عُرف الباحث الألماني بيرند برونر، مواليد 1964، بكتبه التي تتناول ظواهر أساسية في حياتنا من من منظور إنساني يجمع بين الخلفية العلمية والأسلوب الأدبي، كما في مؤلفاته الشهيرة مثل «القمر»، و«الليل»، و«فن الاستلقاء».
ويأتي كتابه الجديد «الشتاء- تاريخ وفلسفة الفصل الأكثر غموضاً» الصادر عن دار «العربي» بالقاهرة، ترجمة: د. سمر منير، في هذا السياق؛ إذ يرصد تجليات هذا الفصل من زاويا مختلفة مثل الأدب والشعر والتفاوت الطبقي، في لغة تجمع بين الدقة العلمية والسرد التأملي الحر غير المرتبط بتقسيمات حادة.
ويلاحظ المؤلف أن الروس، على سبيل المثال، يشتهرون بعلاقتهم المتناقضة مع الشتاء، كما في قصة تولستوي الشهيرة «السيد والخادم» التي تدور حول أرستقراطي وخادمه تائهَين في عاصفة ثلجية، هنا يبرز الثلج تارةً بوصفه شيئاً مألوفاً وحميماً بل يحمل طابعاً رومانسياً، وتارةً أخرى يبدو كأنه وحش مخيف ينتظر ضحاياه في هدوء.
ويندهش المؤلف من أن المستكشفين الأوائل عدّوا بعض المناطق شيئاً فظيعاً لا يمكن أن يحتمله أحد، كما في شرق كندا و«نيو إنغلاند» التي تقع في المنطقة الشمالية الشرقية من الولايات المتحدة وتضم ست ولايات هي: كونيتيكت، ومين، وماساتشوستس، ونيو هامبشاير، ورود آيلاند، وفيرمونت. ووجه الدهشة هنا أن هناك سكاناً أصليين عاشوا قبل مجيء المستكشفين الأوروبيين بمئات وربما آلاف السنين.
فلطالما وُجدت شعوب تعرف كيف تعيش في ظروف الشتاء القارس، لكنَّ سكان المناطق المعتدلة غالباً ما تجاهلوها، وبنظرةٍ إلى الأدب النابع من منطقة «نيو إنغلاند» سنجده مليئاً بصور الشتاء مثل قصيدة الشاعر جون غرينليف ويتر الكئيبة «محاصَر في الثلج» التي يستهلها بالقول:
«حيث تشرق شمس عديمة البهجة فوق تلال رمادية»
لكن يمكن للشتاء أن يكون مصدر إلهام أيضاً بجماله الباهر، كما حدث مع روكويل كينت؛ فرغم كونه من نيويورك اندفع، نتيجة شغفه بالشتاء، إلى السفر إلى «نيو إنغلاند» و«نيو فاوندلاند» و«غرينلاند» و«ألاسكا»، حيث أنتج صوراً خلابة لمناظر الثلج المضيئة وصوراً درامية لانجرافات الجليد، مع تفاصيل إنسانية مؤثرة وحكايات مشوقة للغاية.
يوصف الشتاء في كثير من الأحيان بأنه معتم وعدو للحياة، إلا أنه يمكن أن يرتبط بلحظات من التجارب الفريدة، ومنها الهواء البارد الجليدي الذي يَخِزُ وجهك كأنه إبر، واللعب بالثلج بأيدٍ لا تتوافر لها وسائل حماية، فيصبح التمييز بين الشعور بالبرودة والحرارة بشكل واضح مستحيلاً على الأقل للحظات. وكذلك الشعور بالإرهاق العميق بعد التزلج على الثلج لمسافة طويلة عندما لا يفصل بين البرد والجسد المتعرق سوى بدلة رقيقة.
ويذكر المؤلف أنه من تلك التجارب الفريدة التي يمكن أن يوفرها الشتاء كذلك، عندما تظهر أنفاسك على شكل بخار وتنفخ سحابات بيضاء في الهواء وتشعر بألم في أذنيك وأنت تتسلق الجبل بعيداً عن المنحدرات الممهَّدة، وتستخدم زلاجات مغطاة بالفراء، التي لا يتعلق بها سوى الجزء الأمامي من قدميك فقط في الأربطة، وتتزلج بعد تثبيت كعبيك بالزلاجات وسط الثلج العميق... وبينما ترتدي حذاء الثلج يمكنك أن تتنزه فوق مستنقع متجمِّد كنت لتغوص فيه لو كنت في فصل الصيف.
هذا ما يمكن أن نطلق عليه «عالم الشتاء المثالي»، ونعثر عليه في منطقة مغطاة بالثلوج حتى مسافة عميقة ومناظر طبيعية ثلجية متلألئة، ومنازل خشبية وأبراج جرس جذابة وعربة تزلج تجرها الخيول. إذا كنت محظوظاً فستسمع صوت تساقط الثلوج بهدوء حيث يبدو كل شيء مرتباً، فالغطاء الأبيض الناعم الذي يتشكل أحياناً بفعل الريح يكسو كل ما يتحرك. هنا يبدو أن الوقت قد توقف وتتحول الشجرة المنحنية ذات الغطاء الثلجي الضخم إلى تمثال منحوت بطريقة مثيرة، فنهرب من الظلال حيث تُغرينا الشمس الدافئة التي قد تسطع لساعات شحيحة فتصنع بهجة مفاجئة.
ويرى برونر أن الشتاء مريح للحواس فهو يجمع كل شيء في مساحة واحدة ذات إيقاع هادئ، فحتى سطح ندفة الثلج ليس له شكل واحد، كما أن الثلج يمتص الضوضاء بطريقة مدهشة، وهناك كثير من التجاويف في الغطاء الثلجي حتى يكاد الصوت يموت إثر تردده بشكل مستمر. ومع تساقط الثلوج يصبح الجو أهدأ قليلاً مرة أخرى، فهو يزيد من كثافة الغلاف الجوي ويشكل ما يشبه العازل الذي يمنع الموجات الصوتية من اختراق الغلاف الجوي، وهذا يخفِّف من الضوضاء المحيطة بشكل إضافي.
وعلى العكس، حين يحل الشتاء في المدينة فإنه كثيراً ما يكون ضيفاً ثقيلاً، حيث تصير الشوارع غير قابلة للمرور فيها وتصبح طرق المشاة والأرصفة بمثابة منزلقات. توفر عندئذ المنتزهات إطلالة على مناظر طبيعية خلابة ذات حشائش وأشجار مكسوة باللون الأبيض. وفيما عدا ذلك يختلط الثلج بسرعة مع الغبار والأوساخ. لا يكون الثلج في المدينة جميلاً لو لم يُزحه الناس من الطرق، حيث تتمتع المدن بقدرة محدودة على تحمل كتل الثلوج التي تضع بنيتها التحتية موضع الاختبار. يجيد سكان المناطق الحضرية التفكير في الطرق التي ينوون أن يسلكوها قبل مغادرة المنازل الحصينة، ولا يستمتع شباب المدن الكبرى بالشتاء إلا بشكل محدود.
أدرج عالم اللغة النمساوي ألفرد بولجار شوَّاية ثمار الكستناء ضمن المتع المحدودة التي يوفرها الشتاء قائلاً: «إن فرنها الحديدي الصغير المغطى بالبخار والذي يتوهج منه اللون الأحمر يتمتع بجاذبية لدى الأطفال المتجمدين، أبناء طبقة العمال ذوي الملابس الرثة والمتسكعين، على عكس ما يحدث مع الأطفال من الطبقة الأرستقراطية الذين يسيرون وهم يمسكون بأيدي أمهاتهم المعتنيات بأمرهم وأيدي المربيات الذين يتناولون طعاماً جيداً ويرتدون تنانير وقفازات أنيقة».
عندما يفتح ماركو فالدو بطل رواية الأديب الإيطالي إيتالو كالفينو التي تحمل الاسم نفسه، النافذة في صباح شتوي، لا يكاد يصدِّق ما تراه عيناه؛ لم تعد المدينة موجودة، فقد حلَّت محلها قطعة قماش بيضاء. وعندما يصيح في زوجته قائلاً: «ثلج»، يبدو صوته مكتوماً على نحو غير عادي. لقد وضع الثلج بصماته على جميع الأصوات أيضاً، حتى على قدرة إصدار الأصوات، شأنها في ذلك شأن الخطوط والألوان والمناظر، فصارت الأصوات لا تُصدِر اهتزازات في الغرفة المبطنة.
