النساء العربيات ومعركة التحرر من قمع الخوارزميات

«تجمّع الباحثات اللبنانيات» يطرح أسئلة عن المرأة والرقمنة

النساء العربيات ومعركة التحرر من قمع الخوارزميات
TT

النساء العربيات ومعركة التحرر من قمع الخوارزميات

النساء العربيات ومعركة التحرر من قمع الخوارزميات

أسئلة طازجة يطرحها الكتاب الجديد الذي صدر عن «تجمع الباحثات اللبنانيات» حول أحوال النساء بعد الانقلابات الاقتصادية والسياسية التي يعيشها العالم، والأهم في ظل التحولات التكنولوجية الهائلة والسريعة. ويسأل الكتاب الذي يحمل عنوان «النساء العربيات والمرجعيات في ظل الرقمنة وفوضى المعلومات»، إن كانت هذه التطورات قد فتحت الباب للمرأة للخروج إلى آفاق أرحب، بالفعل، أم أن الفضاء الافتراضي الذي تديره مجموعات من المحتكرين، وتحركه المصالح، وضع النساء تحت وطأة قيود من نوع آخر، وأعاد تأطير نظرتهن إلى الحياة؟ كما يحاول الكتاب أن يكشف عن مدى استفادة النساء واقعياً من المستجدات التكنولوجية، وكيف أثّرت في حياتهن؟ وكيف تتموضع النساء في الفضاء الافتراضي؟

موضوع واسع وطموح، لكنَّ الباحثات واجهن التحدي وأقبلن على دراسات أنارت زوايا كانت لا تزال مظلمة، خصوصاً أن المساهَمات في الكتاب تأتي من جيلين مختلفين؛ جيل تعامل مع التكنولوجيا باكراً، وآخر انكبّ عليها متأخراً، مما يجعل الرؤية أكثر بانورامية.

في المحور الأول من الكتاب الذي قُسم إلى أربعة محاور، ست دراسات تحت عنوان «مساءلة النساء للمرجعيات وإغراءات الفضاء الرقمي». تستهلها نهوند القادري عيسى، بالتركيز على فهم مدى تعلق النساء بالمرجعيات التقليدية وانفتاحهن في الوقت عينه على الخبرات وشبكات علائقية جديدة، والموازنة الصعبة بين الاثنين، في مرحلة انتقالية، بحيث يصعب التنبؤ بما ستكون عليه حال الجيل الجديد، الذي بدأ يرتبط بشكل أوثق بالشاشة.

اعتمد بحث نهوند القادري عيسى على الاستماع إلى آراء وتجارب عينة من النساء لمعرفة كيف يستخدمن الفضاء الرقمي، ويتعاطين مع واقعهن وقيودهن الاجتماعية، وإلى أي درجة حقق لهن ذلك استقلالية حقيقية.

صحيح أن الفضاء الرقمي سهَّل على النساء الوصول إلى المعلومات، واكتساب خبرات جديدة، وتكوين شبكة علاقات تتخطى الحدود الجغرافية، لكن في الوقت نفسه، ولّد لديهن نوعاً من فقدان الثقة بالمعلومات، وتسبب بشيء من الإرباك. فالمعلومات المتدفقة والمتناقضة، جعلت النساء يتعاملن بحذر أحياناً، وحيرة في أحيان أخرى. ومنهن من تقع ضحية لوصفات جاهزة، أو أفكار متطرفة.

وبالتالي فنحن أمام أشكال جديدة للهيمنة الناعمة، وتشّكل مرجعيات جديدة كالمؤثرين والخبراء، ومدعي المعارف، ممن يمارسون سلطة بديلة عن السلطات التقليدية التي هي في طور التفكك.

وتُرينا الدراسات تفاعلاً تبادلياً بين العالمين الرقمي والواقعي. فسلوكيات النساء وخياراتهن في الفضاء الرقمي تتأثر بواقعهن الاجتماعي، والعكس بالعكس.

باختصار، يخلص هذا المحور إلى أن الفضاء الرقمي ليس أداة للتحرر، بل ساحة معقدة تمنح فرصاً، ولكنها تطرح في الوقت نفسه إشكاليات جديدة حول السلطة والثقة والهوية، مما يستدعي تعاملاً نقدياً وحذراً من النساء.

المنصات عزّزت حضور المرأة في الفضاء العموميّ، ومنحتها الأدوات الفعّالة للمطالبة بحقوقها، لكنها أسهمت أيضاً في إضعافها في الوقت ذاته. فهذه التكنولوجيا لم تغيِّر في طرق الحصول على الأخبار والمعلومات وطبيعتها فقط، بل غيّرت نمط المعيشة والعلاقة بين الأفراد، بالنسبة إلى نصر الدين لعياضي. بينما رأت رفيف صيداوي أن وصول النساء العربيات إلى المعلومات لم يؤدِّ بالضرورة إلى المعرفة المتمنَّاة، بسبب تنشئة ترسخت فيها قيم الجمال الأنثوي والشعور الزائف بالتمكين المتأتي من منطق الاستهلاك.

هكذا فإن آليات تشغيل الخوارزميات فرضت على النساء، اللواتي طمحن إلى الاستفادة من المعرفة الرقمية، والفرص التكنولوجية، نوعاً آخر من السيطرة، تمارسه عليهن الشركات الكبرى، التي حصرت المستخدمين في حلقات محددة، بحيث يبقى المستهلك يدور في فلك من يشاركه الأفكار، مما يعزز الانعزالية الفكرية، ويبعث على خفض مستوى التسامح وتقبُّل الآخر، ويعزز الانقسامات الاجتماعية والشعور بالكراهية، حسبما توصلت إليه بيسان طي.

على الضدّ من ذلك تجد تغريد السميري أن ثمة نماذج إيجابية، وأن المنصات الرقمية تسمح بالتفاعل بين الأجيال، مستدلَّةً بتجربة دلال أبو آمنة في برنامجها «مشوار ستّي»، الذي أعاد التواصل مع ذاكرة الجدات، وضخها بالحياة، عبر الفضاء الرقمي. ونرى بصحبة السميري كيف تتجوَّل النساء بين المدن والأحياء الفلسطينيّة، وتقام اللقاءات والحفلات بين الأهالي وهم يحتفلون بإحياء التقاليد الفنّية والاجتماعيّة، ويستمعون إلى قصص إنسانيّة، في محاولة لاستعادة ما مزَّقه الاحتلال، وربط المناطق بعضها ببعض. تكتب السميري: «هؤلاء الحفيدات استطعن عبر الفضاء الرقمي أن يُعِدن الاعتبار لمرجعيّة الجدّات وأن يُصَدّرن ذاكرتهن عن وطنهن المسلوب إلى العالم».

في المحور الثاني الذي يُعنى بـ«سلوك النساء المعلوماتي وأصواتهنّ في العالم الرقمي»، تعقد مود اسطفان مقارنةً بين الدراسات النسائيّة الأجنبيّة المعنيّة بالسلوك المعلوماتي، والدراسات العربية. وتبيَّن لها أن مقاربات الباحثات الأجنبيات جاءت تجديديّة خارج التقاليد الذكورية السائدة، ولها اهتمامات إنسانية وبالفئات الاجتماعية المهمشة، وهو ما تفتقر إليه دراسات الباحثات العربيّات حول السلوك المعلوماتي في البيئة الرقميّة. إذ ترينا اسطفان أن إسهامات النساء العربيات بقيت محدودة، وأغلبيّتها تبحث في مناطق تقليدية، وتتمحور حول استخدام مصادر المعلومات، لا سيَّما الشبكات الاجتماعيّة، والفوارق الجندريّة.

وتتساءل هاجر خنفير عن تمثلات الأنوثة التي تصنعها المؤثّرات العربيات في الفضاء الرقمي، وتَبيَّن لها أنّه على الرغم ممّا أتاحته لهن التكنولوجيا من تحرر من القيود بقي التغيير محدوداً والسمات التقليديّة للأنوثة ثابتة، تدور في دائرة الاستهلاك، الخاضع لمنطق الربح الذي فرضته الوصاية الرأسماليّة على تلك التقنيات. وإن كانت بعض التصورات النمطية عن الأنوثة انتقلت من كونها الموضوع لأن تصبح هي المنتج نفسه.

ومن خلال دراسة حالة 25 امرأة لبنانية على شبكات التواصل وبمعاينة المحتوى الذي يقدمنه، الذي قُسِّم إلى ثلاث فئات: محتوى المعلومة، ومحتوى الاستعراض الذاتي، ومحتوى الترويج للعلامات التجاريّة. وجدت لمى كحّال أن المعلومات المُستقاة من العلم والخبرة العملية التي تقدمها النساء على الشبكة هي الأمتن رغم اعتماد صانعاتها على صورتهن الشخصيّة. في حين أن المحتوى القائم على الاستعراض الذاتي يكرِّس النموذج النمطي حول جمال المرأة. أما ما يتحكم في محتوى الترويج، فهي الماركات التجاريّة. وتلحظ كحّال أنه رغم صعوبة الواقع اللبناني، ثمة غياب مدوٍّ للقضايا الكبرى عن المحتوى النسائي. وتخلص إلى أن صانعات المحتوى لا يلتفتن إلى الواقع وما يشوبه من حروب ولا حتّى إلى قضايا النساء ومشكلاتهنّ في لبنان. مما يعني أن هاجس الربح المادّي السريع هو أحد العوامل الرئيسية المُؤَثّرة بعملهن.

في حين تدرس دينا الخواجة حالة عشرين امرأة مصرية، وتتبع تفاعلهن مع حرب غزة، لتخلص إلى أن النساء ابتعدن عن التسييس، وتمكنَّ من تفادي الخسارة المادية ورقابة الخوارزميات، وتعاطين مع هذه الكارثة من منطلقات إنسانيّة ودينية، ووجدن أنفسهنّ أمام ضرورة تطوير أدوات تضامنهنّ، في ظل حرب الإبادة، لتجييش المشاعر، وجمع التبرعات، وحشد التأييد، من منطلقات دينية وإنسانية، بعيداً عن التسييس، متهرباتٍ من التضييق السياسي.

أما رانية جواد ومادلين الحلبي فتركَّز اهتمامهما على شهادات الفلسطينيات الحية، التي روينها من خلال شبكات التواصل. قصص روت عمق المعاناة اليوميّة. النساء الغزَّيات في رواياتهن تحايلن على سياسات المنع، وفي المساحة الممكنة من استخدام شبكة الإنترنت، سردن يومياتهن، مستغلات كلّ دقيقة إنترنت قبل أن يقرر الاحتلال عزلهن عن العالم. هكذا أصبحت شبكة الإنترنت مكاناً للحصول على الدعم النفسي ومصدراً لتبادل المعلومات والاطمئنان على الأقارب، وكذلك توثيق الارتكابات والمجازر التي تغيب عن وسائل الإعلام. خلصت الباحثتان إلى أن المنصّات صارت أداةً للتوثيق والمقاومة في وجه الإبادة والعنف الاستعماري، وفعل مواجهة.

«تحدِّيات تفلُّت النساء من المرجعيَّات في البيئة الرقميَّة» هو عنوان المحور الثالث، حيث ضاعفت التكنولوجيا مشكلةَ البطالة، وأحدثت شرخاً بين شرائح المجتمع، وباعدت بين المستجد والثقافة التقليديّة، وأعلت من شأن الفردانية، وطغت ثقافة الاستهلاك. عزّة سليمان تجد أن النساء ُفعّلنَ وجودهنّ من خلال أدوات الثورة الرقميّة، من جهة، لكنهن وجدن أنفسهنّ ضحايا لأدوات السوق، من جهة أخرى، مما حولهن إلى أدوات، أكثر من كونهن عنصراً فاعلاً.

وحول الاقتصاد الرقمي ودوره في التنمية، تطرح زهور كرّام، من المغرب، أسئلة حول إذا ما أمكن تحقيق التوازن بين استثمار التكنولوجيا والمحافظة على خصوصيات النسق المجتمعي المغربي، وتخلص كزميلاتها الباحثات في الكتاب إلى أن الرقميّة قد تسهم في دمقرطة فرص العمل للنساء، لكنها في الوقت عينه تطرح تحدّيات جديدة عليهن.

إصلاح جاد تحاول أن تفهم أسباب نجاح جهات دينية في تأليب الرأي العام على منظمات حقوق المرأة، وتحديداً تلك التي حاولت التسويق لاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو). تعتمد الدراسة على مراجعة رسائل وسائل التواصل الاجتماعيّ للمشاركات في الترويج للاتفاقيّة وكذلك الرسائل المضادة لها التي شهَّرت بالاتفاقية، وحصدت التعاطف والتأييد.

ويخلص البحث إلى أن نجاح هؤلاء في التأثير في الرأي العام، يعود إلى تجاهل الوضع الخاص في فلسطين. إذ ركزت الاتفاقية بشدّة على حقوق المرأة والطفل، فيما تم تجاهل حقوق الشعب بأكمله، مما جعل الطرح غير مقنع.

ويُختم الكتاب بفصل رابع فيه شهادات حية لنساء تروين تجاربهن حول اهتزاز المرجعيات وانعدام اليقين عند النساء. النساء الغزَّيات تحايلن على سياسات المنع فسردن يومياتهن على الإنترنت قبل أن يعزلهن الاحتلال عن العالم


مقالات ذات صلة

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

ثقافة وفنون هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية.

ندى حطيط
ثقافة وفنون إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

يواصل الكاتب المسرحي والروائي ماجد الخطيب، في الجزء الثاني من «ملصقات بيروت»، سرد سيرته الشخصية في بيروت، المبتلية بالحرب،

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

تشكل «الحزام» مفخرة ليس فقط لأحمد أبو دهمان وإنما للأدب السعودي الحديث كله بل وللآداب العربية بأسرها لقد أتاح لي الحظ أن أتعرف على أحمد أبو دهمان لأول مرة

هاشم صالح

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.


حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع
TT

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه، على أهمية النظرة الجماعية للأدب بين التسلية والعمق والدلالات الخطيرة التي تكمن وراء طبيعة نظرة شعب من الشعوب له، وفق هذا المنظور أو ذاك.

ويؤكد العقاد أن اعتبار الأدب أداة لهو وتسلية هو الذي يصرفه عن رسالته العظيمة في فهم النفس البشرية والتعبير الصادق عن الحياة، وغيرهما من عظائم الأمور، ويسقطه في هوة البطالة والفراغ، فينشر حالة من اللامبالاة تجاه الذات والآخرين: «فماذا يُرجى من الفراغ غير السخف والسطحية في النظر للأشياء، فضلاً عن لهو الحديث وافتقاد المعنى؟ وبالتالي يصغي إليه الناس حين يصغون كأنما يستمعون إلى طفل ينطق الكلمات بخطأ مضحك، ويلثغ بالألفاظ المحببة إلى أهله، فلا يحاسبونه على كذب، ولا يطالبونه بطائل في معانيه، ولا يعولون على شيء مما يقوله».

ويذكر العقاد أنه إذا بالغ الأديب في مدح أو هجاء، أو جاوز الحد في صفة من الصفات؛ فمسح الحقائق، ونطق بالهراء، وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة، وخلط بين الصواب والخطأ... غفروا له خطأه وقالوا: لا عليه من بأس، أليس الرجل شاعراً؟ ولو أنصفوا لقالوا: أليس الرجل هازلاً؟ وإنهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم، ولا يرون بينها وبين الأولى فرقاً؛ لأن الهزل والشعر هما في عرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد، ما دام الأدب أداة لهو وتسلية!

ومن شاء التحقق والتثبت من ذلك في تواريخ الآداب، بحسب العقاد، فليرجع إلى تاريخ الأدب في لغتنا العربية، ولينظر في أي عهد هبط بقوة. إنه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية، ولا في عهد الدولة الأموية، ولكنه هبط وتطرق إليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية؛ أي في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تُحمل إلى الملوك والأمراء لإرضائهم وتسليتهم ومنادمتهم في أوقات فراغهم، وكان أول ما ظهر من عيوبه الشطط والمبالغة والطي والنشر والتوشيع وسائر ما تجمعه كلمة «التصنّع». وهذه العيوب التي تجتمع في هذه الكلمة هي في الإجمال الحد الفارق بين الأدب المصنوع والأدب المطبوع، وما نشأ شيء منها إلا حين تحول إلى أداة تستهدف إرضاء فئة خاصة.

ويتابع العقاد: «هكذا كان الشأن في اللغات كافة، فإن انحطاط الآداب في جميع اللغات إنما كان يبدأ في عصور متشابهة هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على إرضاء طائفة محدودة، يعكف على تملقها والتماس مواقع أهوائها العارضة وشهوات فراغها المتقلبة، فتكثر فيه الصنعة والافتعال وتقل الموهبة، فيضعف وينحدر إلى حضيض الابتذال، ثم يجمد على الضعف والإسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتُخرجه من ذلك النطاق الضيق إلى أفق واسع منه وأعلى لاتصاله بشعور الأمم على العموم»، لافتاً إلى أن «هذا ما حدث في الأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر حين شاعت فيه الحذلقة وغلبت التورية والجناس والكناية وغيرها من عيوب الصنعة، ثم بقي على هذه الحال من الضعف والسقوط حتى أدركته بوادر الثورة الفرنسية، فانتشلته من سقوطه بعد اتصاله بشعور الأمة مباشرة دون وساطة الطوائف المتطرفة. وبالتالي يجب أن يفهم أبناء هذا الجيل والأجيال أن الأمم التي تصلح للحياة وللحرية لا يجوز أن يكون لها غير أدب واحد، وهو الأدب الذي ينمي في النفس الشعور بالحرية والحياة».