لطالما انبهر العلماء بالأشخاص الذين يعيشون أكثر من متوسط العمر المتوقع، ويظلون أصحاء حتى في سنواتهم الأخيرة. والآن قام فريق دولي من الباحثين بنشر واحدة من أكثر الدراسات البيولوجية تفصيلاً على الإطلاق، والتي أجريت على امرأة عاشت حتى سن 117 عاماً.
دراسة امرأة معمّرة
تحدّت هذه المرأة، التي يُشار إليها بالمرأة المعمرة في الدراسة، الصعاب من خلال عيشها أكثر من 3 عقود بعد متوسط العمر العالمي دون أن يتم تشخيصها بالسرطان أو الخرف أو غيرهما من الأمراض الرئيسية المرتبطة بالعمر.
وللكشف عن أسرار طول عمرها الاستثنائي أجرى العلماء ما أطلقوا عليه تحليلاً متعدد الجينات؛ حيث فحصوا الجينات والبروتينات والتمثيل الغذائي وبكتيريا الأمعاء وحتى «الساعات البيولوجية» التي تقيس الشيخوخة داخل الجسم.
القرائن الوراثية لطول العمر
كشف التسلسل الكامل لجينوم المرأة المعمرة عن عدد من المتغيرات الجينية النادرة أو الفريدة التي ربما تكون قد حمتها من الأمراض القاتلة الشائعة، مثل أمراض القلب والسكري والاضطرابات العصبية.
ومن المثير للاهتمام أن «التيلوميرات» (telomeres)، وهي أغطية واقية على نهايات الكروموسومات التي تقصر مع تقدم العمر، كانت بالفعل أقصر من تلك الموجودة لدى الأشخاص الأصغر سنّاً، وهي علامة كلاسيكية على الشيخوخة. ومع ذلك فقد ظلت خالية من الأمراض، ما يُشير إلى أن العلامات النموذجية للشيخوخة لا تتنبأ دائماً بالمرض.
كما وجد الباحثون في مجموعة علم التخلق السرطاني بمعهد خوسيب كاريراس لأبحاث سرطان الدم في برشلونة، بإسبانيا، في دراسة نُشرت في مجلة «Cell» بتاريخ 24 سبتمبر (أيلول) 2025، مؤشرات على تكوّن الدم النسيلي (clonal hematopoiesis)، وهي حالة دموية ترتبط عادةً بزيادة خطر الإصابة بالسرطان وأمراض القلب.
ومن اللافت للنظر أن المرأة المعمرة عاشت حتى سن 117 عاماً دون أن تُصاب بهذه الحالات، ما يُظهر أن جسم الإنسان أكثر مرونة مما كان يُعتقد سابقاً.

الجسم الذي حارب الالتهاب
ورسمت اختبارات الدم صورة لصحة استثنائية. وكان لدى المرأة المعمرة مستويات عالية جداً من الكوليسترول «الجيد» (HDL) ومستويات منخفضة بشكل غير عادي من الكوليسترول «الضار» والدهون الثلاثية.
وترتبط هذه الأنماط عادةً بتوفير حماية للقلب والأوعية الدموية. كما أظهرت أيضاً علامات على وجود دفاعات مناعية قوية ومسارات فعالة لإزالة السموم.
وعلى الرغم من أن بعض العلامات كشفت عن تقدمها في العمر الفسيولوجي فإن معظمها يُشير إلى وجود جسم مرن قادر على تحمل البلى لأكثر من قرن من العمر.
دور ميكروبيوم الأمعاء
وجرى ربط صحة الأمعاء بشكل متزايد بالصحة العامة، وقد قدّم ميكروبيوم المرأة المعمرة دليلاً آخر مفاجئاً. فقد أظهرت عينات البراز الخاصة بها مستويات عالية من البكتيريا النافعة، خاصة «البيفيدوباكتيريوم» (Bifidobacterium) المعروفة بدعمها عملية الهضم وتقليل الالتهاب والحماية من الأمراض، إذ تنخفض هذه البكتيريا بشكل حاد مع تقدم العمر لدى معظم كبار السن. ولكن في حالة المرأة المعمرة ربما كانت وفرة هذه البكتيريا أحد أسباب انخفاض الالتهاب وفاعلية عملية الأيض لديها.
أصغر من سنوات عمرها - بيولوجياً
جاءت واحدة من أكثر النتائج اللافتة للنظر من التحليل اللاجيني، فمن خلال فحص العلامات الكيميائية على حمضها النووي، قاس العلماء عمرها البيولوجي. وعلى الرغم من عمرها الزمني، البالغ 117 عاماً، فإن أنسجتها بدت أقرب إلى أنسجة شخص يبلغ من العمر نحو 100 عام. بعبارة أخرى كان عمر جسدها أبطأ من المتوقع.
وهذا يُشير إلى أن طول العمر الاستثنائي لا يتعلق فقط بالعيش لفترة أطول بل يتعلق بفصل الشيخوخة عن المرض. وبالنسبة لحالة المرأة المعمرة فإنها كانت تحمل بعض علامات الشيخوخة البيولوجية، لكنها احتفظت بسمات الشباب في الأنظمة الرئيسية التي تحمي من الأمراض.
مخطط للشيخوخة الصحية
وتوفر هذه الدراسة نافذة فريدة لفهم الكيفية التي يحقق بها بعض البشر طول العمر الاستثنائي؛ فهي لا تشير إلى عامل واحد بعينه، بل تُبرز التفاعل المعقد بين الجينات والتمثيل الغذائي وتوازن الميكروبيوم والوراثة اللاجينية، وهي عوامل تكاملت معاً لتُنتج جسماً يتمتع بمقاومة لافتة للتدهور المرتبط بتقدم العمر.
ويؤكد الباحثون والمؤلف المراسل مانيل إستلر من قسم العلوم الفسيولوجية بكلية الطب والعلوم الصحية، جامعة برشلونة بإسبانيا، أنه في حين لا يحمل الجميع المتغيرات الجينية الوقائية للمرأة المعمرة، فإن عوامل نمط الحياة مثل النظام الغذائي وممارسة الرياضة وصحة الميكروبيوم يمكن أن تؤثر على كيفية تقدم أجسامنا في العمر. كما قد تستلهم العلاجات المستقبلية من هذه النتائج بهدف إبطاء الشيخوخة البيولوجية وإطالة العمر الافتراضي الصحي، أي عدد السنوات التي نعيشها دون الإصابة بأمراض خطيرة.
وكما لاحظ المؤلفون فإن حياة المرأة المعمرة دليل على أنه من الممكن أن نكبر في العمر مع الحفاظ على صحتنا نسبياً، ذلك أن بيولوجيتها تُقدم مخططاً لعمر الإنسان، ما يبعث الأمل في أن يعيش المزيد من الناس في المستقبل ليس فقط لفترة أطول بل أفضل.

