حالة من الحزن الشديد انتابت اليوم الوسط الثقافي المصري إثر الإعلان عن رحيل الأديب السكندري مصطفى نصر عن عمر ناهز 78 عاماً، بعد صراع مع المرض، ومسيرة حافلة من الإبداع، تنوعت ما بين القصة القصيرة والرواية وأدب الأطفال، وعاش في مساحة من الظل بعيداً عن الأضواء، مترفعاً عن المعارك الصغيرة والإغراءات الأدبية البراقة.
وأجمعت المنشورات والآراء المختلفة عبر منصات التواصل الاجتماعي على أن نصر كان يعد «حكاء مدينة الإسكندرية الأول ومؤرخها الأدبي بلا منازع» الذي استعرض عبقرية عروس البحر المتوسط من حيث الموقع والسمات الحضارية والمزاج العام، في نصوص تجمع بين الماضي والحاضر في توليفة مدهشة.

من أبرز أعماله المجموعات القصصية «الاختيار»، «سيدة القطار»، «حفل في وهج الشمس»، «وجوه»، «الطيور»، كما كتب للصغار «شدو البلابل»، «الشجرة الصغيرة»، «وصية الملكة»، ومن أبرز رواياته «الصعود فوق جدار أملس»، «الشركاء»، «جبل ناعسة»، «الهماميل»، «حكايات من بحري»، «ليالي الإسكندرية»، «كسر الحاجز» و«يهود الإسكندرية».
يقول الشاعر إبراهيم داود: «لم يسعدني الحظ بالتعرف على مصطفى نصر شخصياً، لكنه أحد أحب كتاب الروايات إلى قلبي، قرأت له مبكراً رواية (الهماميل)، وكانت حفاوة جمال الغيطاني بأعماله والإشادة بها في الجلسات الخاصة أحد أسباب اهتمامي بما يكتب، حيث إن ما يميزه كروائي أنه صنع معادلة خاصة في الكتابة، تبدو أنها خالية من الصنعة، كتابة ضيقت المسافة بين الشفاهة والتدوين، بحيث تجد نفسك أمام حكاء مشغول بمصائر البشر الذين يعيشون في الإسكندرية الحقيقية التي لا تستند إلى التصورات المسبقة عنها، والتي تم اختزالها في رباعية الكاتب البريطاني لورانس داريل أو نوستالجيا كتابات إدوار الخراط».
وأضاف داود: «لا أدعي أنني ملم بمنجزه العريض كله، ولكني معجب برجل صنع ذاكرة لمدينة شهدت تحولات عنيفة، ولم يشغل نفسه بمعارك جانبية. هو يحكي لينقذ مدينته، ولينقذ نفسه أيضاً، لم يبرح عالمه المليء بالمفاجآت، ويتكئ على المناطق الشجية في التاريخ ليغزل عالماً مبهراً من الصعب أن يلتفت إليه الكتاب المحترفون الذين يشغلهم المجد والجوائز والترجمة. لقد اختار عالمه في المدينة التي كانت كوزموبوليتانية، لينجز مشروعه، تماماً كما فعل خيري شلبي الذي انحاز لريف الدلتا والأرواح المعذبة والمبهجة في صحراء المماليك، وكما فعل محمد البساطي الذي اختار الشخصيات الحزينة المنسية على أطراف القرى والغرف الضيقة في المدينة وعالم المساجين».

واعتبر الشاعر عبد الصبور بدر أن مصطفى نصر يكاد يكون الكاتب الوحيد الذي يعرف عنه القراء أكثر مما يعرفه عن نفسه، فهو يسرف في الحكي عن ذاته، وعن الأشخاص الذين قابلهم، والذين لم يلتقِ بهم، والأماكن التي مر بها، والتي لم يشاهدها، يفعل ذلك دون تحفظ، في أعماله الروائية والقصصية أو في مقالاته، أو حواراته الصحافية، أو حتى منشوراته على صفحته الشخصية. إنه يهدم الجدار العازل بين الكتابة والحديث، فلا تعرف إن كنت تقرأ له، أو تستمع إليه، ويخلط المقال بالقصة فلا تدري إن كان يعرض وجهة نظره أم يسرد حكاية محبوكة. في جميع الأحوال تستمتع بكل ما ينتجه، وتتحول إلى مستهلك لإبداعه، تلتهم نصوصه ولا تشعر بالشبع».
وأضاف بدر أن «نصر يكتب ليتذكر، أو يتذكر ليكتب، يسكب الحاضر على الماضي ويضيف إليهما القليل من المستقبل، يغير أسماء الأشخاص وربما الأماكن. المهم بالنسبة إليه هو الحدث. لم يتوقف عن السرد منذ صدور روايته الأولى (الصعود فوق جدار أملس) (1977)، وكأنه يؤدي رسالة مقدسة، يؤرشف فيها الفترة الزمنية التي عاشها. لقد أبدع عشرات الأعمال المهمة التي صنعت أستاذيته، ووضعته في الصف الأول مع الملهمين، بينما الجوائز دائماً لا تتعرف على عنوانه، وتعلن مقاطعتها له، وكأنها تعاقبه لأنه لم يهجر الإسكندرية ويقيم في القاهرة».
ويروي الناقد سيد محمود أنه لم يعرف الروائي الراحل مصطفى نصر بصورة شخصية، ولم يقابله مطلقاً، لكنه قرأ سردياته التي كتبها عن الإسكندرية وتجلى فيها الهامش بمعناه التعددي، فحكاياته جمعت الفن والأدب والحياة الوظيفية في سلاسة نادرة.
ويقول سيد محمود إن العزاء الوحيد له أنه ساعد في نشر رواية نصر «يهود الإسكندرية» بالمصادفة، وكان قد رفضها ناشر حكومي.
وأقنع سيد محمود يومها الدكتور سمير مندي وكان مديراً للنشر بأن الرواية جميلة وتستحق النشر وليست هناك أسباب فنية تبرر رفضها. ثم نشرت الرواية في صحيفة «القاهرة» الأسبوعية حين كان يترأس تحريرها مع مقدمة منه. وعندما نشر جزء من الرواية على صفحتين كاملتين تحمست دار النشر «المصرية اللبنانية» لنشرها وتعاقدت مع المؤلف وحققت نجاحاً كبيراً، ونُشرت في عدة طبعات وكادت تتحول إلى مسلسل درامي لولا مشكلات إنتاجية معتادة.
