كيف يُسهم الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي في «تعفّن الدماغ»

أبحاث عالمية تشير إلى دورهما في تدهور الإدراك والمعرفة

كيف يُسهم الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي في «تعفّن الدماغ»
TT

كيف يُسهم الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي في «تعفّن الدماغ»

كيف يُسهم الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي في «تعفّن الدماغ»

ربيع العام الماضي، كلفت شيري ميلوماد، الأستاذة في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا، مجموعة من 250 شخصاً بمهمة كتابة بسيطة: التشارك بنصائح مع صديق حول كيفية اتباع نمط حياة صحي. وللتوصل إلى هذه النصائح، سُمح للبعض باستخدام بحث (غوغل) التقليدي، بينما اعتمد آخرون فقط على ملخصات المعلومات المُولّدة تلقائياً باستخدام الذكاء الاصطناعي من «غوغل».

ملخصات الذكاء الاصطناعي عامة وغير مفيدة

كتب الأشخاص الذين استخدموا الملخصات المُولّدة بالذكاء الاصطناعي نصائح عامة، وواضحة، وغير مفيدة إلى حد كبير -تناول أطعمة صحية، وحافظ على رطوبة جسمك، واحصل على قسط كافٍ من النوم! أما الأشخاص الذين وجدوا معلومات من خلال بحث «غوغل» التقليدي على الويب، فقد تشاركوا بنصائح أكثر تفصيلاً ركزت على مختلف ركائز الصحة، بما في ذلك الصحة البدنية، والعقلية، والعاطفية.

المعتمدون على الذكاء الاصطناعي لهم أداء أسوأ

يخبرنا قادة صناعة التكنولوجيا أن برامج الدردشة الآلية وأدوات البحث الجديدة المدعومة بالذكاء الاصطناعي ستُعزز طريقة تعلمنا وازدهارنا، وأن أي شخص يتجاهل هذه التكنولوجيا يُخاطر بالتخلف عن الركب. لكن تجربة ميلوماد، كغيرها من الدراسات الأكاديمية المنشورة حتى الآن حول تأثيرات الذكاء الاصطناعي على الدماغ، وجدت أن الأشخاص الذين يعتمدون بشكل كبير على برامج الدردشة الآلية وأدوات البحث المدعومة بالذكاء الاصطناعي في مهام مثل كتابة المقالات والأبحاث، يُحققون أداءً أسوأ عموماً من الأشخاص الذين لا يستخدمونها.

وقالت ميلوماد: «أنا خائفة جداً، بصراحة. أنا قلقة بشأن عدم معرفة الشباب بكيفية إجراء بحث تقليدي على (غوغل)».

أهلاً بكم في عصر «تعفن الدماغ»

وهذا المصطلح «عامّ» لوصف الحالة العقلية المتدهورة نتيجة الانخراط في محتوى إنترنت رديء الجودة. وعندما اختارت مطبعة جامعة أكسفورد، الجهة الناشرة لقاموس أكسفورد الإنجليزي، مصطلح «تعفن الدماغ» (brain rot) كلمة العام لعام 2024، كان هذا التعريف يشير إلى الكيفية التي يؤدي فيها إدمان تطبيقات التواصل الاجتماعي، مثل «تيك توك» و«إنستغرام»، ومشاهدة مقاطع الفيديو القصيرة، وتأثيرها على الأطعمة، ما حوّل أدمغة المستخدمين إلى «هريس».

هل تُضعف التكنولوجيا الناس؟

هذا سؤالٌ قديمٌ بقدم التكنولوجيا نفسها. فقد انتقد سقراط اختراع الكتابة لإضعافه الذاكرة البشرية. وفي عام 2008، أي قبل سنوات عديدة من ظهور ملخصات الويب المُولّدة بالذكاء الاصطناعي، نشرت مجلة «ذا أتلانتيك» مقالاً بعنوان: «هل يجعلنا «غوغل» أغبياء؟». لكن تبيّن أن هذه المخاوف مُبالغ فيها.

إلا أن الحذر المتزايد في الأوساط الأكاديمية من تأثير الذكاء الاصطناعي على التعلم (بالإضافة إلى المخاوف القديمة بشأن الطبيعة المُشتتة للانتباه لتطبيقات التواصل الاجتماعي) يُمثّل خبراً مُقلقاً لبلدٍ يشهد أداؤه في فهم المقروء تراجعاً حاداً بالفعل.

مستويات قراءة متدنية لدى الأطفال والمراهقين الأميركيين

هذا العام، وصلت درجات القراءة بين الأطفال، بمن فيهم طلاب الصف الثامن وطلاب المرحلة الثانوية، إلى مستويات متدنية جديدة. وكانت النتائج، التي جُمعت من التقييم الوطني للتقدم التعليمي، الذي لطالما اعتُبر الامتحان الأكثر موثوقيةً في البلاد، هي الأولى من نوعها التي تُنشر منذ أن عطّلت جائحة كوفيد-19 التعليم، وزادت من وقت استخدام الشاشات بين الشباب.

يخشى الباحثون من تزايد الأدلة على وجود صلة قوية بين انخفاض الأداء الإدراكي والذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي. بالإضافة إلى الدراسات الحديثة التي وجدت علاقة بين استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي والتدهور المعرفي، وجدت دراسة جديدة أجراها أطباء أطفال أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي يرتبط بضعف الأداء لدى الأطفال الذين يخضعون لاختبارات القراءة والذاكرة واللغة.

وفيما يلي ملخص للأبحاث التي أُجريت حتى الآن، وكيفية استخدام الذكاء الاصطناعي بطريقة تُعزز الدماغ -لا تُضعفه.

عندما نكتب باستخدام «تشات جي بي تي»... هل نحن نكتب حقاً؟

صدرت الدراسة الأبرز هذا العام حول تأثيرات الذكاء الاصطناعي على الدماغ عن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، حيث سعى الباحثون إلى فهم كيفية تأثير أدوات مثل «جي بي تي» على طريقة كتابة الناس. كانت عينة الدراسة، التي شملت 54 طالباً جامعياً، صغيرة الحجم، لكن النتائج أثارت تساؤلات مهمة حول ما إذا كان الذكاء الاصطناعي يُمكن أن يُضعف قدرة الناس على التعلم.

في جزء من الدراسة، طُلب من الطلاب كتابة مقال يتراوح بين 500 و1000 كلمة، وقُسِّموا إلى مجموعات مختلفة: مجموعة تكتب بمساعدة «جي بي تي»، ومجموعة ثانية تبحث عن المعلومات فقط باستخدام محرك بحث «غوغل» التقليدي، ومجموعة ثالثة تعتمد فقط على أدمغتها في كتابة واجباتها.

مستخدمو «جي بي تي» الأسوأ أداء

ارتدى الطلاب أجهزة استشعار لقياس النشاط الكهربائي في أدمغتهم. وأظهر مستخدمو «جي بي تي» أدنى نشاط دماغي، وهو أمر غير مفاجئ، لأنهم كانوا يتركون روبوت الدردشة الذكي يقوم بالعمل.

لكن الاكتشاف الأبرز ظهر بعد أن أنهى الطلاب تمرين الكتابة. إذ وبعد دقيقة واحدة من إكمال مقالاتهم، طُلب من الطلاب اقتباس أي جزء من مقالهم. لم تتمكن الغالبية العظمى (83 في المائة) من مستخدمي «جي بي تي» من تذكر جملة واحدة.

في المقابل، استطاع الطلاب الذين يستخدمون محرك بحث «غوغل» اقتباس بعض الأجزاء، بينما استطاع الطلاب الذين لم يعتمدوا على أي تقنية قراءة الكثير من السطور، بل إن بعضهم اقتبسوا تقريباً كامل مقالاتهم حرفياً.

وقالت ناتاليا كوزمينا، الباحثة في مختبر الوسائط بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، التي قادت الدراسة، عن مستخدمي «جي بي تي»: بعد مرور دقيقة واحدة، لم يكن بإمكانهم قول أي شيء حقاً؟ إذا لم يتذكروا ما كتبوه، فلن يشعروا بالمسؤولية».

على الرغم من أن الدراسة ركزت على كتابة المقالات، فإن كوزمينا أعربت عن قلقها بشأن الآثار المترتبة على الأشخاص الذين يستخدمون روبوتات الدردشة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي في المجالات التي يكون فيها الاحتفاظ بالمعلومات أمراً ضرورياً، مثل الطيار الذي يدرس للحصول على رخصة قيادة الطائرة. وقالت إن هناك حاجة ملحة لإجراء المزيد من الأبحاث حول كيفية تأثير الذكاء الاصطناعي على قدرة الناس على الاحتفاظ بالمعلومات.

استخدام وسائل التواصل الاجتماعي قد يرتبط بتدني درجات القراءة

على مدار العامين الماضيين، سارعت المدارس في ولايات مثل نيويورك وإنديانا ولويزيانا وفلوريدا إلى حظر استخدام الهواتف الجوالة في الفصول الدراسية، مشيرةً إلى مخاوف من تشتيت الطلاب لانتباههم بتطبيقات التواصل الاجتماعي، مثل «تيك توك» و«إنستغرام». وما يعزز هذا الحظر، دراسة نُشرت الشهر الماضي وجدت صلة قوية بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وضعف الأداء الإدراكي.

في الشهر الماضي، نشرت المجلة الطبية «JAMA» دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا، سان فرنسيسكو. قام الدكتور جيسون ناجاتا، طبيب الأطفال الذي قاد الدراسة، وزملاؤه بفحص بيانات من مشروع ABCD، الخاص بالتطور المعرفي لدماغ المراهقين، وهو مشروع بحثي تابع أكثر من 6500 شاب وشابة تتراوح أعمارهم بين 9 و13 عاماً من عام 2016 إلى عام 2018.

وخضع جميع الأطفال لاستطلاع رأي مرة واحدة سنوياً حول مقدار الوقت الذي يستخدمون فيه وسائل التواصل الاجتماعي. وخضعوا لعدة اختبارات كل عامين. على سبيل المثال، تضمن اختبار المفردات البصرية مطابقة الصور بشكل صحيح مع الكلمات التي سمعوها.

تدهور المعرفة

أظهرت البيانات أن الأطفال الذين أفادوا باستخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي لفترات قصيرة (ساعة واحدة يومياً) أو لفترات طويلة (ثلاث ساعات على الأقل يومياً) سجلوا نتائج أقل بكثير في اختبارات القراءة والذاكرة والمفردات، مقارنةً بالأطفال الذين أفادوا بعدم استخدامها على الإطلاق.

أما عن سبب تأثير تطبيقات التواصل الاجتماعي -مثل «تيك توك» و«إنستغرام»- على نتائج الاختبارات، فإن الاستنتاج الوحيد المؤكد هو أن كل ساعة يقضيها الطفل في تصفح التطبيقات تُضيّع وقتاً على أنشطة أكثر إثراءً كالقراءة والنوم، وفقاً لناجاتا.

طرق صحية لتوظيف الذكاء الاصطناعي

ما أفضل الطرق الصحية لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي؟ على الرغم من وجود علاقة بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والتدهور المعرفي، فإنه من الصعب التوصية بوقت مثالي أمام الشاشات للشباب، لأن الكثير من الأطفال يقضون وقتاً أمام الشاشات في أنشطة لا علاقة لها بوسائل التواصل الاجتماعي، مثل مشاهدة البرامج التلفزيونية، وفقاً لناجاتا.

بدلاً من ذلك، اقترح أن يفرض الآباء مناطق خالية من الشاشات، وأن يحظروا استخدام الهاتف في أماكن مثل غرفة النوم وطاولة الطعام، حتى يتمكن الأطفال من التركيز على دراستهم ونومهم ووجباتهم.

وبالنسبة لروبوتات الدردشة الذكية، برزت نقطة مثيرة للاهتمام في دراسة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) تُقدم حلاً مُحتملاً لكيفية استخدام الناس لروبوتات الدردشة على أفضل وجه للتعلم والكتابة.

في النهاية، تبادلت المجموعات المشاركة في تلك الدراسة الأدوار: تمكّن من اعتمدوا على أدمغتهم فقط في الكتابة من استخدام «جي بي تي»، بينما تمكّن من اعتمدوا عليه سابقاً من استخدام أدمغتهم فقط. وكتب جميع الطلاب مقالات حول نفس المواضيع التي اختاروها سابقاً.

سجّل الطلاب الذين اعتمدوا في البداية على أدمغتهم فقط أعلى نشاط دماغي لهم بمجرد السماح لهم باستخدام «جي بي تي». أما الطلاب الذين استخدموا «جي بي تي» في البداية، فلم يكونوا على قدم المساواة مع المجموعة الأولى عندما قُيّدوا باستخدام أدمغتهم فقط، كما قالت كوزمينا.

التفكير في تنفيذ العمل أولاً ثم اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي

يشير ذلك إلى أن الأشخاص الذين يتوقون لاستخدام روبوتات الدردشة للكتابة والتعلم يجب أن يفكروا في بدء العملية ليقوموا بها بأنفسهم قبل اللجوء إلى أدوات الذكاء الاصطناعي لاحقاً في العملية للمراجعة، على غرار طلاب الرياضيات الذين يستخدمون الآلات الحاسبة لحل المسائل فقط بعد استخدامهم القلم والورقة لتعلم الصيغ والمعادلات.

وقالت ميلوماد إن مشكلة هذه الأدوات تكمن في أنها حوّلت ما كان في السابق عملية نشطة في الدماغ -تصفح الروابط والنقر على مصدر موثوق للقراءة- إلى عملية سلبية من خلال أتمتة كل ذلك.

الذكاء الاصطناعي للإجابة عن التفاصيل وليس البحث عن الجوهر

لذا، ربما يكون مفتاح استخدام الذكاء الاصطناعي بطريقة أكثر صحة، كما قالت، هو محاولة أن نكون أكثر وعياً بكيفية استخدامنا له. وقالت ميلوماد إنه بدلاً من طلب إجراء جميع الأبحاث حول موضوع واسع، استخدمه على أنه جزء من عملية البحث الخاصة بك للإجابة عن أسئلة صغيرة، مثل البحث عن التواريخ التاريخية. ولكن للتعمق في موضوع ما، فكّر في قراءة كتاب.

* خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

ماسك يلتقي قادة الإمارات لبحث فرص الذكاء الاصطناعي

الاقتصاد الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات وإيلون ماسك خلال اللقاء في أبوظبي بحضور الشيخ حمدان بن محمد بن راشد (وام)

ماسك يلتقي قادة الإمارات لبحث فرص الذكاء الاصطناعي

بحث الملياردير الأميركي إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركات تعمل في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، مع قيادة دولة الإمارات آفاق التعاون في الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
تحليل إخباري الكمبيوتر العملاق «أندروميدا» من شركة «سيريبراس سيستمز» في مركز للبيانات في سانتا كلارا بولاية كاليفورنيا الأميركية (رويترز)

تحليل إخباري العولمة الجديدة وخطر السقوط في هاوية الاستبداد

خفت كثيراً وهج التعدد والتمايز، وصارت مجتمعات عديدة تتشابه إلى حد «الملل» مع ضمور العديد من العادات والتقاليد إلى حد تهديد الهويات.

أنطوان الحاج
تكنولوجيا يورينا نوغوتشي البالغة من العمر 32 عاماً تتحدث مع كلاوس شريكها في الذكاء الاصطناعي عبر تطبيق «شات جي بي تي» خلال تناول العشاء في منزلها بطوكيو (رويترز)

خبراء: الاعتماد على الذكاء الاصطناعي يقلل من نشاط الدماغ

أفاد تقرير بأن تفويض بعض المهام إلى الذكاء الاصطناعي يقلل من نشاط الدماغ؛ بل وقد يضر بمهارات التفكير النقدي وحل المشكلات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد متداولون يعملون في بورصة نيويورك (أ.ب)

«وول ستريت» ترتفع بعد تقرير التضخم الأميركي المشجع

ارتفعت الأسهم الأميركية يوم الخميس بعد صدور تقرير مُشجع بشأن التضخم، ما قد يتيح لمجلس الاحتياطي الفيدرالي مزيداً من المرونة في خفض أسعار الفائدة العام المقبل.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
العالم البابا ليو الرابع عشر يخاطب الناس في ساحة القديس بطرس بمدينة الفاتيكان يوم 17 ديسمبر 2025 (إ.ب.أ)

بابا الفاتيكان ينتقد توظيف الدين لتبرير العنف والنزعة القومية

انتقد البابا ليو الرابع عشر، بابا الفاتيكان، اليوم الخميس، الزعماء السياسيين الذين يستغلون المعتقدات الدينية لتبرير الصراعات أو السياسات القومية.

«الشرق الأوسط» (الفاتيكان)

اكتشاف علمي لأحد «محركات» سرطان البروستاتا... يمهد لعلاجات أكثر دقة

طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا
طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا
TT

اكتشاف علمي لأحد «محركات» سرطان البروستاتا... يمهد لعلاجات أكثر دقة

طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا
طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا

في خطوة علمية قد تغيِّر أسلوب فهمنا لسرطان البروستاتا وتشخيصه وعلاجه، كشف باحثون من معهد «آرك» وجامعة «كاليفورنيا»، ومركز «فريد هاتشينسون للسرطان» في واشنطن بالولايات المتحدة، عن منظِّم غير متوقع لمسار مستقبل الأندروجين، وهو بروتين لم يحظَ سابقاً بكثير من الاهتمام، وكان يُعتقد أنه مجرد إنزيم بسيط ضمن مسار تصنيع البروستاغلاندين (prostaglandin).

وجاء هذا الكشف الذي نُشر في مجلة «Nature Genetics» في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، نتيجة فحص شامل للجينوم باستخدام «تقنية كريسبر»، وأعاد تعريف الدور البيولوجي لبروتين «PTGES3» كما فتح الباب أمام فئة جديدة محتملة من العلاجات لسرطان البروستاتا المقاوم للعلاج الهرموني.

نافذة على بيولوجيا الورم

يعتمد سرطان البروستاتا على نشاط مفرط لمستقبِل الأندروجين، وهو بروتين ينظِّم نمو الخلايا استجابة لهرمونات الذكورة.

ولفهم الجينات التي تُبقي هذا المستقبِل نشطاً، طوَّر الباحثون نموذجاً متقدماً لخلايا سرطانية يحمل وسماً فلورياً (fluorescent tag) (هو جزيء مرتبط كيميائياً للمساعدة في اكتشاف جزيء حيوي، مثل البروتين أو الأجسام المضادة أو الأحماض الأمينية) يضيء تبعاً لكمية مستقبِل الأندروجين داخل الخلية، ما سمح بتتبُّعه بدقة لحظة بلحظة.

وبالاستفادة من «تقنية كريسبر» عطَّل العلماء آلاف الجينات واحداً تلو الآخر لاكتشاف الجينات التي يعتمد عليها مستقبِل الأندروجين ليبقى مستقراً وموجوداً داخل الخلية.

ثم جاءت النتائج لتؤكد دور جينات معروفة، مثل HOXB13 وGATA2 لكنها كشفت أيضاً مفاجأة كبيرة في PTGES3 وهو بروتين لم يكن محسوباً ضمن قائمة اللاعبين الرئيسيين في هذا المسار.

* لماذا يُعد PTGES3 اكتشافاً مهماً؟ على خلاف البروتينات المماثلة له لم يكن تأثير PTGES3 مرتبطاً بوظيفته المفترضة كإنزيم. بل ظهر أنه يؤدي دوراً مزدوجاً في دعم مستقبل الأندروجين؛ إذ إنه يعمل كمرافق بروتيني Co-chaperone داخل السيتوبلازم ما يساعد على استقرار مستقبل الأندروجين ويمنع تدهوره. ويعمل أيضاً كعامل مساعد داخل النواة؛ حيث يعزز قدرة المستقبل على الارتباط بالحمض النووي وتشغيل الجينات التي تغذي نمو الورم.

وهذا الدور الثنائي يجعل هذا البروتين كأحد «محركات» سرطان البروستاتا التي تعتمد عليها الخلايا السرطانية لمواصلة النمو والانتشار.

آفاق جديدة لعلاج السرطان

• من المختبر إلى المرضى: عند تحليل بيانات مئات المرضى وجد الباحثون أن ارتفاع مستويات PTGES3 يرتبط بانخفاض فعالية العلاج الهرموني، وهو مؤشر مبكر على مقاومة الورم.

وعند اختبار تعطيل هذا البروتين في فئران مصابة بسرطان البروستاتا انخفضت مستويات مستقبل الأندروجين، وتباطأ نمو الورم بشكل كبير، وهو دليل إضافي على دوره الحاسم واستحقاقه أن يكون هدفاً دوائياً جديداً.

ويقول الباحث الرئيسي لوك غيلبرت (وهو باحث رئيسي في معهد «آرك» وأستاذ مشارك في جراحة المسالك البولية في كلية الطب بجامعة «كاليفورنيا») إن هذا العمل يبرهن على قوة الفحص الجيني غير المنحاز عبر «تقنية كريسبر» وقدرتنا على اكتشاف وظائف جديدة لبروتينات ظنَّ العلماء أنهم يعرفونها جيداً.

• تطوير أدوية علاجية: تستهدف العلاجات الحالية مستقبل الأندروجين مباشرة؛ سواء بتقليل الهرمونات الذكرية أو بحجب قدرة المستقبِل على الوصول إلى الحمض النووي.

لكن النتائج الجديدة تقدِّم استراتيجية مختلفة تكمن بالتدخل في استقرار مستقبل الأندروجين نفسه، عبر التأثير على البروتينات التي تحميه وترافقه ومن ضمنها PTGES3.

ويقول الباحث الأول هاولونغ لي من مركز «فريد هاتشينسون للسرطان» وقسم علاج الأورام بالإشعاع بجامعة «كاليفورنيا»: «نتوقع أن يساعد هذا النهج في فهم عوامل نسخ أخرى مهمة في سرطانات تعتمد على الهرمونات، وليس سرطان البروستاتا فقط».

ويعمل الفريق حالياً على فهم البنية الدقيقة لتفاعل PTGES3 مع مستقبل الأندروجين، تمهيداً لتطوير أدوية تستهدف هذا الارتباط، بما في ذلك تقنيات تفكيك البروتينات مثل PROTACs التي حققت نجاحاً في تجارب سريرية لأهداف دوائية أخرى.

ويمثل اكتشاف PTGES3 كمنظم رئيسي لمستقبل الأندروجين تحولاً مهماً في فهم سرطان البروستاتا؛ خصوصاً لدى المرضى الذين يعانون من مقاومة للعلاج الهرموني.

وإلى جانب كشف آليات جديدة وراء نمو الورم يقدِّم هذا الاكتشاف مساراً واعداً لعلاجات أكثر فعالية ودقة قد تغيِّر مستقبل الرعاية للمرضى المصابين بأحد أكثر السرطانات شيوعاً بين الرجال.

إنه مثال حي على كيف يمكن لتقنيات الجينوم الحديثة -كالفحص الشامل باستخدام «كريسبر»- أن تعيد كتابة قواعد علم الأورام وتفتح آفاقاً علاجية لم تكن متاحة من قبل.


نظرة إلى الذكاء الاصطناعي... وصحة الدماغ في 2025

الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته
الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته
TT

نظرة إلى الذكاء الاصطناعي... وصحة الدماغ في 2025

الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته
الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته

إليكم ما يقوله أربعة من الاختصاصيين في حول الجوانب العلمية التي أثارت اهتمامهم في عام 2025.

الذكاء الاصطناعي: محتوى منمق وغير منطقي

نحن نغرق في بحر من المحتوى المُنمّق وغير المنطقي الذي يُنتجه الذكاء الاصطناعي، كما تتحدث الكاتبة أنالي نيويتز، صاحبة عمود «هذا يُغيّر كل شيء»، عن كيفية انتشار المحتوى المُولّد بالذكاء الاصطناعي على نطاق واسع في عام 2025.

لا شك أن 2025 سيُذكَر بوصفه عام المحتوى المُنمّق. وهذا المصطلح الشائع يُطلق على المحتوى غير الصحيح والغريب، بل والقبيح في كثير من الأحيان، الذي يُنتجه الذكاء الاصطناعي، وقد أفسد تقريباً كل منصة على الإنترنت... إنه يُفسد عقولنا أيضاً.

لقد تراكمت كميات هائلة من هذا المحتوى المُنمّق خلال السنوات القليلة الماضية، لدرجة أن العلماء باتوا قادرين على قياس آثاره على الناس بمرور الوقت.

• نشاط دماغي أقل لدى المستخدمين. وجد باحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن الأشخاص الذين يستخدمون نماذج لغوية ضخمة (LLMs)، مثل تلك التي تقف وراء برنامج «تشات جي بي تي»، لكتابة المقالات، يُظهرون نشاطاً دماغياً أقل بكثير من أولئك الذين لا يستخدمونها.

• آثار سلبية على الصحة النفسية. ثم هناك الآثار السلبية المحتملة على صحتنا النفسية، حيث تشير التقارير إلى أن بعض برامج الدردشة الآلية تُشجع الناس على تصديق الأوهام أو نظريات المؤامرة، بالإضافة إلى حثّهم على إيذاء أنفسهم، وأنها قد تُسبب أو تُفاقم الذهان.

• تقنية التزييف العميق. أصبحت تقنية التزييف العميق شائعة؛ ما يجعل التحقق من الحقيقة على الإنترنت أمراً مستحيلاً. ووفقاً لدراسة أجرتها «مايكروسوفت»، لا يستطيع الناس التعرف على مقاطع الفيديو التي يُنشئها الذكاء الاصطناعي إلا في 62 في المائة من الحالات.

وأحدث تطبيقات شركة «اوبن ايه آي» هو «سورا» Sora، وهي منصة لمشاركة الفيديوهات تُنشأ بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي - باستثناء واحد. يقوم التطبيق بمسح وجهك وإدراجك أنت وأشخاص حقيقيين آخرين في المشاهد المزيفة التي يُنشئها. وقد سخر سام ألتمان، مؤسس الشركة، من تبعات ذلك بالسماح للناس بإنشاء فيديوهات يظهر فيها المستخدم وهو يسرق وحدات معالجة الرسومات ويغني في الحمام.

• تقليل الإنتاجية. لكن ماذا عن قدرة الذكاء الاصطناعي المزعومة على جعلنا نعمل بشكل أسرع وأكثر ذكاءً؟ وفقاً لإحدى الدراسات، عندما يُدخل الذكاء الاصطناعي إلى مكان العمل، فإنه يُقلل الإنتاجية، حيث أفادت 95 في المائة من المؤسسات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي بأنها لا تحصل على أي عائد ملحوظ على استثماراتها.

مذنب "سوان" الى يمين تجمّع من النجوم

تدمير الأرواح والوظائف

إن الفساد يُدمر الأرواح والوظائف، ويُدمر تاريخنا أيضاً. أنا أكتب كتباً عن علم الآثار، ويقلقني أن ينظر المؤرخون إلى وسائل الإعلام من تلك الحقبة ويكتشفوا زيف محتوانا، المليء بالخداع والتضليل.

إن أحد أهم أسباب تدويننا الأمور أو توثيقها بالفيديو هو ترك سجل لما كنا نفعله في فترة زمنية محددة. وعندما أكتب، آمل أن أسهم في إنشاء سجلات للمستقبل؛ حتى يتمكن الناس اللاحقون من إلقاء نظرة على حقيقتنا، بكل ما فيها من فوضى.

إن برامج الدردشة الآلية التي تعمل بالذكاء الاصطناعي تُردد كلماتٍ بلا معنى؛ فهي تُنتج محتوًى لا ذكريات. ومن منظور تاريخي، يُعدّ هذا، من بعض النواحي، أسوأ من الدعاية. على الأقل، إن الدعاية من صنع البشر، ولها هدف محدد، وهي تكشف عن الكثير من سياساتنا ومشاكلنا. أما الزيف فيمحونا من سجلنا التاريخي؛ إذ يصعب استشفاف الغاية منه.

ماذا يخبئ لنا المستقبل؟ ماذا سيفعل الذكاء الاصطناعي بالفن؟ كيف سنتعامل مع عالمٍ تندر فيه الوظائف، ويتصاعد فيه العنف، ويتم فيه تجاهل علوم المناخ بشكل ممنهج؟

الحفاظ على صحة الدماغ

كيف تعلمتُ الحفاظ على صحة دماغي؟ تتحدث هيلين تومسون، كاتبة عمود في علم الأعصاب، عن تغييرات بسيطة أحدثت فرقاً كبيراً في صحتها هذا العام.

• غذاء صحي: لقد تعلمت أن أعيش بنمط حياة صحي. كل صباح، أضيف ملعقة من الكرياتين إلى الماء، وأشربه مع الفيتامينات المتعددة، ثم أتناول بعض الزبادي العادي الغني بالبكتيريا. ويتناول أطفالي حبوب الإفطار المنزلية، ويشربون الكفير، ويحاولون التحدث بالإسبانية باستخدام تطبيق «دولينغو». وبعد توصيلهم إلى المدرسة، أغطس في بركة ماء باردة، ثم أستريح في الساونا قبل العمل. لاحقاً، أضيف دائماً ملعقة من مخلل الملفوف إلى غدائي، ولا أفوّت فرصة للمشي قليلاً في الحديقة.

حياتي الجديدة المفعمة بالرضا هي نتيجة مباشرة لقضاء عام كامل في البحث عن طرق مثبتة علمياً للحفاظ على صحة الدماغ - من تعزيز الاحتياطي المعرفي إلى تنمية ميكروبيوم صحي. الآن، وأنا أُقيّم الوضع، أرى أن تغييرات بسيطة أحدثت فرقاً كبيراً.

• تجربة طبية. جاء أحد أبسط الدروس من جو آن مانسون في مستشفى بريغهام والنساء في ماساتشوستس، التي أرسلت إلي تفاصيل تجربة واسعة النطاق على كبار السن تُظهر أن تناول الفيتامينات المتعددة يومياً يُبطئ التدهور المعرفي بأكثر من 50 في المائة. وعندما سألت خبراء آخرين عن المكملات الغذائية، إن وُجدت، التي قد تُعزّز صحة الدماغ، برز الكرياتين في ذهني - فهو يُزود الدماغ بمصدر طاقة عندما يكون في أمس الحاجة إليه. لكن التغيير حدث في سلة مشترياتنا الأسبوعية؛ إذ أقنعتني محادثاتي مع علماء الأعصاب وخبراء التغذية بأهمية العناية المستمرة بميكروبيوم الأمعاء. لذا؛ بدأت عائلتي بتطبيق ذلك: تناول ثلاثة أنواع من الأطعمة المخمرة يومياً بناءً على نصيحة عالم الأوبئة تيم سبيكتور، والامتناع عن تناول الأطعمة فائقة المعالجة في وجبة الإفطار، والحرص على إدخال مزيج متنوع من الأطعمة الكاملة في نظامنا الغذائي.

• التواصل مع البيئة. كما أن التعرّض للبرد والحرارة يُمكن أن يُقلل من الالتهابات والتوتر، ويُعزز التواصل بين الشبكات الدماغية المسؤولة عن التحكم في العواطف واتخاذ القرارات والانتباه؛ ما قد يُفسر ارتباطها بتحسين الصحة النفسية. كما أصبح الخروج إلى الطبيعة أولويةً عائلية. فقد تعلمتُ أن البستنة تُعزز تنوع بكتيريا الأمعاء المفيدة، بينما قد يُفيد المشي في الغابات الذاكرة والإدراك، ويُساعد على الوقاية من الاكتئاب.

والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو سرعة ظهور النتائج. فبينما تُعدّ بعض العادات استثماراً طويل الأمد في الصحة الإدراكية، إلا أنني مقتنعة بأن عادات أخرى كان لها تأثير فوري: أطفال أكثر هدوءاً، وتحسن في التركيز، وطاقة أكبر. ربما يكون تأثيراً وهمياً، لكن هناك ما يُجدي نفعاً.

مذنبات كونية متألقة

أما شاندا بريسكود - وينشتاين، كاتبة عمود في مجلة «سبيس - تايم»، فقد قدمت ملاحظات ميدانية حول كيفية تصدّر المذنبات عناوين الأخبار في عام 2025.

• المذنب «ليمون» لقد كان عام 2025 حافلاً بالمذنبات. فقد اكتُشف المذنب ليمون Lemmon في يناير (كانون الثاني) الماضي، وظلّ حديث الساعة لمدة تسعة أشهر. كانت صور ذيل ليمون الطويل والجميل، الناتج من تسخين الشمس للمذنب، تخطف أنفاسي في كل مرة.

• المذنب «سوان». ثم كان هناك اكتشاف المذنب C/2025 R2 (سوان) في سبتمبر (أيلول)، وهو مذنب شديد السطوع لدرجة أنه حتى عندما كان قريباً من القمر في عيد «الهالوين»، كان لا يزال مرئياً بوضوح للمراقبين. وكان هناك أيضاً المذنب 3I/أطلس، الذي اشتهر بعد أن أعلن عالم فلك في جامعة هارفارد، متخصص في علم الكونيات، أنه مسبار فضائي.

إن رحلتنا مع المذنبات هذا العام ليست سوى أحدث حلقة في سلسلة طويلة من ردود فعل البشر تجاه الأجرام السماوية الغامضة التي تظهر في السماء. وبينما نستذكر العام الماضي، شهدنا أحداثاً كثيرة مخيفة ومُحبطة؛ ما قد يدفعنا للاعتقاد بأن هذه المذنبات ربما نذرت بنهاية العالم كما نعرفه.

«إنسان دينيسوفان»

«إنسان دينيسوفان» قلب مفاهيمنا عن الإنسان القديم رأساً على عقب. وهنا يستعرض مايكل مارشال، كاتب عمود «قصة الإنسان»، أهم اكتشافات «إنسان دينيسوفان» لهذا العام.

يصادف هذا العام مرور 15 عاماً على اكتشافنا «إنسان دينيسوفان»، وهي إنسان من مجموعة من البشر القدماء الذين عاشوا في ما يُعرف اليوم بشرق آسيا قبل عشرات آلاف السنين. وقد أثار هذا الإنسان فضولي منذ ذلك الحين؛ لذا سررتُ هذا العام برؤية سلسلة من الاكتشافات المثيرة التي وسّعت فهمنا لمكان عيشهم وهويتهم.

• أدلة من جزيئات إصبع. كان «إنسان دينيسوفان» أول أشباه البشر الذين تم اكتشافهم بشكل أساسي من خلال الأدلة الجزيئية. وكانت أول أحفورة معروفة عبارة عن عظمة إصبع من كهف دينيسوفا في سيبيريا، التي كانت صغيرة جداً بحيث لا يمكن التعرف عليها من خلال شكلها، ولكنها أسفرت عن تحليل الحمض النووي في عام 2010. وأشارت النتائج الجينية إلى أن «إنسان دينيسوفان» كان مجموعة شقيقة لـ«إنسان نياندرتال»، الذي عاش في أوروبا وآسيا. كما أظهرت النتائج أيضاً أنهم تزاوجوا مع الإنسان الحديث.

واليوم، يمتلك سكان بعض مناطق جنوب شرقي آسيا، مثل بابوا غينيا الجديدة والفلبين، أعلى نسب الحمض النووي لـ«إنسان دينيسوفان» في جينوماتهم.

ومنذ ذلك الحين، سعى الباحثون جاهدين للعثور على المزيد من الأمثلة على «إنسان دينيسوفان»، لكنّ هذه الجهود كانت بطيئة. ولم يظهر مثال ثانٍ إلا في عام 2019: عظم فك من كهف بايشيا كارست في شياخه على هضبة التبت.

• اكتشافات جديدة. ثم جاء عام 2025 وتدفقت الاكتشافات الجديدة. ففي أبريل (نيسان) الماضي، تأكد وجود «إنسان دينيسوفان» في تايوان. وأكد الباحثون هذا الاكتشاف الآن باستخدام البروتينات المحفوظة داخل الأحفورة. ثم في يونيو (حزيران) الماضي عُثر على أول وجه لإنسان، حيث وُصفت جمجمة من مدينة هاربين شمال الصين عام 2021، وسُميت نوعاً جديداً.

حتى الآن، تبدو هذه النتائج منطقية للغاية. كما أنها رسمت صورة متكاملة لـ«إنسان دينيسوفان» كإنسان ضخم البنية.

وكان الاكتشافان الآخران في عام 2025 مفاجأتين كبيرتين. ففي سبتمبر، أُعيد بناء جمجمة مهشمة من يونشيان في الصين. ويبدو أن جمجمة يونشيان 2 تعود إلى «إنسان دينيسوفان» مبكر، وهو اكتشاف مثير للاهتمام؛ نظراً لقدمها التي تبلغ نحو مليون عام. ويشير هذا إلى أن «إنسان دينيسوفان» كان موجوداً مجموعةً منفصلة منذ مليون عام على الأقل، أي قبل مئات آلاف السنين مما كان يُعتقد سابقاً. كما يدل هذا على أن السلف المشترك بيننا وبين «إنسان نياندرتال»، والمعروف باسم السلف العاشر، قد عاش قبل أكثر من مليون عام.

• استخلاص جينوم من سن وحيدة. بعد شهر واحد فقط، أعلن علماء الوراثة عن ثاني جينوم عالي الجودة لـ«إنسان دينيسوفان»، والذي استُخرج من سنّ عمرها 200 ألف عام في كهف دينيسوفا. الأهم من ذلك، أن هذا الجينوم كان مختلفاً تماماً عن الجينوم الأول المُبلغ عنه، والذي كان أحدث عهداً، كما أنه كان مختلفاً عن الحمض النووي للـ«دينيسوفان» لدى البشر المعاصرين.

ويُشير هذا إلى وجود ثلاث مجموعات على الأقل من الـ«دينيسوفان»: مجموعة مبكرة، ومجموعة لاحقة، ومجموعة تزاوجت مع جنسنا البشري. هذه المجموعة الثالثة، من الناحية الأثرية، تظل لغزاً محيراً.

* مجلة «نيو ساينتست» - خدمات «تريبيون ميديا»


حين يرى الذكاء الاصطناعي المريض بكامله... لا بقايا صور متفرّقة

فحص شامل بالذكاء الاصطناعي — الجينات، الميكروبيوم، الدم، والأشعة في مشهد تشخيصي واحد
فحص شامل بالذكاء الاصطناعي — الجينات، الميكروبيوم، الدم، والأشعة في مشهد تشخيصي واحد
TT

حين يرى الذكاء الاصطناعي المريض بكامله... لا بقايا صور متفرّقة

فحص شامل بالذكاء الاصطناعي — الجينات، الميكروبيوم، الدم، والأشعة في مشهد تشخيصي واحد
فحص شامل بالذكاء الاصطناعي — الجينات، الميكروبيوم، الدم، والأشعة في مشهد تشخيصي واحد

لم يعرف الطبّ، في أغلب تاريخه، كيف يرى الإنسان كاملاً، إذ كان يرى أجزاءً متناثرة من الحكاية: صورة أشعة معزولة، تحليل دم بلا سياق، تقريراً سريرياً يُقرأ سريعاً ثم يُطوى. وهكذا تفرّق الجسد إلى ملفات، وتحوّل المريض إلى أرشيف بيانات، وغابت الصورة الكاملة خلف زحمة التفاصيل.

كان ابن رشد سيصف هذا المشهد بلا تردّد: حيثما غاب الربط، تكسّرت الحقيقة. فالعِلّة لا تُفهم دون معلولها، والمرض لا يُقرأ دون سياقه، والإنسان لا يُختزل في رقم أو صورة.

الذكاء الاصطناعي التعددي

اليوم، ومع صعود ما يُعرف بالذكاء الاصطناعي التعدّدي (Multimodal AI)، يقف الطبّ أمام لحظة استثنائية تُعيد للإنسان وحدته المفقودة. لم تعد الخوارزمية تكتفي بقراءة صورة أو تحليل أو نصّ منفرد، بل باتت قادرة على دمج الإشارات الحيوية، والصور الشعاعية، والسجلات السريرية، وحتى اللغة التي يصف بها المريض ألمه... لتصوغ فهماً أقرب إلى ما كان يفعله الطبيب الحكيم بالفطرة: رؤية المريض ككائن واحد، لا كمجموعة بيانات مبعثرة.

ولا ينتمي هذا التحوّل إلى الخيال العلمي، بل إلى مختبرات البحث المتقدّمة. ففي دراسة حديثة صادرة عن جامعة بنسلفانيا، نُشرت في فبراير (شباط) 2025 في مجلة «npj Digital Medicine» (الطبّ الرقمي – إحدى مجلات مجموعة «نيتشر» العلمية)، قدّم الباحثون إطاراً جديداً يسمح بدمج الصور الطبية، والسجلات السريرية، والبيانات الحيوية، والنصوص الطبية، لقراءة المريض بوصفه وحدة متكاملة لا ملفات منفصلة محفوظة في ذاكرة الحاسوب.

هنا يبدأ التحوّل الحقيقي: من طبّ يقرأ البيانات... إلى طبّ يفهم الإنسان.

• العلم الذي جمّع ما فرّقته السجلات.

تستقبل الخوارزمية الحديثة، في اللحظة نفسها، صور الأشعة، ونتائج التحاليل المخبرية، والإشارات الحيوية، والنصوص الطبية، وحتى البيانات القادمة من الساعات الذكية والأجهزة القابلة للارتداء. ثم لا تكتفي بقراءتها، بل تُعيد نسجها في صورة واحدة متكاملة، أشبه بخريطة حيّة للجسد والزمن معاً.

لم يعد التشخيص تفسيراً لصورة ثابتة، بل هو فهم لمسار حياة كاملة.

وهنا تكمن القفزة: فالنظام الصحي التقليدي اعتاد العمل بمنطق «الوسيط الواحد»؛ طبيب الأشعة يرى الصورة، طبيب القلب يقرأ التخطيط، وطبيب المختبر يلاحق المؤشرات. غير أن المرض لا يحترم هذه الحدود، إذ لا يولد في عضو واحد، ولا يتقدّم في مسار منفصل، بل يعلن عن نفسه من خلال تفاعل خفي بين الإشارات.

بهذا المعنى، لا يجمع الذكاء الاصطناعي التعدّدي البيانات فحسب، بل يعيد للطب لغته الأصلية: لغة الترابط.

• من رؤية اللحظة إلى رؤية الزمن. في إحدى التجارب السريرية المتقدّمة، استطاع نموذج ذكاء اصطناعي توقّع احتمالية ظهور مرض قلبي قبل نحو ثماني سنوات من تشخيصه السريري. ولم يلتقط علامة واحدة حاسمة فقط، بل التقط شبكة دقيقة من التغيّرات الصغيرة التي تبدو — كلٌّ على حدة — بلا معنى، لكنها حين تُقرأ معاً ترسم بداية الخلل الصامت.

هنا يتغيّر جوهر الذكاء نفسه. فالخوارزمية لا تقرأ صورة آنية، ولا تحاكم رقماً معزولاً، بل تُنصت إلى الزمن وهو يعمل داخل الجسد. إنها ترى المرض بوصفه مساراً لا حادثة، وتفهم العلّة بعدّها عملية تراكم لا لحظة انفجار. وبهذا التحوّل، يتبدّل دور الطبيب: من «باحث عن المرض» إلى «قارئ للزمن».

تغير عيادة المستقبل

• إنقاذ المريض وإنقاذ الطبيب.

تشير تقارير صادرة عن «Harvard Medical School» في ديسمبر ( كانون الأول) 2025 إلى أن الطبيب يقضي أكثر من ثلاث ساعات يومياً في كتابة الملاحظات وتوثيق السجلات، وقتاً يفوق أحياناً زمن الإصغاء للمريض نفسه. وهنا لا يكون الإرهاق مهنياً فقط، بل يكون إنسانياً أيضاً. أما حين تُدمج البيانات تلقائياً داخل نموذج ذكي واحد، فسوف يتحرّر الطبيب من عبء الورق والتكرار، ويستعيد جوهر مهنته: اللقاء، الإصغاء، والفهم. فالخوارزمية تحسب وتربط، لكنها لا تعرف القلق في عين المريض، ولا التردّد في صوته. الآلة تُحلّل والإنسان يُنصت.

• كيف ستتغيّر العيادة؟ لم تعد العيادة الحديثة مجرّد مكان للفحص، بل نقطة التقاء لأنواع متعددة من الذكاء؛ حيث يعمل الذكاء الاصطناعي التعدّدي في الخلفية على دمج الصور، والتحاليل، والسجلات، والسلوك الصحي اليومي في نموذج واحد، يرافق المريض والطبيب معاً، ويُعيد تشكيل القرار الطبي من جذوره. وهكذا نلاحظ:

- اختفاء «المريض المُجزّأ».

- التشخيص يصبح تفسيراً للعلاقات.

- العلاج يصبح شخصياً بأعلى درجاته.

- انخفاضاً كبيراً في الأخطاء الطبية.

• من ورق العيادة إلى خريطة الإنسان

لا يقدّم الذكاء الاصطناعي التعدّدي تقنية جديدة فحسب، بل فلسفة مختلفة في فهم الإنسان. فالمرض لا يظهر فجأة، بل يُكتب ببطء في النوم، وفي القلب، وفي القلق، وفي تفاصيل لا يلتفت إليها أحد... قبل أن يتجسّد يوماً في صورة أشعة أو نتيجة تحليل. هنا يتحوّل سجلّ العيادة من أوراق تُملأ بعد وقوع الحدث، إلى خريطة حيّة تُقرأ قبل اكتمال القصة.

فرصة عربية يجب ألا نفوّتها

هذا التحوّل ليس ترفاً غربياً، بل فرصة عربية حقيقية، تتزامن مع تسارع التحوّل الرقمي في السعودية والإمارات وقطر، وظهور السجلات الطبية الموحّدة، ورؤى واضحة للصحة الرقمية ضمن «رؤية السعودية 2030».

إذا نجحنا في بناء نموذج عربي للذكاء الاصطناعي التعدّدي، يمكن للطب أن يقفز من التشخيص المتأخّر إلى الوقاية الاستباقية، ومن علاج المرض إلى منعه قبل أن يولد. وكما كتب ابن سينا قبل ألف عام: (أفضلُ الطبّ ما منع العلّة قبل حدوثها).

إن العنوان «حين يرى الذكاء الاصطناعي المريض بكامله... لا بقايا صور متفرّقة» — ليس توصيفاً تقنياً لابتكار جديد، بل إعلان تحوّلٍ عميق في معنى الطبّ نفسه. تحوّل يعيد للإنسان وحدته بعد أن بعثرتها السجلات، ويعيد للجسد منطقه بعد أن اختُزل في أرقام وصور. فالمرض لا يولد في عضو واحد، بل يتشكّل داخل شبكة معقّدة من الزمن والحياة والسلوك. وحين يتعلّم الذكاء الاصطناعي قراءة هذه الشبكة — لا ليحلّ محل الطبيب بل ليحرّره — يصبح القرار الطبي أكثر دقة... وأكثر رحمة في آنٍ واحد.

هنا، يستعيد الطبّ توازنه المفقود: آلةٌ تُحلّل بلا إرهاق، وطبيبٌ يُنصت بلا استعجال.

وعند هذا الحدّ الفاصل بين الحساب والحكمة، يعود الطبّ إلى جوهره الأول: معرفة الإنسان قبل معالجة المرض، ورؤية الحياة كاملة... قبل مطاردة أعراضها المتفرّقة.