فيصل الحفيان: المخطوط هو التجسيد المتكامل للتاريخ

الباحث السوري يرى أن «تراثنا مترع بالمخطوطات التي يفتقر إليها الإغريقي واللاتيني»

فيصل الحفيان
فيصل الحفيان
TT

فيصل الحفيان: المخطوط هو التجسيد المتكامل للتاريخ

فيصل الحفيان
فيصل الحفيان

يُعدّ الباحث السوري الدكتور فيصل الحفيان واحداً من أهم الباحثين بالتراث، وله خبرة واسعة بإدارة التراث ومؤسساته، فقد عمل في معهد المخطوطات العربية التابع للجامعة العربية لأربعة عقود حتى أصبح مديراً له، وأسس في إطاره أول برنامج أكاديمي كرَّس المخطوط العربي حقلاً معرفياً مستقلاً تحت عنوان «علوم المخطوط»، ويعمل حالياً رئيس هيئة أمناء دار المخطوطات بإسطنبول، ورئيس تحرير موسوعة المخطوط العربي، وأصدر حديثاً كتاباً مهماً في مجال التحقيق أسماه «فقه التحقيق من الصنعة إلى العلم» عن مركز أبوظبي للغة العربية، ضمن «سلسلة البصائر للبحوث والدراسات».

في هذا الكتاب يرى د. الحفيان أن «تراثنا مترع بالمخطوطات الأصول والأمهات التي يفتقر إليها التراث الإغريقي واللاتيني، وهو ما يفتح أبواب الدرس أمام طلبة الدراسات العليا والباحثين، ويعوض ما يشكون منه من قلة النصوص، خاصة في بعض العلوم الشرعية واللغوية».

وهو يوضح أن التحقيق علم، وضرورة لبناء سند معرفي ومنهجي، وهو مزيج بين السند التاريخي والسند اللغوي. كما يمهّد من خلال هذا الكتاب الطريق أمام الباحثين للتعرف على التحقيق والإجراءات العلمية التي يمكن من خلال تتبعها إنتاج مؤلف حقيقي بطمأنينة أكبر، موضحاً اللغط والالتباس بين التحقيق وبعض المصطلحات التي يعتمدها البعض على أنها تحقيق، والأهم من كل ذلك، أن الكتاب يُعدّ نواة وبداية قوية لاعتماد التحقيق كعلم له مناهجه وضوابطه.

المخطوط، كما يقول، هو التجسيد المتكامل للتاريخ وحركته، ففيه تجتمع الكينونة التاريخية في أصدق تجلياتها وأوسعها؛ فهو أثر بكيانه؛ بكل ما فيه من جلد، وورق، وحبر، وصنعة، وما عليه من صورة تتجلى للرائي بصرياً. وهو معرفة بالنص الذي يحمله. وهو وثيقة بكيانه الصامت وبنصه الناطق بالنص. وهو شاهد حضاري؛ إذ إنه بنصه ووثائقيته مكتنز بالدلالات التي يختزنها على صاحبه وعلى حيواته الخاصة والعامة، وعلى أدواته ومهاراته في الحقب والأماكن المختلفة التي عاشها وعاش فيها.

وفي هذا الكتاب، وضّح المؤلف ماهية المخطوط الذي يحمل النص محل التحقيق، وكينونة المخطوط وتصوره الرباعي القائم على: الوعاء أو الكيان المادي ووظائفه في خدمة النصّ، ثمّ النصّ أو المحتوى العرفي، والقيود والخوارج العلمية وغير العلمية، والصورة. متتبعاً السياق المعرفي والمنهجي للتحقيق في التراث، وحضور مصطلح التحقيق تاريخياً، وأول من استخدم هذا المصطلح، وربط المصطلح بمرادفاته أو مقارباته في اللغات الأخرى، والخيوط الجامعة والفارقة التي تربط بين هذه المصطلحات ومصطلح التحقيق.

وفي حديثه عن أن التحقيق «علم»، يؤكد أن التحقيق له تقاطعات مع علوم أخرى تشاركه الموضوع (المخطوط) ومنها: علم تاريخ النص، والكوديكولوجيا، والباليوغرافيا.

ثم يعرض لموضوع دراسة النص، وفرق بين الدراسة التقديمية والدراسة العلمية، ورسم الحدود بينهما، ورسم خريطة العمل، محدداً فيها مفردات الدراسة، والتمهيد واتجاهاته.

وفي الفصل الأول، يرى أن مصطلح المخطوط ليس قديماً في الثقافة العربية الإسلامية، ولا حتى في الثقافة الغربية؛ ذلك أن ظهوره قد ترافق مع ظهور الآلة التي أنتجت الكتاب المطبوع في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي في ألمانيا، على حين تأخر ظهوره لدينا إلى منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، أما قبل ذلك فقد كان المصطلح هو الكتاب أو المؤلف أو المصنف أو المدون، أو الديوان.

وفي الفصل الثاني، وهو بعنوان «فقه المصطلح»، تناول المؤلف مصطلح التحقيق الذي مضى على ظهوره في الثقافة العربية عملياً أكثر من قرن، وتكرس نظرياً على مقاربة النصوص التراثية، وقد زاحمت مصطلح التحقيق بعض المصطلحات الأخرى مثل الشرح، والتعليق، والضبط، والتقديم، والدراسة، والقراءة.

ثم عرض لتأصيل وتأريخ التحقيق، وأعاد بداية التحقيق إلى التبريزي عندما أراد تحقيق كتاب التهذيب في اللغة لأبي منصور الأزهري، وأضاف أن مصطلح التحقيق عربي خالص لا شك في ذلك، بيد أن عربيته ووجوده، بل شيوعه وشيوع اشتقاقاته، ومنها التحقيق ليس دليلاً ولا حتى قرينة على تعبئته التاريخية بالمفهوم الاصطلاحي الذي هو مقاربة النصوص التراثية تحريراً وخدمة. وأن التحقيق كعنوان كان في عناوين عدد من المؤلفات التراثية وأقدمها كتاب «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة» للبيروني، وكتاب «التحقيق لأحاديث التعليق» لابن الجوزي، وغيرهما. كما اعتمد التحقيق كعنوان فرعي داخل عدد من العلوم الإسلامية.

وعن تاريخ مصطلح التحقيق، فقد شاع بين الباحثين أن أول من استخدم التحقيق وأثبته على أغلفة كتبه هو أحمد زكي باشا عام 1934، ويحال في هذا السياق على الكتابين اللذين حققهما: «الأصنام» و«أنساب الخيل في الجاهلية والإسلام» لابن الكلبي. ثم عرض المؤلف لعدد من الكتب العربية المحققة يرجع أقدمها إلى عام 1800، وصدرت في ست مدن غربية منها: باريس ولندن وفيينا، غير أن تلك الكتب لها غلافان أحدهما أصيل والآخر مترجم، أضيفت فيه «تحقيق» إضافة محضة أو استبدلت بما هو موجود على الغلاف الأصل، مما يدل على أن أحمد زكي باشا هو أول من استخدم «تحقيق».

وفي الفصل الثالث، وهو بعنوان «فقه العلم»، أشار المؤلف إلى أن الذين نظَّروا للتحقيق لم ينشغلوا بالتفكير فيه على أنه «علم»، بل على أنه مجموعة قواعد وضوابط وإجراءات لا أكثر، ورأوا فيه مجرد «صنعة». وتساءل المؤلف: هل التحقيق علم؟ وأجاب أن التحقيق علم؛ لأن له اليوم رؤية، وتاريخاً، ورجالاً، وكتباً. وأن هذه العناصر الأربعة كافية لكي نصف المعارف التي نملكها بأنها علم. وأن هناك رؤية غائبة بخصوص علم التحقيق، وسببها غياب الوعي بها، سواء على مستوى العمل، أو على مستوى النظر، إضافة لإهمال المتخصصين التعرض لها، والخلط بين التاريخ والحاضر، فيما يخص الوظيفة المحدودة للتحقيق قديماً، والحاضر الذي أصبح له فيه وظيفة مركبة.

ثم عرض المؤلف للفرق بين التحقيق كفن والتحقيق كعلم.

ثم تناول المؤلف الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه التحقيق، وأن التحقيق في تراثنا جزء من علم الحديث؛ لأن الحديث يمثل منهج النقد التاريخي الإسلامي في أرفع صوره وأكملها، فلقد حفزت البنية المعرفية لعلم الحديث على إفراز هذه الآلية التي نسميها اليوم «التحقيق». أما الغرب فقد اعتمدوا للتعامل مع النصوص التراثية سنداً معرفياً، تمثل فيما أسموه علم الفيلولوجيا، الذي منه تولد علم نقد النص الذي يوازن عندنا التحقيق، وذلك أن موضوعه هو التأكد من النص الحقيقي الذي أراده المؤلف، أو أسلوب إرجاع النصوص إلى شكلها الأصلي بقدر الإمكان من خلال تحرير العلماء، وهي الدراسة العلمية للنصوص الأدبية، والعناية بتوثيق النصوص وتحقيقها ونشرها والتعليق عليها.

وعن وضع التحقيق في وقتنا الحالي، يذكر المؤلف أن علم التحقيق فقد سنده التاريخي النظري متمثلاً في علم الحديث، وبالتحديد في منهجه، وفي علم أدب العلم، وبالتحديد في قيمه، على الرغم من أنه ظل قروناً يتمتع بهذا السند المزدوج الذي مكن علماءنا على مدى التاريخ من تحرير النصوص وبناء النصوص، فكان التحقيق بقواعده وضوابطه وإجراءاته ثمرة للعلم عامة، ولعلم الحديث وعلم أدب العلم خاصة. وكان كذلك جذراً للمحافظة على العلوم جميعاً متمثلةً في نصوصها من جهة، وإحيائها وإثرائها نوعاً وكماً، من جهة أخرى. ومع فقدان السند غدا التحقيق صنعة، مجرد صنعة معلقة في الهواء، يهجم عليها من شاء ناظراً في إجراءاتها، منزلاً لها على النصوص، ليزين من بعد غلاف الكتاب باسمه على أنه «محقق».

التحقيق علم وضرورة لبناء سند معرفي ومنهجي وهو مزيج بين السند التاريخي والسند اللغوي

ويحمل الفصل الرابع عنوان «فقه التوثيق»، وفيه يذكر المؤلف أن وثائق التاريخ ومخطوطاته ليست هي التاريخ، بل هي شواهده التي تدل عليه، وهي – إذن – وسائط، قد تصدق، وقد لا تصدق، وعلى المحقق أن يجمع تلك الشواهد، سواء كانت لا تزال في صورتها الأولى (المخطوطات)، أو استحالت (مطبوعات)، ويضرب بعضها ببعض؛ ليصل إلى الحقيقة النصية أو يقاربها. هذه المقايسة وهذا الضرب هو التوثيق الذي يكشف الخبيء، ويملأ الثغرات، ويصحح الأخطاء، فتحضر النصوص التي غيبتها الأيام من جديد.

وعلى الرغم من أهمية التوثيق، فإننا لا نجد في كتب التحقيق عنواناً رئيسياً مستقلاً اسمه «التوثيق»، ولربما يرجع ذلك إلى سببين؛ أولهما: أن المحقق في أولى خطواته في اختيار النص الذي سيعمل فيه ينشغل بالتأكد من هويته، وتلك عملية توثيقية رفيعة، فإذا ما انتقل إلى النسخ استحوذ عليه النظر فيها للمفاضلة بينها، وذلك باستنطاق الوعاء الحامل، ومظاهره وتقاليده، وخوارجه، والنص نفسه، وموضوعه، ومحتوياته، والرجوع إلى المصادر. وفي ذلك كله حراك توثيقي أيضاً، ويمر بذلك ونحوه في مختلف مراحل عمله. وثانيهما: أن التوثيق يلتبس بمصطلح التحقيق حتى يتماهى معه، فيقال التوثيق، ويراد التحقيق، والعكس صحيح.

أما «فقه التعليق»، فقد تحدث عنه في الفصل الخامس، ويذكر المؤلف أن التعليق على النص ذو أهمية بالغة، فإذا كان تحرير النص هو الركن الذي لا ينهض عمل المحقق من دونه، فإن التعليق عليه هو الركن الآخر، فهما معاً يشكلان المقاربة العلمية للنص. كما يعد التعليق فناً قائماً بذاته، يتطلب مهارات منها: المعاناة المستمرة للنصوص والمواجهة المتكررة لها، حتى يتمكن من معالجتها والتعبير العلمي عنها في الحواشي، وإدامة النظر في النصوص التعليقية العالية التي كتبها المحققون ذوو القدم الراسخة على النصوص التي اشتغلوا عليها، بوصفها نماذج تطبيقية.

والتعليق يدل على وعي المحقق بوظيفته من جهة، ويظهر قدراته على التعامل مع النص من جهة ثانية. فإن المحقق الذي لا يذيّل النص بتعليقات علمية محررة وكاشفة ينطق بتعليقاته نفسها أنه غير مؤهل لعمله، وليس مسيطراً على النص، ومغترب عنه، ولم يفهمه، ولا يملك القدرة على إفهامه. كما أن التعليق عمل علمي يخضع بالضرورة لأسس نظرية عامة يصدر عنها العمل، الذي يخضع بدوره لقواعد وضوابط توجهه وتحكمه.


مقالات ذات صلة

650 ألف زائر يرسخ مكانة معرض جدة للكتاب كمنصة ثقافية إقليمية

يوميات الشرق طفل يبحث عما يشبهه من كتب تحاكي ذاته (الشرق الأوسط)

650 ألف زائر يرسخ مكانة معرض جدة للكتاب كمنصة ثقافية إقليمية

مع رحيل آخر أيام معرض جدة للكتاب، يطرح المشهد الثقافي جملةً من الأسئلة حول المعرض وترسيخ مكانته كأحد أبرز الفعاليات الثقافية في المملكة.

سعيد الأبيض (جدة)
يوميات الشرق الكاتبة خيرية المغربي مع إصداراتها الأدبية (الشرق الأوسط)

«فلمّا أفَلَت»... حين تدخل الرواية السعودية إلى فضاء السؤال الفكري

في مشهد ثقافي سعودي يتسع للأسئلة بقدر ما يحتفي بالحكايات، تبرز أعمال روائية لم تعد تكتفي برصد التحولات الاجتماعية، بل تمضي أبعد من ذلك، نحو مساءلة الفكر.

أسماء الغابري (جدة)
ثقافة وفنون «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق إقبال واسع على كتب الفانتازيا العربية في معرض جدة للكتاب (الشرق الأوسط)

كاتبان عربيان يُعيدان تعريف الفانتازيا من جدة إلى السويد

ما بين جدة واستوكهولم، تتشكّل ملامح فانتازيا عربية جديدة، لا تهرب من الواقع، بل تعود إليه مُحمّلة بالأسئلة...

أسماء الغابري (جدة)
كتب ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي.

أليكسس كو (نيويورك)

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟
TT

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي. كانت الأولى مدفوعة بحماس نهاية العالم الذي رافق الصحوة الكبرى الثانية، فيما استُمدّت الرؤية الثانية من التفاؤل الجامح للمؤسسين أمثال توماس جيفرسون. وَعَدَت الأولى بأن الصالحين سيرتقون، فيما أقسمت الثانية بأن بإمكان الجميع فعل ذلك.

لكن اليوم، تبدو أسس الصعود غير ذات صلة. كل شيء أصبح أغلى ثمناً -رعاية الأطفال، والإيجار، والرهون العقارية، والتأمين الصحي، وفواتير الخدمات، والبقالة، والمطاعم، والأدوات المنزلية، وخدمات البث، وتذاكر الحفلات الموسيقية، وتذاكر الطيران، ومواقف السيارات، ناهيك بهدايا الأعياد... الرواتب ثابتة، وقوة العمال متحجرة، ومعركة مكافحة التضخم مستمرة للعام الخامس.

كيف ومتى أصبح الارتقاء الاجتماعي بعيد المنال كما يبدو؟ تتناول الكتب المعروضة هنا، هذا السؤال مباشرةً؛ إذ يتعمق بعض المؤلفين في كيفية تشكل الثغرات في طريق الحياة الأفضل؛ بينما يحدد آخرون مواطن الضغط الحالية. وتُظهر هذه الكتب مجتمعةً أن الأميركيين كافحوا لإصلاح اقتصادهم منذ تأسيس الولايات المتحدة، وأن جهود جيلٍ ما غالباً ما تؤتي ثمارها في الجيل الذي يليه.

كتاب «ثمن الديمقراطية» لفانيسا ويليامسون

من الضرائب المفروضة خلال حفلة شاي في بوسطن إلى التعريفات الجمركية في العصر الذهبي، قلّما نجد ما يُحدد التاريخ الأميركي مثل الضرائب. في هذا السرد التحليلي الدقيق للضرائب في الولايات المتحدة، تُجادل ويليامسون، الباحثة في معهد بروكينغز، بأن السياسة الضريبية تتجاوز مجرد تمويل الحكومة، فهي آلية لتوزيع السلطة والحفاظ عليها، فلطالما دعمت الضرائب أثرياء البلاد على حساب بقية الشعب. وتكتب ويليامسون أنه بعد الثورة، كانت أبيجيل آدامز من بين النخب التي اشترت سندات الحرب الحكومية متراجعة القيمة بأبخس الأثمان، ثم شاهدت قيمتها ترتفع مع رفع ماساتشوستس الضرائب لسدادها، على حساب المزارعين البسطاء في الغالب.

وعلى الرغم من هذه التفاوتات، فإن أطروحة ويليامسون المفاجئة هي أن الضرائب، عند تطبيقها بشكل صحيح، تُفيد الديمقراطية. فقد أسهم فرض ضريبة الدخل في ستينات القرن التاسع عشر في دعم المجهود الحربي للاتحاد، مما ضمن عدم تحميل الفقراء وحدهم عبء التكاليف.

وبعد الحرب، فرضت حكومة إعادة الإعمار في كارولاينا الجنوبية ضرائب على الأراضي، مما زاد عدد الأطفال الذين يمكنهم الحصول على التعليم العام بأكثر من أربعة أضعاف، حتى في ظل تفشي التهرب الضريبي.

وتجادل ويليامسون بأن معارضة الضرائب لطالما تستّرت وراء دعوات العدالة، لكن الخطر الحقيقي يكمن في غياب الشعور بالانتماء. وتكتب أنه في نهاية المطاف، عندما يسهم الناس في تمويل حكومة فعّالة، يصبحون أكثر ميلاً للمطالبة بحقهم في إبداء رأيهم فيما تفعله، ويتوقعون منها الاستجابة.

«حرية رجل واحد» لنيكولاس بوكولا

بين مقاطعة حافلات مونتغمري في خمسينات القرن الماضي وانتخابات عام 1964، طرح زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ والمرشح الرئاسي الجمهوري باري غولد ووتر، أفكاراً مؤثرة حول معنى «الحرية» في أميركا. في هذه الصورة المزدوجة المُلهمة، يُعيد بوكولا بناء كيفية تصادم حركتيهما، إذ قدّم كلا الرجلين مفهوماً مختلفاً للحرية، مُرسّخاً فهماً مُغايراً للنظام الاقتصادي الأمثل: اقتصر مفهوم كينغ عن الحرية على المساواة في الوصول إلى السلع والخدمات العامة، فيما استندت رؤية غولد ووتر للحرية إلى حقوق الملكية الشخصية.

يتتبع بوكولا، أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة «كليرمونت ماكينا»، كيف أصبحت رؤاهما المتنافستان، اللتان عَبّرا عنهما في خطاباتهما ومواعظهما ومناقشات مجلس الشيوخ، المنطق الأخلاقي المزدوج لأميركا الحديثة: أحدهما يُقدّس السوق، والآخر يُطالب بإصلاحها. حذّر غولد ووتر من أن «الحكومة الكبيرة» -بضرائبها وشبكات الأمان الاجتماعي- و«العمالة الكبيرة» -بضغطها التصاعدي على الأجور- تُهدّدان «نمط الحياة الاقتصادي الأميركي». وردّ كينغ بأن الحقوق السياسية دون فرص اقتصادية هي حقوق جوفاء. ويرى بوكولا أن تحالف الحقوق المدنية الذي قاده كينغ أسهم في إفشال حملة غولد ووتر، لكن أفكار غولد ووتر انتشرت في أوساط السياسة الأميركية، مُشكّلةً ثورة ريغان وعولمة السوق الحرة في عهد كلينتون.

«أمراء التمويل» للياقت أحمد

في كتابه التاريخي الحائز جائزة «بوليتزر» عام 2009، يتتبع أحمد مسيرة أربعة رجال سيطروا على البنوك المركزية الكبرى في العالم في السنوات التي سبقت الكساد الكبير، وهم: مونتاجو نورمان (بنك إنجلترا)، وبنيامين سترونغ (بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك)، وإميل مورو (بنك فرنسا)، وهيالمار شاخت (بنك الرايخ).

يتناول هذا الكتاب التاريخ العالمي، ولكنه يُعدّ جزءاً لا يتجزأ من التاريخ الأميركي، إذ لطالما امتدت آثار الاقتصاد الأميركي عبر الحدود الوطنية. وبينما كانت الاقتصادات الأوروبية تعاني من الركود بعد الحرب العالمية الأولى تحت وطأة التعويضات والديون، استخدم سترونغ خطوط الائتمان الأميركية للمساعدة في إنعاش البنوك الأوروبية.

«الصندوق الراديكالي» لجون فابيان ويت

لم يعتمد الأميركيون دائماً على الحكومة لتحسين أوضاعهم المعيشية. فقد شهدت عشرينات القرن الماضي ازدهاراً في الأسواق وتفاقماً في عدم المساواة. وكان رأس المال الخاص في كثير من الأحيان شريان الحياة الوحيد لمن يكافحون الفقر والفصل العنصري المتجذر والاعتداء واسع النطاق على الحريات المدنية.

في عام 1922، رفض تشارلز غارلاند، وريث وول ستريت، المصرفي البالغ من العمر 23 عاماً من ولاية ماساتشوستس، التربح من نظام رآه ظالماً، وتبرع بكامل ميراثه البالغ مليون دولار؛ لتأسيس الصندوق الأميركي للخدمة العامة. وكما يُبين ويت في كتابه التاريخي الشيق عن الصندوق الفيدرالي، فقد أصبح هذا التنازل محركاً مالياً دعم الأفراد والمؤسسات التي ستُشكل لاحقاً برنامج الصفقة الجديدة، وحركة الحقوق المدنية.

تحت قيادة روجر بالدوين، من الاتحاد الأميركي للحريات المدنية، دعم الصندوق مشاريع عالم الاجتماع الأسود دبليو إي بي دو بويز. دو بويز، ونورمان توماس، حامل لواء الحزب الاشتراكي، وماري وايت أوفينغتون، المؤسِّسة المشاركة للجمعية الوطنية للنهوض بالملوَّنين. وأشعلت نضالاتهم شرارة تحالفات عمالية واسعة النطاق، مثل مؤتمر المنظمات الصناعية، والحملات القانونية التي بلغت ذروتها في قضية براون ضد مجلس التعليم.

«بابيت» لسنكلير لويس

يسأل جورج ف. بابيت، رجل العقارات المولع بالأجهزة، وسائق سيارة بويك، والمنتمي إلى نادٍ ريفي، والذي يُمثّل محور رواية لويس الساخرة التي صدرت عام 1922، عن الرضا الذاتي للطبقة الوسطى: «بصراحة، هل تعتقدين أن الناس سيظنونني ليبرالياً أكثر من اللازم لو قلتُ إن المضربين كانوا محترمين؟». تدور أحداث هذه الرواية وسط احتجاجات عاملات بدالة الهاتف في مدينة زينيث الخيالية في الغرب الأوسط الأميركي.

تجيبه زوجته: «لا تقلق يا عزيزي، أعرف أنك لا تعني كلمة مما تقول». ومع ذلك، فإن مساعدة المضربين هي أول ما سيفعله ذلك الشاب الجامعي -الذي كان يحلم بالدفاع عن الفقراء. يعترف لابنه لاحقاً قائلاً: «لم أفعل في حياتي شيئاً أردته حقاً!». ثم يمر بأزمة منتصف العمر قصيرة الأمد. ينخرط في الأوساط البوهيمية، ويقيم علاقة غرامية مع أرملة، ويثير ضجة في ناديه الرياضي. لكن عندما يُقابل بتجاهل مجتمعه، ومرض زوجته، ينهار بابيت.

حققت الرواية مبيعات هائلة، ودخل عنوانها إلى اللغة الدارجة: أصبح «بابيت» اختصاراً للشخص المتوافق مع التيار السائد، العالق في عالم ضيق الأفق. لقد أدرك لويس، أول أميركي يفوز بجائزة نوبل في الأدب، ما يغيب غالباً عن الاقتصاديين: الحلم الذي انتقده ليس طموحاً، بل هو إجباري. الانسحاب يعني النفي، لذا يبقى معظم الناس في الداخل، مبتسمين في الفراغ.

* تكتب أليكسس كو عموداً عن التاريخ الأميركي في ملحق الكتب بصحيفة «التايمز». وهي زميلة بارزة في مؤسسة «نيو أميركا»، ومؤلفة كتاب «لن تنسى أبداً بدايتك: سيرة جورج واشنطن».

خدمة «نيويورك تايمز».


هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية
TT

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، الصادر عن «دار بيسان للنشر والتوزيع» (الطبعة الأولى، نوفمبر «تشرين الثاني» 2025)، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان، لتقدِّم عملاً أدبياً يستند إلى الذاكرة الشخصية والجماعية، ويعيد صياغة تجربة الحرب الأهلية بلغة وجدانية وتأملية بعيدة عن المباشرة والتقرير.

الكتاب ليس سرداً زمنياً للحرب، ولا توثيقاً صحافياً بالمعنى التقليدي؛ بل هو مجموعة نصوص مفتوحة تتداخل فيها السيرة الذاتية مع المشهد العام، ويتحوَّل فيها المكان إلى كائن حي، والمدينة إلى وتر مشدود على الألم والفقد والصمود.

تستعيد هدى سويد نصوصاً كُتبت في قلب الحدث أو على مقربة منه، وتعيد جمعها بعد سنوات طويلة، في محاولة لمواجهة الذاكرة؛ لا للهروب منها، ولتحويل ما تبقَّى من الرماد إلى كتابة. تتنقَّل نصوص الكتاب بين الوجداني والسردي، بين اليومي والرمزي، حاملة آثار القصف، والرحيل، والخوف، وأسماء الأمكنة التي تغيَّرت أو اختفت، وأصوات البشر الذين مرُّوا في الحياة ثم غابوا. وفي خلفية هذه النصوص، تبرز تجربة الكاتبة الصحافية التي عملت في الصحافة الاستقصائية والتحقيقات الميدانية والمقابلات الثقافية والسياسية، ما يضفي على اللغة حسّاً واقعياً لا يلغي بُعدها الشعري.

في مقدمة الكتاب، تكشف هدى سويد عن الصعوبة التقنية والنفسية التي رافقت جمع هذه النصوص، بدءاً من استعادتها من أرشيف صحافي قديم، وصولاً إلى الغوص مجدداً في زمن الحرب. تعترف بأن العودة إلى تلك المرحلة أعادتها إلى ليالي القصف ونهارات الخوف، إلى صور الموت والتهجير وسيارات الإسعاف، وأنها كثيراً ما توقفت أمام النصوص باكية، مثقلة بثقل الذاكرة. من هنا، يأتي الكتاب بوصفه فعل مواجهة، لا حنيناً، ومحاولة لفهم الماضي لا لتجميله.

تضم المجموعة عناوين تشكِّل معاً لوحة فسيفسائية لمدينة مجروحة، مثل: «حين يصغر المكان»، و«أضغاث وقت»، و«طريق الصحراء»، و«لكَ المدينة»، و«عزف رحيل على أوتار مدينة». وهي نصوص لا تَعِد القارئ بالفرح، ولكنها تفتح له باب التأمل فيما جرى، وفي أثره المستمر على الحاضر؛ خصوصاً لجيل لم يعش الحرب؛ لكنه يرث ظلالها.

شهادات نقدية

في مقدمة الكتاب، يرى الناقد والشاعر محمد فرحات أن هدى سويد تلتقط من الحرب «قبساً؛ لا المحرقة كاملة»، وتحوِّل التجربة إلى لغة تصف الواقع وتعيد نحته في آن. ويشير إلى أن الكتابة هنا ليست تحقيقاً صحافياً؛ بل هي أدب يعيد رسم الأمكنة والبشر في زمن الزلزال؛ حيث تتخذ اللغة شكلاً مفتوحاً، مرناً، قادراً على احتواء الفوضى الإنسانية للحرب الأهلية. أما الكاتب والصحافي أحمد أصفهاني، فيتوقف عند فعل «الانتقاء» الذي قامت به الكاتبة لنصوصها القديمة، معتبراً أن هذا الفعل يشبه نفض غبار العمر عن لحظات ولادة قاسية. ويؤكد أن سويد لم تفصل ذاتها عن الحدث؛ بل أخذت القارئ معها في رحلة إلى أمكنة وأزمنة ما زالت محفورة في الذاكرة؛ حيث تتقاطع المهنية الصحافية مع الحس الإنساني العميق.

من جهته، يرى الشاعر والناقد أنطوان أبو زيد أن «عزف على أوتار مدينة» يندرج ضمن أدب الذكرى والتأمل في الزمن المُر، ويشير إلى أن القارئ يواجه نوعين من النصوص: وجدانيات مشبعة بالخوف والفقد والوحشة، ونصوص تخييلية جميلة تنفتح على التحليل والتأمل. ويعتبر أن قوة الكتاب تكمن في قدرته على تحويل الألم إلى مادة أدبية، لا لتثبيته؛ بل لإعادة التفكير فيه.


«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة
TT

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

ينصب التمرد غالباً على سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها.

في كتابه «الخروج من الظل - قراءة في القصة النسائية القصيرة في مصر» الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يركز الناقد الراحل دكتور محمد سيد إسماعيل على نموذج الأنثى المتمردة، كما رسمت ملامحها عدد من الكاتبات اللواتي يمثلن تجارب ومنطلقات مختلفة مثل رضوى عاشور وهالة البدري وسلوى بكر، مشيراً إلى أن هذا التمرد غالباً ما يتجه إلى سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها تحت مبررات واهية.

عشق يصدم المجتمع

في قصة «رأيت النخل» لرضوى عاشور، تبدو الشخصية الرئيسية في مواجهة مجموعة من «التقاليد» المجتمعية الراسخة التي تقرر للمرأة بعض الأعمال وتستهجن قيامها بأعمال أخرى. لكن (فوزية) لا تقر هذا ولا تلتزم به وتؤكد «تمردها» الدائم عليه. هي مغرمة بالنبات، غراماً يجعلها تراه في أحلامها وتستحضر دائماً ما كان يرويه أبوها عن النخل الذي يشبه الإنسان في استقامة القد والجمال، وخلقه من ذكر وأنثى وكيف أن «جُماره» في رأسه كعقل الإنسان في رأسه إن أصابها سوء هلك؛ ولهذا فقد كانت تركض خلف نواه وتخبئه في جيبها العميق، وعندما ترجع إلى البيت تضعه في قطنة مبللة حتى يلين وينتفخ ثم تدفنه في الطين وتغمره بالماء.

تقول فوزية: «في عملي لا يفهمونني، وفي الحي أيضاً. سمعتهم بأذني يقولون فوزية المجنونة التي تلقي بنفسها على نوى تمر كأنه جنيهات الذهب». إن الاعتراض على هذا العمل يرجع في الأساس إلى النظر إليه بوصفه من أعمال الرجل؛ وأن الأنثى التي تمارسه إنما تخرج بذلك عن طبيعتها؛ وهي نظرة لا ترى في المرأة إلا كائناً ضعيفاً أو ينبغي أن يتصف بالرقة والجمال الحسي إلى آخر هذه المواصفات التقليدية الشائعة.

يظهر ذلك بوضوح في اعتراض إحدى زميلات (فوزية) على سلوكها: «في العمل أيضاً يتهامسون وراء ظهري. في مرة قالت لي زميلتي:

- انظري يا فوزية إلى يديك.

ففهمت أنها تشير إلى الخطوط السوداء تحت الأظافر فقلت

- هذه ليست وساخة، إنه طين متخلف من الزرع الذي أزرعه.

قالت وهي تربت على كتفي: «لا يليق لا يليق أبداً وأنت موظفة!».

تضفي المؤلفة بعض الصفات الضرورية على شخصية «فوزية» ومنها صفة «الإصرار» التي تظهر في أول مشاهد القصة حين تخرج بحثاً عن بعض أنواع «البراعم» في الشتاء القارس: «طال الشتاء فلم أعد قادرة على الانتظار، لبست معطفي القديم وربطت رأسي بمنديلي الصوفي ونزلت إلى الشوارع أقطعها وأتوقف عند الشجر، أنظر وأتحقق. وعندما تفشل عيناي في رؤية شيء على الفروع الجافة أمد يدي أحس وأتحسس».

ويبدو أن تمرد هذه الشخصية وإصرارها استطاعا «خلخلة» هذه التقاليد المجتمعية المضادة على نحو ما يظهر في نهاية القصة، حين تقول (فوزية): «اليوم جاءتني امرأة تسكن في نفس الشارع وقالت رأيت أصص الزرع في الشرفة، قالت إنها جميلة وسألتني على استحياء أن أعلمها فأريتها كيف، أهديتها عود نعناع كنت قد زرعته ثم جلسنا وتحدثنا».

صرخة زوجة

وإذا كانت رضوى عاشور قدمت نموذج الشخصية المتمردة على التقاليد المجتمعية المستقرة، فإن هالة البدري في قصة «مرآة» تتمرد من خلال شخصية الساردة على وضعية «أسرية» خاطئة، لأنها تقوم على العطاء من جانب أو طرف واحد، وهو الزوجة التي ترعى زوجها وأبناءها دون مقابل معنوي، الأمر الذي جعلها تطرح تساؤلاً مريراً: «هل هناك ما يستحق أن أقتلع سنوات عمري لأصفّها أحجاراً لأساس أعلم أن نزوة ريح قادمة لا ريب لكي تدحرج كل منها في اتجاه».

ومن ثنايا هذا السؤال الاستنكاري يبدأ تمردها الذي ظل يتصاعد من مستوى إلى آخر، يبدأ المستوى الأول بكشف زيف الزوج: «الآن أستطيع أن أبتسم له وأنا في قمة يأسي من عدم فهمه لأي شيء» أو قولها تصويراً لسلبيته وأنانيته: «الآن عرفت أنك لا تسمع شيئاً، أنت تتلقى فحسب، كيف غاب عني هذا لسنوات، من المسئول؟ أنا بأوهامي عن أعبائك أم أنت».

وتصور عزوفه عن الحياة بأنه ليس زهداً «بل تركيب مرآه تعكس فحسب، ولا تشع».

يتصاعد هذا التمرد متحققاً على مستوى الأداء «الأسلوبي» فيتحول من أسلوب «التصوير» الفني القائم على عنصري «الاستعارة» و«التشبيه» إلى الأسلوب المباشر المتسم بالحدة والوضوح على نحو ما يظهر من وصفها الباتر لهذا الزوج: «أنت مخلوق هلامي لا يشعر، لا يتأوه».

ويصل التمرد إلى ذروته حين تكشف الزوجة عن تناقض رؤيتها للحياة مع رؤية زوجها قائلة: «أنت زاهد فيها وأنا أريدها بكل ما فيها من ألم ويأس وسعادة ونجاح، قمة التحقق أن تدمينا وتبكينا وتأخذ منا وتهبنا ونختطف منها ما نشاء، أن ننتشي بالحب والموت والميلاد، وأن نطمح للقمم والروابي، أن نطير فنمسك بالسحب، أن نسقط معها مطراً، أن تتمزق أجسادنا أشلاء فوق صخورها، وأن ندفن فننمو زهوراً يانعة من جديد».

تساؤلات طفلة

تبدو فكرة «الرجولة» أو مفهومها الحقيقي أحد الدلالات الأساسية في قصة «ابتسامة السكر» لسلوى بكر، واللافت حقاً أن طرح هذا «المفهوم» يتم من منظور طفلة تتخذ موقع الراوي الداخلي المشارك في الأحداث. تقوم الأم بتلقينها وصايا ومفاهيم حول الرجولة، كما أن المؤلفة لم تفرض على الطفلة وعياً يعلو على طبيعة إدراكها في مثل هذه السن المبكرة، كما لم تفرض عليها لغة لا تتناسب مع المفردات المتداولة في مثل تلك المرحلة.

ومن خلال تأمل الراوية الطفلة لأوصاف أبيها الراحل التي ترد على لسان الأم، تطرح مفهومها الخاص للرجولة والذي يتمرد على المفهوم السائد، فهي ترفض بداية أن يكون «طويلاً عريضاً يسد الأبواب» وكأننا أمام ترميز خفي يقوم على رفض الرجولة التي تقف حائلاً أمام رغبات الآخرين كما يبدو من سؤال الطفلة البريء: «لو كان هناك أي شخص يرغب في المرور، هل من الأدب أن يسد أبي الباب ويمنعه من ذلك؟».

وهكذا، تجد أنفسنا أمام تفكيك لمفهوم الرجولة ينزع عنها فكرة الاحتكام إلى «الهيئة» أو «المظهر»، فحين تقارن هذه الطفلة بين شقيقها الذي ينهرها دائماً وأختها (أسماء)، تقول: «أسماء أكبر منه وأطيب منه، تساعد أمي في الطبخ وغسل الصحون، ولا تجعلها تعد لها الشاي أثناء المذاكرة كما يفعل هو، لكن أمي لا تقول عنها إنها سوف تكون رجل البيت».