تلعب مصر دوراً بارزاً إلى جانب الوسطاء في رسم معالم المستقبل الأمني والسياسي لقطاع غزة، مع التوقيع على اتفاق «وقف إطلاق النار»، وتضطلع الآن بدور تنسيقي في تشكيل «لجنة إدارة القطاع»، وتدريب الفلسطينيين وإنفاذ المساعدات وإعادة الإعمار، ويعد ذلك جزءاً من تاريخ ممتد للروابط الوثيقة والاضطرابات المُربكة أيضاً.
وقبل إعلان وقف إطلاق النار، أعلنت مصر في أغسطس (آب) الماضي، «استعدادها للمشاركة في قوة دولية مشتركة قد يتم نشرها بغزة».
وسبق ذلك إعلان مصر عن خطة تفصيلية لإعادة إعمار قطاع غزة حظيت بموافقة عربية وإسلامية، وتعمل الآن على الحشد الدولي لعقد قمة دولية في القاهرة خلال هذا الشهر، وتعمل مع المنظمات الأممية والدولية والقوى الفاعلة لضمان توفير التمويل اللازم للتعافي المبكر، ثم إعادة الإعمار الذي قدرته الأمم المتحدة بنحو 70 مليار دولار.

ومع كل تحرك مصري يغوص في تفاصيل المرحلة المقبلة للقطاع، يتبادر للأذهان فترة تاريخية كان فيها قطاع غزة خاضعاً للإدارة المصرية منذ عام 1948 وحتى عام 1967، وفي ذلك الحين كانت مصر تدير شؤون القطاع المدنية والعسكرية، وتوفّر لها الغطاء السياسي والدعم الشعبي، كما أُتيح للفلسطينيين في غزة السفر والدراسة والعمل في مصر.
وظلت مصر تمثل متنفساً مهماً لغزة، وقدمت دعماً بارزاً في مواجهة تداعيات الحصار الإنساني والصحي والمعيشي، وتحوّلت المعابر الحدودية، وعلى رأسها «معبر رفح البري» إلى شريان حياة لأهالي القطاع، وعلى مدار القرن الماضي، شهدت مصر موجات لجوء أو قدوم فلسطينية إلى مصر لأسباب مختلفة تتراوح بين قربها الجغرافي والروابط العائلية وأسباب تجارية، وفقاً لتقارير أممية.
«وجود قطاع غزة تحت الإدارة العسكرية لفترة من الوقت يجعل هناك قدر من التوقع الفلسطيني أن تبذل مصر مزيداً من الجهود لإنهاء الحروب، والتعامل مع الانقسامات الفلسطينية المعقدة، وهذه التوقعات ترتبط أيضاً بالحدود المتاخمة ومحددات الأمن القومي المصري»، وفق الخبيرة في الشؤون الفلسطينية، عبير ياسين.
لكن بالنسبة لمصر فإنها تنظر إلى قطاع غزة كونه جزءاً لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية، بحسب ياسين، التي أشارت لـ«الشرق الأوسط» إلى أن الحديث المتكرر عن إدارة القطاع أو ضمه إلى سيناء «هو محاولة لتصفية القضية الفلسطينية، بخاصة أن غزة من الناحية الديموغرافية تضم عائلات الفلسطينية في ثلاثينات القرن الماضي، وهؤلاء لديهم امتدادات عائلية داخل فلسطين التاريخية الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي حالياً».

أما عضو «المجلس المصري للشؤون الخارجية»، السفير عزت سعد، فأكد لـ«الشرق الأوسط» أن «أبرز الاضطرابات التي كانت مُربكة لمصر، تمثلت في الانقسام الفلسطيني المستمر حتى الآن، والحروب التي شنتها إسرائيل على غزة في فترات مختلفة، ومخاوف تأثر الحدود المصرية سلباً جراء الأوضاع الأمنية المضطربة في القطاع»، موضحاً: «غير أن القاهرة حاولت بما لديها من خبرة في التعامل مع هذا الملف أن تخفف من التوترات وتحافظ على الأمن القومي المصري».
وبحسب مراقبين، فإن «الإرث التاريخي والروابط الوثيقة بين مصر وغزة، لم يعكرها فقط المخاوف المصرية من توظيف القطاع لتحقيق أطماع إسرائيل التوسعية؛ لكن أيضاً السيطرة عليه من جانب حركة (حماس) وآيديولوجيتها خلال السنوات السابقة».
وفي مارس (آذار) 2007، اتفقت حركتا «فتح» و«حماس» على تشكيل «حكومة وحدة وطنية» بعد أشهر من الصراع والمواجهات وأعمال العنف. لكن سرعان ما أطاحت «حماس» بسلطة «فتح» في قطاع غزة في يونيو (حزيران) 2007، ومنذ ذلك الوقت أصبح قطاع غزة تحت إدارة حركة «حماس» وحدها.
«وشكل فوز (حماس) بالانتخابات ثم الانقسام، حالة إرباك للمشهد الفلسطيني برمته، وحاولت مصر مع هذه التعقيدات، من خلال دعم الممثل الرسمي ممثلة في (السلطة الفلسطينية) والانخراط في مفاوضات طويلة بين الأفرقاء الفلسطينيين لإنهاء الانقسام، وتستمر حتى هذه اللحظة للوصول إلى رؤية موحدة لتقوية وتمتين الموقف الفلسطيني، أو ما يطلق عليه (اليوم التالي لقطاع غزة بعد وقف الحرب)»، وفقاً لعبير ياسين.
وأخيراً، استضافت مصر اجتماعات للفصائل الفلسطينية في القاهرة؛ لكن لم تشارك فيها «فتح»، ودعت تلك الفصائل إلى عقد اجتماع عاجل لكل القوى الفلسطينية؛ من أجل تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، التي لا تضمّ حركة (حماس) «للاتفاق على استراتيجية وطنية وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية».
عضو «المجلس المصري للشؤون الخارجية» قال إن «إحدى أبرز القضايا التي تشكل إرباكاً للمشهد الفلسطيني تتمثل في استمرار الانقسام، وتعمل مصر بكل ما لديها من ثقل تاريخي في غزة وما قدمته من دعم ومساندة للقضية الفلسطينية، على أن تصل إلى تفاهمات تسهم في استمرار التهدئة الحالية، وإنجاح اتفاق وقف إطلاق النار». وأضاف: «حال عادت الحرب، فإن الفصائل ستكون الطرف الأكثر خسارة بعد أن فقدت أهم ورقة ضغط تتمثل في الرهائن الذين كانوا بجعبة حركة (حماس)، وستكون إسرائيل في حرب بلا قيود داخلية عليها، وبالتالي فإن مصر تعمل على توظيف الموقف الذي اتخذته قيادة (حماس) بعدم الانخراط في أي أدوار مستقبلية بغزة للبناء عليه».

وتذهب الخبيرة في الشؤون الفلسطينية لتأكيد أن «الخطاب اليميني الحالي والذي لا يرى سوى إقامة دولة يهودية يضع مزيداً من العراقيل أمام الموقف المصري الساعي لتثبيت إدارة فلسطينية على غزة، ولم يعد الحديث عن القطاع كبوابة للحكم الذاتي دون الضفة الغربية والقدس كما كان الحال سابقاً، لكننا أمام رؤية لاحتلال كامل لأراضي فلسطين التاريخية، والبحث عن تحقيق (إسرائيل الكبرى)».
وفي أغسطس (آب) الماضي، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إنه يشعر بأنه في «مهمة تاريخية وروحية»، وإنه متمسك «جداً» برؤية إسرائيل الكبرى التي تشمل الأراضي الفلسطينية، «وربما أيضاً مناطق من الأردن ومصر»، بحسب صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» العبرية.
مستشار «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية»، الدكتور عمرو الشوبكي، قال إن «الجانب التاريخي حاضر بقوة في التحركات المصرية الحالية، وظهر ذلك على مستوى الوساطة بين (حماس) من جانب، والولايات المتحدة وإسرائيل من جانب آخر، وكذلك الوساطة بين الفصائل فيما بينها وصولاً لمساعي تثبيت وقف إطلاق النار الحالي، وإعادة الإعمار في الفترة المقبلة، إلى جانب المشاركة في تشكيل لجنة إدارة غزة وتحديد أدوارها، وكذلك التعامل مع مستقبل حركة (حماس) وسلاحها».
وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «الدور المصري الآن مُركب، ويعمل كحلقة وصل إلى جانب الوسطاء لإنهاء الحرب وتثبيت الفلسطينيين داخل القطاع»، لكنه شدد أيضاً على أن «مصر حسمت أمرها بشأن رفض العودة للحكم المباشر إلى غزة، وترى أن ذلك يخلق تداعيات سلبية على الأمن القومي، وسيكون لديها دور مشارك سواء على مستوى تشكيل المستوى الدولي أو تقديم الدعم المطلوب للجنة إدارة القطاع».




