غويا في «الناشيونال غاليري».. أحداث تاريخية كبرى وبورتريهات مسترخية

عدّة النقاد من أهم عروض نهاية سنة 2015 في العاصمة البريطانية

لوحة «دوقة إلبا»  -  من المعرض
لوحة «دوقة إلبا» - من المعرض
TT

غويا في «الناشيونال غاليري».. أحداث تاريخية كبرى وبورتريهات مسترخية

لوحة «دوقة إلبا»  -  من المعرض
لوحة «دوقة إلبا» - من المعرض

يتيح «الناشيونال غاليري» في لندن فرصة نادرة لزواره لمشاهدة معرض (غويا الصور الشخصية)، حيث تجمع إدارة الغاليري 70 لوحة بورتريت لغويا، تستعيرها من المتاحف في أنحاء العالم.
وفرانسيسكو غويا المولود عام 1746 في مقاطعة الأرغون الإسبانية يُعَدُ أهم الفنانين الإسبان في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، الفنان الذي صور في لوحاته الفنية كل تفاصيل البلاط الملكي بحكم منصبه كرسام للقصر، لكنه صور ووثق أيضًا أغلب الأحداث التاريخية الكبرى في عهده، مثل المقاومة التي واجهت نابليون أثناء اجتياحه لإسبانيا، كما في لوحته المشهورة (الثالث من مايو/ أيار 1808). وهو أيضًا رسام الكوابيس الليلية السوداء والكائنات المشوهة والأشباح والشياطين، أثر بأجيال لاحقة من الفنانين منهم بيكاسو ومانيه كما ألهمت ثيمات جدارياته الكابوسية السورياليين وتحديدًا سلفادور دالي.
يشعر الزائر بأن جدران الجناح، حيث يقام هذا المعرض مشبعة بروح الفن الكلاسيكي، تمامًا مثلما تشبعت ذات الجدران بنفس الروح في معرض رامبرانت المذهل في بداية عام 2015، حيث رُتبتْ قاعات العرض السفلى باللوحات والبورتريهات التي توثق التفاصيل اليومية للطبقة الأرستقراطية والأمراء والملوك في إسبانيا خلال الفترة النابولونية.
امتلك غويا موهبة سبر أغوار الشخصية موضوع اللوحة أو ربما رؤية سيكولوجية فريدة لا تقتصر على الملامح فقط، بل تتعداها إلى الهيئة الكلية للشخصية، ومن هنا تكمن أهمية هذه البورتريهات التي تشبه أصلها، لكنها غريبة عنه بذات الوقت. براعة غويا في فن البورتريت أهلته أن يصبح رسام القصر الملكي الأول، وكان قبل ذلك رساما للكثير من العوائل الأرستقراطية والشخصيات التنويرية. براعته الفنية مكنته أيضًا من النجاة بشكل ما خلال حقبة احتلال نابليون لإسبانيا التي تعتبر من أكثر الحقب اضطرابًا.
يستقبل الزائرين في القاعة الأولى بورتريت شخصيًا لغويا يعود إلى عام 1780، كأنه يرحب بالزوار بنظرته المركزة وشعره الأسود، ويدعوهم إلى الدخول إلى تفاصيل الحياة الإسبانية خلال القرن الثامن عشر. يتزاحم الزائرون حول لوحة (عائلة دون لويس دي بوربون/ 1784) وهي لوحة كبيرة وأول بورتريت رسمه غويا، ويبدو فيها الأمير دون لويس وعائلته في مشهد يومي عادي: خادمة تمشط شعر الزوجة الأميرة بينما الأمير يمارس لعبة الورق على منضدة، يقلد غويا في هذه اللوحة «بطريقته» أستاذه فيلاسكوز، فهو يرسم نفسه داخل اللوحة أثناء رسمه لعائلة الأمير، يضع نفسه في الجانب الأيمن (مبعث الضوء) الذي ينير بقية تفاصيل اللوحة، وكما في لوحة فيلاسكوز (وصيفات الشرف/ 1656)، تبدو الطفلة الأميرة (رمز البراءة) قريبة من الفنان (مصدر الضوء)، هناك طاقة حركية وحيوية مذهلة في هذه اللوحة تطغي حتى على الألوان.
لوحة (دوق ودوقة أوسونا/ 1788)، فيها من الكثير من الرقة والحنان كما في انحناءة وقفة الدوق الأب وهو يمسك يد طفلته، رغم العيون المفتوحة لهذه العائلة التي تجعلهم بهيئة تماثيل بشرية أو آلهة، يصور غويا في هذه اللوحة أيضًا اللعب التي كان يلهو بها أطفال العوائل الأرستقراطية، كما أنه يوثق للأزياء وتسريحات الشعر والإكسسوارات والأثاث.
في القاعة الأولى أيضًا، لوحة شائعة للملك شارل الثالث (1716 - 1788) الذي اشتهر بقبحه، لكن غويا يظهره بمظهر بسيط مسترخٍ وبملابس الصيد بعيدًا عن الرداء الملكي والأوسمة، كأن الفنان أراد أن يقرب بين الملك ورعيته بأن يرسم الملك، إنسانا أولاً.
رسام الشخصيات التنويرية الإسبانية , عام 1785 عُين غويا رئيسًا لأكاديمية سانت فرناندو الملكية للفنون، وعام 1786 أصبح الرسام الرسمي للملك. لكنه أيضًا كان جزءًا من الحركة التنويرية السياسية والاجتماعية التي شهدتها إسبانيا خلال بين عامي (1797 - 1798) في عهد الملك شارل الثالث، وكثيرًا من أصدقاء غويا ومجايليه مُنِحوا مناصب مهمة في إدارة الدولة كجزء من سياسة الإصلاحات التي قام بها الملك نتيجة مدّ الثورة الفرنسية.
لوحتان مقترنتان ببعض رسمهما غويا بالتعاقب، مرسموتان بدقة في التقاط التفاصيل، بلمسة انطباعية وانسياب فريد، تصوران اثنين من أبرز الإصلاحيين الإسبان في القرن الثامن عشر، لوحة المفكر المهموم (كاسبار ملكور دي جوفيليانوس/ 1798) الذي استدعي من منفاه ليصبح وزيرا للعدل، ولوحة (فرانسيسكو دي سافدرا/ 1798) وهو خبير اقتصادي ليبرالي مُنح منصب وزير الاقتصاد. كلا الرجلين يبدو بوقار كبير، جالسين في مكان عملهما أمام طاولة كبيرة وأوراق، غويا يسحبنا بلا وعي منا إلى المقارنة بين اللوحتين، فوزير العدل يجلس جلسة مفكر كأنه يحاور أفكاره، منحني الظهر ويسند رأسه بيده، بينما نرى وزير الاقتصاد يجلس بتوثب، مستقيم الظهر كأنه يتأهب للوقوف. اللوحة الأولى لرجل يفكر بينما الثانية لرجل يعمل، اللوحتان تعرضان معا للمرة الأولى حيث جمعتا من متحف البرادو في مدريد والثانية من كالري الكورتولد في لندن.
هناك اختلاف بَيّن في أسلوب تصوير الشخصيات، تبدو الألوان والخطوط وضربات الفرشاة مسترخية وهادئة حين يرسم الفنان أصدقاءه، بينما يبدو أكثر تشجنًا حين يرسم أفراد العائلة المالكة والإقطاعيين الأرستقراطيين.
تحلق الزائرون أيضًا أمام لوحة (دوقة إلبا/ 1797)، واقفة بثوب أسود من الدانتيل مع تسريحة شعر عالية ووشاح أحمر في خصرها، وخلفها نهر وأراضٍ شاسعة تعود لها، رغم جمالها المتواضع، لكنها تبدو قاسية الملامح ومعتدة بنفسها، تقف بانحناءة حميمية إحدى يديها مزينة بخواتم تشير إلى الرمل، حيث تقف، مكتوب على الرمل (غويا فقط)، هذه العبارة تُحمَل على مضمونين أو كلاهما فهي تشير إلى علاقة حميمية بينها وبين الرسام، ومن ناحية أخرى إلى اعتداد الفنان باسمه، حيث يصبح الاسم ثيمة موحية في كلية اللوحة.
لوحة (فرديناند السابع في الرداء الملكي/ 1814) وهي اللوحة التي أعقبت عودة فرديناند من منفاه واستئناف غويا عمله كرسام أول في القصر، من أبرز مهامه رسم صورة رسمية للملك فرديناند بالرداء الملكي والصولجان الذي هو تعبير عن السيادة التي اغتصبها نابليون ثم أُعيدتْ له بفضل تدخل الجنرال الإنجليزي ولنغتون (يعرض له بورتريت أيضًا) وجيشه وطرده للفرنسيين. يصور غويا يد الملك وهي تقبض على السيف المعلق إلى خصره، توحي بالنفوذ والقوة المطلقة، ورغم التفاصيل المزركشة والمبهرة الألوان في هذا البورتريت، يبدو غويا كأنه يسخر من الملك، فقد أعاد هذا الملك سلطة محاكم التفتيش واعتقل الكثير من أصدقاء غويا، شعر الملك الفاحم الذي يؤطر وجهه الخبيث، أنفه المفلطح، والذقن المربع الناتئ، والنظرة التي تضمر الشر وانعدام الأكتاف كلها توحي بالسخرية وليس التبجيل.
يودع غويا زائريه في القاعة الأخيرة ببورتريت شخصي مثلما استقبلهم، صورة له وهو على فراش المرض مع طبيبه (دكتور أريتا). عام 1819 أصيب غويا وهو بعمر الثالثة والسبعين بمرض غريب أفقده السمع وكاد يقتله وهذا البورتريت هو عرفان لجميل الطبيب الذي أنقذ حياته ويسميه (صديقي أريتا). يصور غويا نفسه منهكًا وشاحبًا بفعل المرض، بينما يصور طبيبه بإجلال، هذا الطبيب نفسه سيسافر لاحقا إلى أفريقيا لعلاج الناس من وباء الطاعون، لكنه لن يعود أبدا. البورتريت مشبع بالرقة والإنسانية يبدو فيه غويا ضعيفا على فراش مرضه يمسك بأغطية سريره بينما يسنده طبيبه بذراعه ويده الأخرى تقدم له الدواء. هناك هيئات غامضة تقف بالعتمة خلف السرير، أحدها على شكل راهب يحمل وعاء كأنه يتأهب لتأدية طقس ديني، أو قد يكونون هيئات شيطانية تنتظر أن تخطف روح الفنان. البورتريت قد يكون بداية للجداريات الضخمة التي رسمها لاحقًا، والتي عُرفتْ باسم «كوابيس غويا». يوضح هذا البورتريت التناقض الذي يعتمل داخل الروح القلقة لهذا الفنان فهو رجل يؤمن بالسحر والملائكة والشياطين، ومن جهة أخرى كان ابن عصره ويثق بالعلم والطب.
بورتريهات غويا مباشرة وغير مثيرة للجدل كما أعماله السوداء، تمنحنا القدرة على تتبع تطور أساليبه التعبيرية والفنية وعلى تتبع حياته الشخصية، فقد كان من مؤيدي الفكر التنويري والإصلاحات، وهو أيضًا رجل عائلة وصديق مخلص وإنسان يجد متعته الحقيقية في تصوير تفاصيل الناس وحياتهم. يُعد هذا العرض المخصص لبورتريهات غويا بحق من أهم عروض نهاية سنة 2015 في العاصمة البريطانية، فهو يستدعي فنانا كلاسيكيا، لكنه في الوقت نفسه ثائر على تقاليد الرسم بذات الوقت وهو المبشر الحقيقي للمدرسة التعبيرية. حين بلغ 74 من عمره، أصبح غويا أصم تمامًا ونصف مجنون، لكنه كان حاد البصر كي يستقرئ نهايته ويخلدها بلوحاته.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.