعد معظم العلوم الكونية التي تحتفظ بتفسيرات عن العالم خارج حدود العقلانية.
في الواقع، كل جماعة إنسانية تتجه وتدفع إلى اصطناع افتراضات تفسيرية غير ثابتة بشكل أو بآخر، تسمح للأفراد أن يعطوا معنى للمواقف والأوضاع التي يعيشونها، وأن يشتركوا فيما بينهم في هذه المعاني. وذلك بدءًا من التجارب والخبرات المحددة التي يمرون بها، وتبعًا للمصادر المعرفية التي يمتلكونها. حتى في المجتمعات الحديثة، التي يفترض أنها تخضع لحكم وضرورات العمل الاستنتاجي، وإلى المراجعة التجريبية، هذه المجتمعات، أبعد من أن تكون قد أنهت، بشكل نهائي، كل الأشكال «اللاعقلانية» في وسائل التفسير، التي تتيح للبشر أن يدركوا بأنفسهم من هم وماذا يفعلون، لتفسير المعتقدات الجماعية «البدائية» أو المعاصرة. يجب إدراك المنطق الخاص بهما، الذي يشكل «حقيقتها»، أيا كانت مضامين هذه المعتقدات. إن المنهج الذي سار عليه دوركهايم لتحديد «حقيقة» الدين، يتمثل في أن يضع الدين في وضع يظهر فيه بالشكل الأكثر أولية والأكثر بساطة، بهدف إدراك هذه العلاقة الخاصة بالحقيقة التي يكمن فيها أصل الانفصال الجذري بين الدنيوي والمقدس. إن المعطيات الإثنوغرافية عن العقائد الطوطمية، قد وفرت لدوركهايم مادة التفسير الدقيق لهذه المعتقدات والممارسات «الأولية». وكانت في الوقت نفسه، من بين الانتقادات التي وجهت إليه. إذ اعتبرت أن دوركهايم لم يكن له أي اتصال مباشر مع الواقع «التجريبي» الذي يحاول تفسيره. ومهما يكن، لقد استخدم دوركهايم المعارف المتوفرة في زمنه، كما أن جزءا من الافتراضات التي طورها، بدءا من هذه الوثائق والمعطيات، فقد ملاءمته لسبب وحيد يتمثل في تقدم المعرفة الأنثروبولوجية. ونقطة البداية في منهج دوركهايم، هي ملاحظة التنوع اللامتناهي للأشياء وللكائنات المقدسة القادرة على أن تكون موضوعا لعقيدة طوطمية. هذا التنوع كبير جدا لدرجة أنه من المستحيل تحديد سمة أو صفة مشتركة تضفي في حد ذاتها الطابع المقدس عليه. مع ذلك، فإن ما هو مشترك بين كل هذه الأنواع من الأشياء، هو المشاعر المتشابهة التي تستيقظ في وعي المؤمنين. هذه المشاعر تشكل الطبيعة المقدسة لهذه الأشياء، وتعمل وفقا لمبدأ خاص بها ومشترك بين الجميع بلا تمييز. ووفقا لدوركهايم، ليست الطوطمية دينًا متعلق بحيوانات ما، أو بشر ما، أو صور ما، إنما الطوطم يتعلق بقوة مجهولة غير مشخصة توجد في كل واحد من هذه الكائنات. ومع ذلك لا يوجد هناك خلط فيما بينها. لا أحد يستحوذ عليها كاملة والكل يشترك فيها. إنها مستقلة تمامًا عن الذوات الخاصة التي تنصب فيها. إنها تعمل كما لو أنها تبقيهم أحياء. هذا المبدأ الطوطمي عبارة عن قوة، يربط الأفراد الواحد منهم بالآخر داخل الجماعة، إنه يجبرهم على العمل بطريقة محددة، إنه مصدر الحياة الأخلاقية للجماعة.
هكذا يستخلص دوركهايم، أنه يمكن الآن أن نفهم بشكل أفضل، لماذا كان من المستحيل علينا تعريف الدين بواسطة فكرة الشخصيات الأسطورية، الآلهة أو الأرواح. إن الذي نجده في أساس وأصل الفكر الديني، ليس موضوعات أو كائنات محددة ومتميزة تمتلك، في حد ذاتها، طابعًا مقدسًا. إنما نجد قوى غير محددة، قوى مجهولة كثيرة إلى هذا الحد أو ذاك، وفقًا للمجتمعات المختلفة. أما فيما يتعلق بالأشياء المقدسة الخاصة، فهي ليست إلا أشكالاً فردية لهذا المبدأ الأساسي. إن دوركهايم المرتبط، دائمًا، بدراسة الحالة الأسترالية، يعمم تحليله على مجمل الظواهر الدينية المعروفة. فالطوطم هو تعبير عن «المانا» التي تتجسد فيه.
إن القوة الدينية ليست إلا الشعور الذي يلهم الجماعة أعضاءها به. لكنه شعور مصمم خارج الوعي الذي يقبله ويضفي عليه الموضوعية. ولكي يضفي الوعي الموضوعية على هذا الشعور، يقوم بالتركيز على موضوع يصبح بالتالي مقدسا، حيث يستمد من المجتمع.



جمعة اللامي... خرج من السجن أديباً وصحافياً متميزاً

جمعة اللامي
جمعة اللامي
TT
20

جمعة اللامي... خرج من السجن أديباً وصحافياً متميزاً

جمعة اللامي
جمعة اللامي

لم يأتِ رحيل المبدع العراقي جمعة اللامي في السابع عشر من هذا الشهر مفاجئاً لمعارفه ومحبيه. إذ لم تحمل السنوات الأخيرة الراحة له: فقد سكنه المرض، وتلبدت الذاكرة بضغوطه، فضاع كثير من الوهج الذي تميزت به كتاباته. وتجربة جمعة اللامي فريدة؛ لأنه لم يكن يألف الكتابة قبل أن يقضي سنواتٍ عدة سجيناً في عصور مضت. لكنه خرج من هذه أديباً، وصحافياً متميزاً.

ربما لا يعرف القراء أنه شغل مدير تحرير لصحف ومجلات، وكان حريصاً على أن يحرر الصحافة من «تقريرية» الكتابة التي يراها تأملاً بديعاً في التواصل بين الذهن واللغة. خرج من تلك السنوات وهو يكتب الرواية والقصة. وكانت روايته «من قتل حكمت الشامي» فناً في الرواية التي يتآلف فيها المؤلف مع القتيل والقاتل. ومثل هذه المغامرة الروائية المبكرة قادت إلى التندر. فكان الناقد الراحل الدكتور علي عباس علوان يجيب عن تساؤل عنوان الرواية: من قتل حكمت الشامي؟ جمعة اللامي. لكن الرواية كانت خروجاً على الرواية البوليسية وإمعاناً في المزاوجة ما بين ماورائية القص وواقعتيه (ما بعد الكولونيالية). وسكنته روح المغامرة مبكراً. وكان أن كتب مسرحية بعنوان «انهض أيها القرمطي: فهذا يومك»، التي قادته أيضاً إلى محنة أخرى، لولا تدخل بعض معارفه من الأدباء والمفكرين. وجاء إلى القصة القصيرة بطاقة مختلفة جزئياً عن جيله. إذ كان جيل ما بعد الستينات مبتكراً مجدداً باستمرار. وكان أن ظهرت أسماء أدبية أصبحت معروفة بعد حين وهي تبني على ما قدمه جيلان من الكتاب: جيل ذو النون أيوب، وما اختطه من واقعية مبكرة انتعشت كثيراً بكتابات غائب طعمة فرمان، وعيسى مهدي الصقر وشاكر خصباك، وجيل عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي، والذين بنوا عليه وافترقوا عنه كمحمد خضير، وموسى كريدي، وأحمد خلف، وعبد الستار ناصر، وعدد آخر. وكان جمعة اللامي ينتمي إلى هذا الجيل، لكنه استعان بهندسة القصة لتكون بنية أولاً تتلمس فيها الكلمات مساحات ضيقة تنوء تحت وقع أي ثقل لغوي. ولهذا جاءت قصصه القصيرة بمزاوجة غريبة ما بين الألفة والتوحش، يتصادم فيها الاثنان، ويلتقيان في الأثر العام الذي هو مآل القص.

وعندما قرر اللامي التغرب وسكن المنفى، كان يدرك أنه لن يجد راحة البال والجسد. لكنه وجد في الإمارات ورعاية الشيخ زايد حاكم الدولة، وبعده عناية الشيخ الدكتور سلطان القاسمي ما يتيح له أن يستأنف الكتابة في الإبداع الأدبي وكذلك في العمود الصحافي. ولمرحلة ليست قصيرة كان «عموده» الصحافي مثيراً لأنه خروج على المألوف، ومزاوجة ما بين العام والشخصي، اليقظة والحلم، المادية والروحانية. وعندما ينظر المرء إلى مسيرة طويلة من الكد الذهني والجسدي فيها الدراية والعطاء، يقول إن الراحل حقق ذكراً لا تقل عنه شدة انتمائه لمجايليه وأساتذته وصحبه الذين لم يغيبوا لحظة عن خاطره وذهنه، كما لم يغب بلده الذي قيَّده بحب عميق يدركه من ألِفَ المنافي وسكن الغربة.

سيبقى ذكر جمعة اللامي علامة بارزة في أرشيف الذاكرة العراقية والعربية الحيّة.

 كانت روايته «مَن قتل حكمة الشامي؟» خروجاً على الرواية البوليسية وإمعاناً في المزاوجة ما بين ما ورائية القص وواقعتيه (ما بعد الكولونيالية)