كلود هيرنانديز: دوري في «عندما يصير النهر بحراً» مغامرة إنسانية عميقة

الفنانة الإسبانية قالت لـ«الشرق الأوسط» إن مشاهد صمتها الطويلة بالفيلم ضرورية

عرض الفيلم في مهرجان الجونة السينمائي (الشركة المنتجة)
عرض الفيلم في مهرجان الجونة السينمائي (الشركة المنتجة)
TT

كلود هيرنانديز: دوري في «عندما يصير النهر بحراً» مغامرة إنسانية عميقة

عرض الفيلم في مهرجان الجونة السينمائي (الشركة المنتجة)
عرض الفيلم في مهرجان الجونة السينمائي (الشركة المنتجة)

قالت الممثلة الإسبانية كلود هيرنانديز إن تجربتها في فيلم «عندما يصير النهر بحراً» كانت مغامرة إنسانية عميقة قبل أن تكون عملاً فنياً؛ لأنها واجهت للمرة الأولى شخصية تحمل عبء صدمة العنف الجنسي وتعيش رحلة التعافي الطويلة منها.

وأضافت كلود هيرنانديز لـ«الشرق الأوسط» أن «الدور تطلّب منها أن تتجرّد تماماً من شخصيتها الواقعية، وأن تترك وراءها صوتها الصاخب وطبيعتها المنفتحة لتجسد الصمت الداخلي لامرأة يضج رأسها بالأفكار من دون أن تنطق بها، فكان عليها أن تتعلم كيف تصمت من الداخل قبل أن تنطق أمام الكاميرا».

وأوضحت أن «الصعوبة لم تكن في الكلمات أو الحوارات الطويلة التي تضمّها بعض المشاهد، بل في ترجمة كل ما لا يُقال؛ لأن فهم صمت البطلة هو المفتاح الحقيقي لفهم آلامها وأفكارها المشتتة، معتبرة أن التحدي الأكبر تمثل في أن تؤدي الشخصية بطريقة لا تجعلها مجرد ضحية، بل امرأة تحاول إعادة بناء نفسها بعد الانكسار».

وتتناول أحداث الفيلم الذي عرض في مهرجان «الجونة السينمائي» حكاية طالبة آثار تُدعى «غايا»، تتعرض لحادثة اعتداء جنسي تغيّر حياتها إلى الأبد، فتجد نفسها عاجزة عن الكلام وعن وصف ما حدث لها، ثم تبدأ شيئاً فشيئاً في التنقيب داخل ذاكرتها كما يفعل الآثاريون حين يبحثون عن شظايا الماضي ليعيدوا بناء الصورة الكاملة.

الممثلة الإسبانية كلود هيرنانديز (الشرق الأوسط)

وتتحول رحلتها إلى محاولة لاكتشاف ذاتها من جديد وسط خوفها من العالم وعدم ثقتها بمن حولها، لتكشف القصة عن مسار التعافي الذي لا يمكن التعجل فيه أو اختصاره؛ لأن الجروح النفسية تحتاج إلى وقت لتلتئم.

وقالت إن المخرج بيرا فيلا بارتسيلو طلب منها في بداية العمل أن تتخلى عن كل ما تعرفه عن الأداء التقليدي، وأن تكفّ عن التعبير المبالغ فيه، لأن الفيلم يعتمد على لغة التفاصيل الصغيرة والنظرات والصمت الطويل، وهو ما جعلها تشعر في البداية بأن التجربة شاقة وصعبة.

وأوضحت أن بارتسيلو كان يريد أن يخلق شخصية محايدة ومكثفة في الوقت نفسه، تبوح بألمها من دون أن تتكلم كثيراً، وهو ما جعلها تتعلم نوعاً جديداً من الصدق أمام الكاميرا، لافتة إلى أن «التواصل المستمر بينهما ساعدها على تجاوز مخاوفها، إذ كانا يقضيان ساعات طويلة في النقاش حول النغمة التي يجب أن تسود المشهد وطبيعة الطاقة الداخلية للشخصية في كل لحظة».

وأضافت أن المخرج أرسل إليها أعمالاً سينمائية مرجعية مثل فيلم «جان دارك» ليفهمها أكثر على اللغة الجسدية التي يريدها، حتى يصبح أداؤها أكثر تجريداً وأقرب إلى الحالة النفسية للبطلة، مؤكدة أن العمل على المشاعر الداخلية لم يكن ممكناً من دون العمل على الجسد، لأنها تؤمن بأن الجسد هو الذي يفكر أحياناً قبل الذهن.

وبيّنت أنها اعتمدت على تدريبات بدنية دقيقة لتكتشف كيف يمكن لجسد البطلة أن يتحرك بعد الألم، وكيف تعكس وقفتها وحركتها وطريقة تنفسها الصراع الداخلي الذي تمرّ به، مؤكدة أنها تستخدم جسدها بوصفه وسيلة للفهم أكثر من كونه أداة للأداء؛ لأن المشاعر الحقيقية لا يمكن أن تُفرض من الخارج، بل يجب أن تتكوّن تدريجياً داخل الجسد حتى تتحول إلى صدق بصري ملموس أمام الكاميرا.

تحدثت بطلة الفيلم عن صعوبات التجربة إنسانياً (الشركة المنتجة)

وأضافت أن «هذه الطريقة جعلتها تصل إلى لحظات عفوية ومليئة بالانفعال الصامت، إذ يمكن لحركة بسيطة أو نظرة أن تختصر ما لا تقوله عشرات الجمل»، لافتة إلى أن «التحضير للدور تطلّب بحثاً إنسانياً واسعاً أكثر من كونه تمريناً تمثيلياً، إذ التقت بعدد كبير من النساء اللواتي مررن بتجارب عنف مشابهة، واستلهمت من شهاداتهن تفاصيل دقيقة عن مراحل الألم والصمت والغضب، وكيف يتحول الخوف إلى قوة مع مرور الوقت».

وأكدت أن فريق العمل استعان بأطباء نفسيين أثناء كتابة النص لتأكيد مصداقية المشاهد والحوار؛ لأن الفيلم يقوم على قصص حقيقية لنساء روين معاناتهن بصدق، وهو ما جعلها تشعر بمسؤولية كبيرة تجاههن، فكانت تتعامل مع الشخصية كأنها صوت لجميع من لم يجدن وسيلة للكلام، موضحة أنها أرادت أن تقدّم شخصية امرأة لا تُختزل في صورة الضحية، بل كونها إنسانة تخوض رحلة معقدة نحو الشفاء، وهو ما جعل الفيلم مختلفاً عن معظم الأعمال التي تناولت العنف الجنسي من قبل.

اعتمدت الممثلة الإسبانية على التحضيرات النفسية للدور (الشركة المنتجة)

وأضافت أن أكثر ما أخافها أثناء التصوير هو الوقوع في التمثيل النمطي، لأن الكثير من الأفلام التي تتناول موضوعات مشابهة تقدم الشخصية في حالة دائمة من البكاء والانكسار، بينما في الواقع تمرّ الضحية بمراحل متناقضة من الضعف والقوة، ومن الإنكار إلى المواجهة، ومن العزلة إلى الرغبة في الحياة.

وأكدت أن هدفها كان أن تُظهر كيف تتحول «غايا» من امرأة مجروحة إلى ناجية قادرة على النظر إلى العالم من جديد، مؤكدة أن الفيلم لا يسعى إلى بث رسالة جاهزة أو شعارات نسوية مباشرة، بل يحاول أن يصوّر الحياة كما هي، بما فيها من فوضى وصمت وأمل، ليجعل المشاهد يعيش التجربة من الداخل.

عرض الفيلم في مهرجان الجونة السينمائي (الشركة المنتجة)

ورغم أن الفيلم يمتد لـ3 ساعات، فإن هيرنانديز ترى أن ذلك أكثر ما يميّز التجربة، وتعتقد أنه ضروري لفهم بطء عملية التعافي النفسي؛ لأن التعافي لا يحدث في مشهد أو لحظة، بل سلسلة من الانكسارات الصغيرة التي تسبق الشفاء الحقيقي.

وكشفت الممثلة الإسبانية أن «المخرج أراد أن يمنح الشخصية الوقت الذي تحتاجه كي تستعيد أنفاسها، وأن يتيح للمشاهد أن يرافقها في رحلتها خطوة بخطوة، ولذلك جاءت اللقطات طويلة ومتأنية، محكومة بإيقاع يشبه إيقاع الحياة بعد الصدمة، لافتة إلى أن هذا التوجه جعل الفيلم صعباً من ناحية الإنتاج، لكنه في المقابل أكسبه صدقاً نادراً وجمالاً داخلياً لا يعتمد على الحبكة بل على الإحساس»؛ على حد تعبيرها.


مقالات ذات صلة

فيلم «في - آي: في الحركة» يفوز بجائزة «الشرق الوثائقية»

يوميات الشرق يرصد الفيلم الذي يأتي من إخراج جولييت بينوش قصة تعاون فني يجمع بين ممثلة مرموقة وراقص شهير (الشرق الأوسط)

فيلم «في - آي: في الحركة» يفوز بجائزة «الشرق الوثائقية»

تأتي الجائزة التي تمنحها «الشرق الوثائقية» للعام الثالث على التوالي، تأكيداً على التزامها بدعم السينما الوثائقية العالمية ذات الرؤى الإبداعية الجديدة.

«الشرق الأوسط»
يوميات الشرق أمير مع صناع الفيلم خلال عرضه في برلين (الشركة المنتجة)

أمير فخر الدين: «يونان» يسجل هواجس العزلة والاغتراب

يستعيد المخرج السوري المقيم في ألمانيا أمير فخر الدين ملامح مشروعه السينمائي الجديد «يونان» بنبرة هادئة، وواثقة.

أحمد عدلي (جدة)
يوميات الشرق نيللي كريم وشريف سلامة في لقطة من الفيلم (مهرجان البحر الأحمر السينمائي)

«جوازة ولا جنازة»... سينما المفارقات بين العائلات العريقة والأثرياء الجدد

اختتم فيلم «جوازة ولا جنازة» عروض برنامج «روائع عربية» بمهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الخامسة.

انتصار دردير (جدة )
يوميات الشرق المخرجة السعودية شهد أمين تتسلَّم جائزة فيلم «هجرة» (المهرجان)

«البحر الأحمر»... ليلة تتويج تؤكد مكانته جسراً عالمياً للسينما

تميَّزت الدورة الخامسة بارتفاع مستوى الاختيارات الفنّية، واتّساع رقعة المشاركة الدولية، وازدياد حضور السينما السعودية في قلب المشهد...

إيمان الخطاف (جدة)
سينما «سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)

السينما في 2025... عام مفصلي لتطور تقنيات الإبهار

في مجمله، كان عام 2025 نقطةً مفصلية في مسار السينما على أكثر من صعيد. بدقّة عالية يمكن تحديد العام الحالي على أساس نقطة تفصل بين ما قبله وما بعده.

محمد رُضا (جدّة)

فيلم «في - آي: في الحركة» يفوز بجائزة «الشرق الوثائقية»

يرصد الفيلم الذي يأتي من إخراج جولييت بينوش قصة تعاون فني يجمع بين ممثلة مرموقة وراقص شهير (الشرق الأوسط)
يرصد الفيلم الذي يأتي من إخراج جولييت بينوش قصة تعاون فني يجمع بين ممثلة مرموقة وراقص شهير (الشرق الأوسط)
TT

فيلم «في - آي: في الحركة» يفوز بجائزة «الشرق الوثائقية»

يرصد الفيلم الذي يأتي من إخراج جولييت بينوش قصة تعاون فني يجمع بين ممثلة مرموقة وراقص شهير (الشرق الأوسط)
يرصد الفيلم الذي يأتي من إخراج جولييت بينوش قصة تعاون فني يجمع بين ممثلة مرموقة وراقص شهير (الشرق الأوسط)

فاز فيلم «في - آي: في الحركة» بجائزة «الشرق الوثائقية» لأفضل فيلم وثائقي لعام 2025، وذلك ضمن فعاليات الدورة الخامسة من «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي». وتأتي الجائزة التي تمنحها «الشرق الوثائقية» للعام الثالث على التوالي، تأكيداً على التزامها بدعم السينما الوثائقية العالمية ذات الرؤى الإبداعية الجديدة.

ويرصد الفيلم، من إخراج جولييت بينوش، قصة تعاون فني يجمع بين ممثلة مرموقة وراقص شهير، إذ يخوضان تجربة مسرحية تجريبية خارج المألوف، تفتح أمامهما مساحات جديدة لاكتشاف الذات من خلال الحركة والأداء والتعبير الفنّي.

المدير العام لـ«الشرق الوثائقية» محمد اليوسي (الشرق الأوسط)

وفي هذا السياق، قال المدير العام لـ«الشرق الوثائقية» و«الشرق ديسكفري»، محمد اليوسي، إنّ الجائزة تعكس التزام «الشرق الوثائقية» بدعم الأعمال التي تتجاوز القوالب التقليدية، وتقدّم تجارب إنسانية صادقة ومؤثرة. وأضاف: «يُمثّل هذا الفيلم نموذجاً للسينما الوثائقية التي تُوازن بين الجرأة الفنية والعمق الإنساني، وهو ما نسعى إلى دعمه وإيصاله إلى جمهور أوسع».

وشهدت نسخة هذا العام منافسة بين 9 أفلام وثائقية على الجائزة، في تجسيد لتنوّع الأصوات والأساليب الإبداعية المشاركة، واستمراراً لدور «الشرق الوثائقية» في دعم صنّاع الأفلام في رحلتهم لإيصال قصصهم إلى جمهور عالمي.

وتأتي مشاركة «الشرق الوثائقية» في «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» في إطار سعيها المستمر للتواصل مع صنّاع الأفلام والمنتجين، واستكشاف فرص التعاون في مجالات التكليف والإنتاج المشترك، واقتناء الأعمال الوثائقية التي تعبّر عن قضايا إنسانية وثقافية معاصرة.

الفيلم من إخراج جولييت بينوش ويقدّم تجربة مسرحية تجريبية خارج المألوف (الشرق الأوسط)

وتُعد «الشرق الوثائقية» إحدى منصّات شبكة الشرق التابعة لـ«المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام» (SRMG)، وهي أكبر مجموعة إعلامية متكاملة في المنطقة، وتضم ضمن محفظتها أكثر من 30 علامة إعلامية رائدة.

وتُعد الجائزة مبادرة أطلقتها قناة «الشرق الوثائقية» لدعم صنّاع الأفلام الوثائقية الموهوبين في المنطقة وتمكينهم، والاحتفاء بالأعمال غير الروائية التي تعكس الواقع وتتميّز بجودتها البصرية والجمالية.

وكانت الجائزة قد انطلقت ضمن «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي»، إذ فاز فيلم «بنات ألفة» في نسخته الأولى، بمشاركة مجموعة من الأعمال الوثائقية العربية البارزة، في إطار مسعى مستمر لدعم صناعة السينما الوثائقية وإيصال القصص المحلّية إلى جمهور عالمي، إلى جانب تقديم محتوى أصلي وحصري عبر قدرات الإنتاج الداخلية للقناة، في وقت تُواصل فيه شبكة الشرق حصد التقدير الدولي، بما في ذلك جوائز «تيلي» لعام 2025 عن تميّزها في السرد الوثائقي.


قبل «الميغالودون»... وحش بحري حكم القروش العملاقة

وحش بحري حكم القروش العملاقة (أ.ب)
وحش بحري حكم القروش العملاقة (أ.ب)
TT

قبل «الميغالودون»... وحش بحري حكم القروش العملاقة

وحش بحري حكم القروش العملاقة (أ.ب)
وحش بحري حكم القروش العملاقة (أ.ب)

في عصر الديناصورات، وقبل ظهور الحيتان أو أسماك القرش البيضاء الضخمة، أو حتى قرش «الميغالودون» الذي يبلغ حجمه حجم حافلة، كان هناك قرش هائل يجوب المياه قبالة ما يُعرف اليوم بشمال أستراليا، بين وحوش البحار في العصر الطباشيري.

ووفق «أسوشييتد برس»، يقول باحثون يدرسون فقرات ضخمة عُثر عليها على شاطئ قرب مدينة داروين إنّ هذا الكائن يُعد الآن أقدم مفترس عملاق معروف ضمن سلالة أسماك القرش الحديثة، إذ عاش قبل 15 مليون سنة من ظهور أسماك القرش العملاقة التي عُرفت لاحقاً.

وكان هذا القرش ضخماً بالفعل، فقد قُدّر طول سلف القرش الأبيض العظيم المعاصر، الذي يبلغ طوله اليوم نحو 6 أمتار، بنحو 8 أمتار، وفق ما ذكر مؤلّفو ورقة بحثية نُشرت في مجلة «كوميونيكيشنز بيولوجي».

وقال كبير أمناء علم الحفريات الحيوية في المتحف السويدي للتاريخ الطبيعي، وأحد مؤلّفي الدراسة، بنجامين كير: «كانت الكاردابيو دونتيدات أسماك قرش قديمة ومفترسة ضخمة، وكانت شائعة جداً في الجزء المتأخر من العصر الطباشيري، قبل أكثر من 100 مليون سنة». وأضاف: «مع ذلك، يدفع هذا الاكتشاف الإطار الزمني إلى الوراء، إلى النقطة التي نتوقع فيها العثور على أضخم كاردابيو دونتيدات عملاقة على الإطلاق».

وتتمتّع أسماك القرش بتاريخ يمتد إلى 400 مليون سنة، وإنما أسماك «اللامنيفورم»، أسلاف القرش الأبيض العظيم الحالي، لا تظهر في السجل الأحفوري إلا منذ 135 مليون سنة. وفي ذلك الوقت كانت صغيرة الحجم، وربما لم يتجاوز طولها متراً واحداً، ممّا جعل اكتشاف أنها أصبحت عملاقة بالفعل قبل 115 مليون سنة أمراً مُفاجئاً للباحثين.

وقد عُثر على الفقرات على ساحل قرب داروين في أقصى شمال أستراليا، وهي منطقة كانت في الماضي طيناً في قاع محيط قديم امتد من «غوندوانا»، وهي أستراليا حالياً، إلى «لوراسيا»، وهي أوروبا اليوم.

وتُعد هذه المنطقة غنية بالأدلة الأحفورية للحياة البحرية في حقبة ما قبل التاريخ، إذ عُثر فيها حتى الآن على كائنات مثل «بليزوصورات» و«إكثيوصورات» طويلة العنق.

وأوضح كير أنّ الفقرات الخمس، التي دفعت إلى السعي لتقدير حجم أصحابها من أسماك القرش العملاقة، لم تكن اكتشافاً حديثاً، وإنما اكتشاف قديم جرى تجاهله إلى حد ما. فقد استُخرجت هذه الأحفوريات في أواخر ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته، وبلغ قياسها 12 سنتيمتراً عرضاً، وظلَّت مُخزّنة في أحد المتاحف لسنوات.

وعند دراسة أسماك القرش القديمة، تُعد الفقرات كنزاً لعلماء الحفريات، فهياكل أسماك القرش مكوَّنة من غضروف لا عظام، ولذلك يتألّف سجلها الأحفوري في الغالب من الأسنان التي تسقطها أسماك القرش طوال حياتها.

وقال كير: «تكمن أهمية الفقرات في أنها تعطينا مؤشرات عن الحجم. وإذا حاولت التقدير بالاعتماد على الأسنان وحدها، يصبح الأمر صعباً. هل الأسنان كبيرة والأجسام صغيرة؟ أم أنها أسنان كبيرة مع أجسام كبيرة؟».

وأضاف أنّ العلماء بات بإمكانهم الآن تمشيط بيئات مماثلة حول العالم بحثاً عن اكتشافات أخرى، قائلاً: «لا بد أنها كانت موجودة من قبل. فهذا الكائن كان له أسلاف».

وأشار كير إلى أنّ دراسة نُظم بيئية قديمة مثل هذه قد تساعد الباحثين على فهم كيفية استجابة الأنواع الحالية للتغيرات البيئية. وقال: «هنا يبدأ عالمنا الحديث. ومن خلال النظر إلى ما حدث خلال التحولات السابقة في المناخ والتنوّع البيولوجي، يمكننا أن نُكوّن تصوّراً أفضل عمّا قد يظهر لاحقاً».


أمير فخر الدين: «يونان» يسجل هواجس العزلة والاغتراب

أمير مع صناع الفيلم خلال عرضه في برلين (الشركة المنتجة)
أمير مع صناع الفيلم خلال عرضه في برلين (الشركة المنتجة)
TT

أمير فخر الدين: «يونان» يسجل هواجس العزلة والاغتراب

أمير مع صناع الفيلم خلال عرضه في برلين (الشركة المنتجة)
أمير مع صناع الفيلم خلال عرضه في برلين (الشركة المنتجة)

يستعيد المخرج السوري المقيم في ألمانيا أمير فخر الدين ملامح مشروعه السينمائي الجديد «يونان» بنبرة هادئة، وواثقة، كأنما يروي رحلة شخصية أكثر ما يروي عملاً فنياً، فقد جاء فيلمه الذي حصد جائزتي «أفضل ممثل» و«أفضل مخرج» في النسخة الخامسة من مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» ليشكّل المحطة الثانية في ثلاثية بدأها بفيلم «الغريب»، ويحاول من خلالها تفكيك العلاقة بين الإنسان والحنين، واستكشاف كيف يمكن للذاكرة، والخيال، والانتماء أن تصنع هوية الفرد، وحدوده الداخلية.

الفيلم الحاصل على دعم من صندوق وسوق «البحر الأحمر» يغوص في أعماق النفس البشرية، وتتواصل أحداثه على مدى 124 دقيقة، وهو من تأليف وإخراج ومونتاج أمير فخر الدين، وبطولة الممثل اللبناني جورج خباز، والممثلة الألمانية الكبيرة هانا شيغولا، والممثل الفلسطيني علي سليمان، والممثلة الألمانية من أصول تركية سيبل كيكيلي، والممثلة اللبنانية نضال الأشقر، والممثل الألماني توم بلاشيا، وعرض للمرة الأولى عالمياً في مهرجان «برلين السينمائي» مطلع العام الجاري.

أمير فخر الدين (الشرق الأوسط)

يقول أمير لـ«الشرق الأوسط» إن «الفكرة لم تولد دفعة واحدة، بل جاءت نتيجة رحلة طويلة من التفكير في معنى الانتماء، وفي تلك المنطقة الرمادية التي تقف فيها النفس بين الماضي والمستقبل، بين المكان الذي نبقى فيه والمكان الذي نغادره»، وعن الاختلاف بين الفيلمين «الغريب» و«يونان» يوضح أن «الغريب» كان محاولة للاقتراب من شخصية يملك صاحبها حنيناً غير معتاد، حنيناً نحو مستقبل لا يعرفه، ورغبة في التّشبث بالبقاء رغم كل ما يدفع للهجرة، تلك كانت حكاية رجل رافض للمغادرة، يعيش في أرض محتلة، يشعر بثقل المكان، لكنه لا يستطيع فراقه.

أما «يونان»، فيسرد الوجه الآخر للحنين، شخص يعيش في الغرب، لكنه لا يستطيع العودة إلى بيته، فقد أرضه، وبقي أسيراً لذكرى تستيقظ ولا تكتمل، وواقع يُدركه من بعيد دون أن يلمسه. وبين هاتين الشخصيتين، يرى فخر الدين أنّ «الإنسان المقهور بالنوستالجيا غالباً ما يُقدَّم ضحية الظروف، والصدف، والتاريخ، لكنني في الفيلم الثالث سأحاول مقاربة شخصية تحررت من القيود، وبدأت تبحث عن قيد جديد، كأن الألم ذاته يصبح حاجة من حاجات الشعور بالانتماء».

اختيار جورج خبّاز لبطولة «يونان» لم يكن قراراً غريباً، فالمخرج الشاب تابع أعمال الممثل اللبناني بتمعّن، فلم يكن يبحث عن نجم بقدر ما كان يبحث عن «عيون عميقة»، وفق وصفه، تستطيع أن تحمل هدوء الشخصية، وقلقها في الوقت نفسه، وشاهد له مقابلات مطوّلة، لمح في بعضها لحظة عفوية أزال فيها خبّاز نظارته، فبدا كأن حزناً دفيناً يمر خلف العينين. ذلك الحزن، كما يقول فخر الدين، «لم يكن تعبيراً عن حالة واقعية بقدر ما كان دليلاً على قدرة الممثل على حمل ثقل الشخصية».

جورج خباز خلال تسلم جائزة أمير من المخرجة نادين لبكي في مهرجان البحر الأحمر (إدارة المهرجان)

«الفهم العميق للتراجيديا لا يتأتّى إلا لمن اختبر الإنسانية من الداخل»، هكذا يصف أمير بطل فيلمه، مضيفاً أنّ «تجربة خبّاز المسرحية وثقافته الواسعة منحتاه قدرة نادرة على التعبير بالصمت لا بالكلام، وعلى تقديم شخصية مهاجر مع أنه في حياته لم يغادر لبنان»، لكن فخر الدين كان واضحاً في القرار «السيرة الذاتية للممثل لا تهمني، ما يهمني هو قدرته على فهم طبقات الشخصية».

كذلك يشير المخرج إلى أنّ التعاون مع سعاد بوشناق في الموسيقى كان مساراً طويلاً، امتد لسنوات من الأخذ والردّ، لم يكن يريد «طلباً جاهزاً» يمنح اللحن شكله النهائي منذ البداية، بل أراد أن يرى كيف تقرأ الموسيقية الفيلم بذائقتها، ثم يبني معها طبقة بعد طبقة، وصولاً إلى المزج الذي يبحث عنه بين موسيقى الباروك الجنائزية وجماليات المشرق، فالموسيقى بالنسبة إليه «ليست مرافقة للصورة فقط، بل هي كشفٌ لطبقاتها الداخلية، وإضافة لعوالم لا تستطيع الكاميرا وحدها الوصول إليها، ومن هنا، صار الصوت امتداداً طبيعياً للّغة البصرية، وأصبح للّحن دور في بناء الذاكرة داخل الفيلم، وإبراز طقوس الحنين، والعزلة، والانهيار»، وفق تعبيره.

وعن مساحات الصمت في الفيلم، التي أثارت نقاشاً بين بعض المشاهدين، يرى فخر الدين أنّ «الصمت ليس فراغاً، بل معنى، وليس حيلة فنية، بل ضرورة درامية»، ويوضح أنه يقدّم شخصية مهاجر وحيد، يعيش لغة ليست لغته، ويواجه العالم بغربة لا تترجم بالكلمات، فالصمت ليس اقتصاراً، بل امتلاء، فهو مساحة يتشاركها المشاهد مع الشخصية.

وأضاف أن «الصمت يمنح الفيلم روحه، يجعل المشاهد طرفاً في القراءة، ويتيح لكل فرد أن يرى فيلماً مختلفاً، ولهذا يمكن لعشرة أشخاص أن يشاهدوا الفيلم نفسه، وتنتج عنها عشرة أفلام مختلفة، فالكلمات، في رأيه، قد تبعد الشخصيات عن بعضها أحياناً، بينما يمنحها الصمت قرباً غير مرئي.

أما عن مدة الفيلم التي علّق عليها بعض الجمهور، فيقول المخرج إن «قياس الأعمال الفنية بالدقائق معيار لا يعكس التجربة الحسية للعمل، فهناك أفلام تتجاوز الأربع ساعات ويتمنى ألا تنتهي، وأخرى قصيرة تجعل الزمن يبدو طويلاً، المهم بالنسبة لي هو الإيقاع الداخلي للشخصية، ومدى قدرة المشاهد على الاندماج مع العالم المعروض أمامه».

وفيما يتعلّق بتجربة التصوير، يصفها فخر الدين بأنها «واحدة من أكثر محطات العمل صعوبة، ليس فقط بسبب طبيعة الجزيرة التي صُوِّر فيها الفيلم، ولا الاعتماد على حالة الطقس في مشاهد تحتاج الريح، أو حركة الغيم، بل لأن فريق العمل جاء من خلفيات متعددة، وثقافات مختلفة، ومع ذلك نجح في بناء انسجام استثنائي في مكان ناءٍ».

وهنا يتذكر أمير مشهد وصول الممثلة هانا شغولا ذات الواحد وثمانين عاماً، والتي قطعت رحلة شاقة من باريس إلى الجزيرة رغم المرض والحمى، مصمّمة على خوض التجربة. كان ذلك بالنسبة إليه درساً في الانضباط، وفي معنى الالتزام بالفن، مؤكداً أن «حضورها، رغم التعب، علّمه أكثر مما علّمته الظروف القاسية. كذلك كان الأمر مع جورج خبّاز، وبقية الممثلين، والعاملين الذين جمعهم مشروع مشترك رغم اختلاف الجنسيات، والخبرات، فصاروا منسجمين داخل عزلة الجزيرة».

يبدو «يونان» بالنسبة لأمير فخر الدين ليس مجرد فيلم، بل إنه جزء من بحث طويل في معنى أن يكون الإنسان مقيماً ومغادراً في الوقت نفسه، قادراً على مواجهة حنينه أو أسيراً له، وأن يجد نفسه بين الصمت والكلام، بين الذاكرة والحركة، وبين المكان الذي يسكنه والمكان الذي يتركه. وبينما يتابع العمل على فيلمه الثالث، يشعر بأن رحلته لم تنتهِ بعد، وأن كل خطوة تقرّبه أكثر من فهم السؤال الذي طرحه في بداية مشروعه «ماذا يعني أن تنتمي؟».