مع خيوط الصباح الأولى، غادرت الحافلات مدينة جدة متّجهة شرقاً نحو وادي فاطمة. خلف أبراج المدينة الساحلية بدأت الملامح تتبدَّل تدريجياً؛ تتراجع الموجات الزرقاء للبحر الأحمر لتحلّ محلّها تضاريس وعرة تتخلّلها تلال من الصخور السوداء والرمادية، تشي بتاريخٍ جيولوجي يمتدّ إلى أكثر من 800 مليون عام.
كانت هذه بداية رحلة ميدانية استثنائية نظَّمتها هيئة المساحة الجيولوجية السعودية، جمعت نخبة من الباحثين والعلماء والخبراء الدوليين، ضمن ختام فعاليات مؤتمر «GEOMIN 2025» الذي استمرّ 4 أيام، وناقش تحوّلات الاقتصاد العالمي وآفاق الاستثمار والتنمية في ظلّ المتغيّرات الإقليمية والدولية.

امتدت الرحلة لأكثر من 10 ساعات، شارك فيها فريق من هيئة المساحة الجيولوجية السعودية، وقسم علوم الأرض والهندسة بجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، عبر 5 مواقع جيولوجية تمتدّ بين جدة ومكة المكرمة، لاستكشاف تكوينات الصخور القديمة والمعادن النفيسة وتاريخ البراكين، ومتابعة أثرها في رسم ملامح المنطقة الغربية من المملكة.
من جبل الملاس تبدأ الحكاية
في الثامنة صباحاً، توقَّفت القافلة عند أولى المحطات في جبل الملاس، حيث خندق قديم لتمعدن الذهب من عصر ما قبل الكامبري. تتحرّك أقدام الفريق بحذر بين الصخور المتشقّقة، فيما تُسمع طرقات المطارق الجيولوجية وهي تلامس الصخور المتحوّلة التي خضعت عبر العصور لتأثيرات حرارية هائلة.

هنا، كما يشرح أحد المرشدين، كانت أولى البعثات الجيولوجية في خمسينات القرن الماضي تعمل على تحديد مواقع المعادن الثمينة. الصخور الداكنة المائلة إلى الأخضر، والنُسُق المعدنية اللامعة، تحكي عن أعماق شهدت تفاعلات كيميائية تحت ضغط الأرض، مُخلّفة آثار الذهب والسيليكا والفلزات الثقيلة.
وادي الشميسي... ذاكرة البحر القديم
يتّجه الفريق لاحقاً نحو وادي الشميسي، فتتكشف طبقات حجرية مُتداخلة تحمل بصمات العصور الوسطى الجيولوجية. تُظهر المقاطع الصخرية في تشكيل الشميسي أشرطة دقيقة من حجر الحديد الأوليتي، تبدو كأنها صفحات كتاب قديم تسرد تاريخاً يعود إلى زمن كانت فيه المنطقة بحراً ضحلاً تتأكسد فيه المعادن على السطح.

العدسات اليدوية تلتقط تفاصيل البلورات الدقيقة، بينما تسجل الكاميرات الميدانية الملمس الطبقي للحجر. في هذه النقطة، يبدأ المشاركون في رسم خرائط صغيرة يرصدون فيها الطبقات المُتعاقبة ويقيسون اتجاهاتها بدقة ميدانية لافتة.
وادي فاطمة... تقاطع التاريخ مع الجيولوجيا
عند المحطة الثالثة، تتّسع المَشاهد ويظهر نظام الصدوع الذي يعبُر وادي فاطمة مثل ندوب عتيقة على وجه الأرض. الصخور الرسوبية هنا تلتقي مع التكوينات الناريّة، وتحتفظ الطبقات بطبعات دقيقة لحركات الأرض القديمة. من خلف العدسات، تبدو الأودية متشابكة مثل أوردة تمتدّ نحو الشمال، شاهدةً على قوة التحوّلات التكتونية التي سبقت انفتاح البحر الأحمر قبل نحو 18 مليون سنة.
حدّات الشام... غداء تحت الجرف الرملي
مع انتصاف النهار، يتوقَّف الفريق عند حدّات الشام، حيث جرف رملي مُعلَّق يُشبه شرفةً طبيعية تطلّ على امتداد الأرض الهادئة. تُفرش الوجبات الميدانية بين ظلال الصخور، وتتحوَّل الاستراحة إلى جلسة علمية حيّة يُناقش فيها الباحثون التتابعات الطبقية التي تربط بين تشكيل أُسفان عسفان البحري وتشكيل الشميسي النهري.
تتأمّل العيون خطوط الترسيب الدقيقة على الجرف، كأنها توقيعات صامتة من عصور ما قبل الإنسان، تحكي عن مياه انحسرت وبحار غادرت وتركت أثرها في الرمل والحجر.
سور عسفان العظيم... نهاية الرحلة وبداية الأسئلة
في ختام اليوم، تصل القافلة إلى ما يُعرف بسور عسفان العظيم، وهو جدار من الحجر الجيري يمتدّ على مدى مئات الأمتار، يقف شامخاً بلون أبيض مائل إلى الرمادي.
تبدو طبقاته الرسوبية كأنها جدار من التاريخ الجيولوجي المُتراكم، يكشف عن الانتقال من بيئة بحريّة إلى أخرى قاريّة، وعن النشاط البركاني الذي شكَّل تضاريس المنطقة على مدى العصور.
في الجوار، تظهر طبقات تشكيل خلايا بلونها الأحمر البرتقالي، لتضيف لمسة حارَّة على لوحة الصخور الصامتة.

رحلة علمية وسياحة جيولوجية واعدة
في ختام الجولة، أشار المشاركون والمشرفون إلى أنّ هذه الرحلة العلمية تُعدّ من أهم الرحلات الجيولوجية في غرب المملكة، مؤكدين سعيهم لأن تكون نموذجاً للتعرُّف إلى بيئات جيولوجية متنوّعة يُحتذى بها في المستقبل، لتعريف الضيوف والجيولوجيين والطلاب بتراث المنطقة الجيولوجي الغنيّ بين جدة ومكة، الذي شهد بدايات التنقيب الأولى في خمسينات القرن الماضي وستيناته.
وأشاروا إلى أنّ هذه المواقع ليست ذات أهمية علمية فحسب، بل تمتلك إمكانات اقتصادية وسياحية واعدة، إذ يمكن أن تتحوَّل مستقبلاً إلى وُجهات تعليمية وسياحية تُعرّف الزوار بتاريخ الأرض وتنوّعها الطبيعي في المملكة.
وتنسجم هذه الرحلة الميدانية مع توجّهات «رؤية السعودية 2030» التي تسعى إلى تنويع الاقتصاد الوطني واستثمار الثروات الطبيعية بطريقة مُستدامة، وتعزيز مفهوم السياحة الجيولوجية بكونها أحد المسارات الجديدة في التنمية؛ فالمواقع التي زارها الفريق العلمي بين جدة ومكة ليست مجرّد تكوينات صخرية، بل متاحف طبيعية مفتوحة تحكي قصة الأرض من أعماقها.
وهنا، تتقاطع الجيولوجيا مع الاقتصاد والسياحة والتعليم، لتصنع مستقبلاً جديداً حيث يصبح الحجر ذاكرة، والصخور كتاباً، والرحلة اكتشافاً مستمرّاً لوجه آخر من جمال المملكة.



