علي بدر... سرديات الأمكنة المخدوعة

المكان في نص الكاتب العراقي ليس بريئاً... فهو يُخفي أكثر مما يُظهر

علي بدر
علي بدر
TT

علي بدر... سرديات الأمكنة المخدوعة

علي بدر
علي بدر

الولع بالأمكنة ليس غواية فقط، بل هو محاولة في التنصيص مع ما تحمله تلك الأمكنة، لتكون جزءاً من الوجود والتخيل، ومن العلاقة الغامضة مع المعنى واللذة والحنين والاختباء. المكان هنا هو الفضاء الذي يتجاوز حدود الدال الضيق إلى المدلول السائل، على نحوٍ تتبدى مظاهره من خلال سرديات الهوية والانتماء والنص والتاريخ، وكأن هذا المكان يتخلى عن مرجعيته في «الجغرافيا» ليبدو وكأنه وجود تصنعه اللغة، أو السيرة والذاكرة والجماعة...

علي بدر المغامر والسارد يضعنا عند المخفي من سرديات تلك الأمكنة، نازعاً عنها الضيق من التوصيف إلى الاتساع، بمعنى الانغمار في التحول والاحتواء؛ إذ تحتفي بملامح في الكتابة، حيث استغواء الإدهاش والسرد الذي يُغذّي المكان بطاقة التشظي، وشهوة الاستعارة، فلا هوية لهذا المكان سوى ما يصنعه من تمثلات تصنعها اللغة أكثر مما يصنعها الواقع...

ما كتبه علي بدر عن المقاهي الإيطالية والروسية والبيروتية والبغدادية يكشف عن هوية تلك الأمكنة المدهشة، السرية والغامضة والموازية، وعن علاقتها بصناعة التاريخ المهمل، تاريخ الجماعات والشعراء وأصحاب البيانات، حيث يتحول التعرّف على التفاصيل اليومية إلى علامات، وإلى إغواءات تُحرض على الحكي والتشهي، وعلى استدعاء النص بوصفه تمثيلاً للغائب، والحكاية بوصفها سيرة لما يُكتب عن «أبطال» ساخرين... هو سكون المقهى، لكنهم يحملون معهم أرواح سكان المكان الملحمي، فيضعون الجسد وقرينه النصوصي داخل لعبة نسقية مفتوحة، يتحرك فيها العوليسي والشاعر والمغني والعاشق، مثلما يتحرك فيها الصعلوك المغمور بأوهام سرديات الهامش الصاخب في المدن الكبرى.

علاقة الثقافة الأوروبية بالمقاهي لها خصوصية وسرائر تُخفي كثيراً من «المنسي من التاريخ»؛ إذ يتحول فيها الكلام إلى زمن يومي، والجسد إلى بطل طقوسي يؤدي وظائف الحضور والهذيان والحميمية، وكأنه يصنع نظيراً للملحمة الغائبة، فالمقهى مكان تطهيري، يشبه الكنيسة، أو الجامع، حتى تبدو هذه الثنائية وكأنها بحث استفزازي عن فكرة التطهير، فاستعارته لقول ألبرتو مورافيا عن علاقة المقهى بالتاريخ، تحمل معها ما يشبه التلاقح، والاشتهاء؛ إذ يقول مورافيا: «لقد أنجبت المقاهي الإيطالية أوروبا الجديدة».

هذا القول ليس فنتازيا، فبقدر ما هو استقراء لما تخفيه تلك المقاهي من تفاصيل، ومن أسرار سرعان ما تتعرى، فإنه يرتبط بغواية صانع السرديات وما يخفيه؛ إذ يجعلها مواربة إزاء أخرى مضادة، عالقة بحميمية، تبدو وكأنها تجعل من التضاد جزءاً من لعبة الجسد ذاته، متوهجاً، غاوياً، مُهيأً للتحول إلى جسد تنط به الشهوة إلى أقصى الاعتراف.

ما يحضر في المقهى لن يكون مكبوتاً، فرغم أن أغلب المقاهي مراقبة، فإنها تظل مسكونة بكثير من السحر والغواية والحوار والشغف، وهو ما يمنح التفاصيل - الطاولة، البن، نظرات النساء، العطر - حساسية فائقة الاستدعاء، في تمثيل هوية المكان «السائل»، وفي تمثيل الذات وهي تمارس طقوس وعيها المفارق، بوصفه أولى العلامات على وجود «شرارة ثورة مؤجلة» كما يسميها بدر...

وحتى استعادته لحكاية إيتالو كالفينو تكشف عمّا هو عميق في سردية المقهى، فقوله: «لا أحد يمكنه أن يروي تاريخ الفكر الأوروبي من دون أن يمر على مقاهي روما»، يضعنا إزاء تلك التفاصيل، وإزاء ما يصطخب بها من استغواءات عميقة، لا سيما ما يتعلق بها من مفارقات وتقابلات، فيزداد سحرها عبر ما تصنعه اللغة، وعبر ما يتوهج منها دون تدوين، حيث «يتبادل الأدباء والنقاد والرسامون الخيانات الفكرية والقبل السريعة والأحلام الماركسية المبتلة بالخمر».

هذا التبادل المكشوف على كلّ شيء يبدو قابلاً للتحول، فيكتسب وجوده السحري من خلال ما يساقط منه من استعارات التشهي، ومن استعارات الرفض والإحساس بأن المقهى بيت أنطولوجي، تتسع فيه الأشياء عبر اللغة، وعبر ما تصنعه من استعارات وإحالات، حيث «تختلط الأرواح بالسياسة كما يختلط النبيذ بالدم»، وحيث تبدو «الثورة تتنفس عبر فم امرأة تضحك وهي تدخن»، وحيث تكون «الطاولات شاهدة على حوارات لا تنتهي بين اليسار الرومانسي الذي يريد أن يحرر الإنسان، وبين الفاشيين الذين أرادوا أن يطهروا الوطن من ضعفه».

هذه السرديات المكثفة، تسحب اللغة إلى منطقة التفكير الصاخب، أو ربما إلى وجودٍ يشبه «الدازين» حيث يكون هذا الوجود رهيناً بالتفكير، وبما يصنعه من مفارقات تسوّغ الوجود، فتجعله متعالياً وفاعلاً، وقادراً على أن يجعل من الأفكار النظير الفعال للتاريخ، حيث تبدو الأفكار الكبرى أكثر تمثيلاً لتفاصيل الأحداث والصراعات الكبرى، ولما تصنعه الجماعات من علامات تخص تلك الأحداث التي تصنعها السلطة، حيث يتم قمع وإقصاء ومراقبة مرويات الهامش، التي يحفل بها السري الغاطس في لا وعي المقهى والبيان والمبغى والحزب، على نحو يتحول فيه هذا المقهى إلى سلطة موازية رغم إخفائها، وإلى نص سري له فرضياته وتخيلاته، حيث تختلط عبره الأشياء بالحكايات، والأجساد بالشهوات، واليسار باليمين، فقوله حول ما يحدث في مقاهي ميلانو، وفي أمسيات «ركن جماعة 63»، يكشف عن تعالقات تبدو أكثر إثارة، وأكثر مفارقة، وأكثر شغفاً بالتمرد، واصطناع ما يعادلها من البلاغة والهذيان والتشهي؛ إذ يرى «الشعراء يتحدثون هناك عن الجسد كما لو أنه نص سياسي، عن القبلة كفعل تحرر، عن اللذة كبيان ضد الفاشية. في تلك الأمسيات التي تختلط فيها رائحة الجلود مع عطر الورق والعرق والكوكاكولا، كانت الحكايات الإيروتيكية تنفجر من فم اللغة نفسها، كأن الأدب قرر أن ينتقم من الكنيسة ومن البرجوازية معاً، أن يحرر الشهوة من الخطيئة، والفكر من الطاعة».المكان وما تصنعه اللغة

المكان في نص علي بدر ليس بريئاً، فهو يُخفي أكثر مما يُظهر، ويصطخب أكثر مما يتستر، على نحوٍ يجعل من أصحابه وكأنهم ممسوسون، يمارسون طقوس استدعاء العالم إلى المقهى، والإشهار بالكتابة حدّ ممارستها كنوع من الحركات الصوفية، حيث يُراقب الجسد وهو يتحول في المقهى إلى علامة للتشهي، وحتى الأفكار تتخلى عن بعضها لكي تخرق حدود الوحدة، فتجعل من اللغة هي الشاهد الخائن والماكر على ما يجري؛ إذ يستعير علي بدر لسرديته المهووسة بذلك المكان أسماء لها ذاكرة ضاجة بالتمردات، فوجد في طقوس بازوليني «القديس القذر» كما سمّاه، من يرقب العالم من خلال عين مركبة، تشبك بين الصور السينمائية والصور الشعرية، واجداً في المقهى مجالاً ليس حيادياً، حيث يتقبل التمرد والإغواء، ويصلح لكل شيء، للحب والكراهية والجنون والهتاف، حيث يجعل من إيطاليا «مقهى كبيراً» كما يقول، يرصد فيه ملامح الأمكنة وهي مفتوحة للعابرين، ومشغولة بالمفارقات «في زاويةٍ ما، ثمة فتيات يضحكن ويقرأن دانونزيو، وفي الزاوية المقابلة رسام شيوعي يناقش رفيقاً فاشياً حول معنى الجمال، وفي الخلفية يعزف غجري منفرد على الكمان بينما تتصاعد رائحة التبغ والرغبة والتمرد».

ما تصنعه المدن

بما أن أغلب شخصيات علي بدر إشكالية وتعاني من عقد الهوية والجنس والسلبية الاجتماعية والطبقية، فإنها تتعرّض إلى عدوى المدينة، بوصفها مكاناً إشكالياً ومعقداً؛ لذا يجعل تلك الشخصيات مهووسة بسرديات مناورة، ومخادعة عبر الأقنعة، وبالأكاذيب، والفحولة الجنسية، والأوهام الثقافية، حتى تبدو تلك الأوهام وكأنها تعكس وجودية وأخلاقية. لا يجد المثقف الذي يقترح أنموذجه علي بدر نفسه سوى أن يكون مخادعاً، وفحلاً جنسياً، ومتوارياً خلف أقنعة واستعارات تجعله أكثر تورطاً بـ«الوعي الزائف».

في رواية «بابا سارتر» تخضع الشخصية الرئيسة إلى قصدية واضحة، وإلى تصميم سردي أراد منه الروائي جعل «البطل الضد» يعيش أوهام الوعي الزائف في الأفكار، وفي العلاقة مع المكان الهامشي، ليمرر لنا سخريته من أنموذج «المثقف الستيني» الموهوم بغرائبية الصدمات الكبرى، بما فيها صدمة انقلاب 1963، التي عتّم علي بدر على تداعياتها السياسية والآيديولوجية، ليكون حضور «فيلسوف الصدرية» هو الأنموذج الموهوم للبطل الهروبي، الغارق بتمثيل وجوده عبر مشهديات الوعي الزائف، والمكان الزائف، والهوية الزائفة.

في رواية «شتاء العائلة» يتحول حضور الغريب إلى مفارقة سردية، فيجعل من حكاياته الزائفة نظيراً للتاريخ الزائف، ولأوهام «العائلة البغدادية» التي تعيش تلك الأوهام بوصفها إشباعات رمزية، تتقوض معها علامات الهوية والمكان، حتى يبدو الشتاء الحكواتي للعائلة وكأنه تمثيل للمدينة الزائفة، التي تضطرب فيها الشخصيات، حتى يكون حضور الغريب بحمولته السردية إقصاء للمكان الواقعي، واستدعاء للسيرة الزائفة التي تستفزها مخيلة هذا الغريب الذي يجعل من تاريخ العائلة الأرستقراطية مختبراً سردياً لتقويض تاريخها، كاشفاً فيه عن وظيفته في تشظية الهويات، وفي الكشف عن اندحارها إزاء ما يتخفّى في سرديات الغريب/ العدو/ اللص/ «مشعل الحرائق»/ صانع الحكايات/ الضد.

في رواية «حارس التبغ» تكشف الهوية المتشظية عن محنة الشخصية، وعن علاقتها الشائهة بالمدينة، فبقدر ما تبدو تلك الشخصية حاملة للمأزق الوجودي، فإنها تحمل معها عقدة التحولات التي تعيشها في الأمكنة الدوستوبية، فيتحول رهاب وجودها إلى تمثيل مشوه لهويتها، ولعلاقتها بالمكان، فيفقد ذلك المكان رمزيته تبعاً لفقدان الشخصية قناعها؛ إذ أعطى الروائي علي بدر لسردية الأقنعة وظيفة تحريك الشخصية، عبر تشظيتها في الاسم والهوية، وفي تحويل أنموذجها المتعالي والمتشوه، وكأنه قريب من أنموذج «وليد مسعود» في رواية جبرا إبراهيم جبرا «البحث عن وليد مسعود» حيث اللامكان مع تعدد الأقنعة، وحيث تبدو الفحولة الجنسية تمثيلاً للبطل الذي يقاوم نسيان الهوية عبر الجسد، وعبر لعبة الإغواء الجنسي.

يناور علي بدر على التأطير السردي للمدينة، فيجعلها قرينة بالاضطراب الذي تعيشه شخصياته، فهي مدينة غائمة، فقدت روحها الأرستقراطية، فيعمد الروائي إلى تمثيل مأزقها عبر مآزق شخصياتها، لكنه يُخفي أسبابها، وعلاقة تشوهاتها بالأفكار، وبالأحداث التي صنعها الانقلابيون، على نحوٍ يجعل ذاكرة السارد إزاء مواجهة ماكرة مع التاريخ، وأن ما يرويه هذا السارد لا يخرج عن المناورة في الكشف عن المخفي والمستور والمُهرّب... حتى تبدو شخصياته وكأنها تتحرك وسط تلك الدوستوبيا المرعبة، حيث تحضر «المدينة الفاشلة»، المدينة التي لا تحمي أحداً، بوصفها المدينة التي تغمرها أشباح الانقلابات العسكرية، والصراعات الآيديولوجية والطائفية، وهذا ما يجعل شهادة علي بدر عن تلك المدينة خادعة، وأن شخصياتها المخدوعة والأضحوية، لا تكشف كثيراً عن تاريخها، بقدر ما يصطنع لها الروائي تاريخاً موازياً، يكون متخيله السردي مضللاً، عبر ما يسرده عن الجسد الفحل، وعن البطل الذي يرمي التاريخ إلى المزبلة، ليصنع تاريخه عبر هوية ذلك الجسد المتعالي، وعبر ما يتساقط من سرديات مضللة تخص الآيديولوجيا والأمة والهوية والدولة. لا يملك المثقف الذي يقترح أنموذجه علي بدر سوى أن يكون مخادعاً متوارياً خلف أقنعة واستعارات


مقالات ذات صلة

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون 14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.


14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن
TT

14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع المتوسط، وتتكون من أربعة عشر فصلاً، يمثل كل فصل منها جيلاً، من قصة عائلة مصرية من الجد الرابع عشر، حتى الابن في الحاضر، مبتعدة عن تقديم أي خلفية تاريخية لأحداثها، وتكتفي فقط بإشارات عابرة إلى تطور نمط الحياة من جيل إلى آخر.

مع النهاية، نلاحظ أن ثمة وجوداً لفكرة العود الأبدي ودوران الزمن في حركة دائرية، عاكسة تأثير الماضي في الحاضر والمستقبل، وكيف يؤثر كل فعل في مصير الآخرين، وهكذا لا يوجد بطل للرواية، فالـ14 شخصية هم جميعهم أبطال، وكل واحد منهم بطل حكايته، فأسماء الفصول كلها معنونة بأسماء شخصيات، وهكذا يكون الزمن هو البطل الأول، وهو الذي يمارس ألعابه الوحشية في المقام الأول، غير أن كل شخصية لها حكايتها التي لا تأتي منفصلة عن الماضي، ولا ينقطع تأثيرها في المستقبل، وتعيش هي أيضاً ألعابها الخاصة، عبر أحلامها وانكساراتها والصراع الذي تدخل فيه.

وفي ظل ذلك تلعب الرواية على وتر البحث عن الهوية، من خلال علاقات حب يبدو فيها وكأنه مغامرة كبيرة وليس مجرد شعور، مغامرة ترسم المصائر وتعيد تشكيل العلاقات، وثمة أحلام، وهزائم وانتصارات، يتغير معها المكان والزمان، وبطبيعة الحال يلعب الموت دوراً كبيراً في الأحداث، وكثيراً ما يأتي بدايةً وليس نهاية.