الذكاء الاصطناعي يتنبأ بمستقبلك الصحي… قبل أن تمرض بـ20 عاماً

نموذج «دلفي-2 إم» يرسم خريطة الأمراض قبل وقوعها... ويعيد تعريف الطب الوقائي عالمياً

نموذج ذكاء اصطناعي جديد يتمتع بقدرة استثنائية على التنبؤ بأكثر من ألف مرض
نموذج ذكاء اصطناعي جديد يتمتع بقدرة استثنائية على التنبؤ بأكثر من ألف مرض
TT

الذكاء الاصطناعي يتنبأ بمستقبلك الصحي… قبل أن تمرض بـ20 عاماً

نموذج ذكاء اصطناعي جديد يتمتع بقدرة استثنائية على التنبؤ بأكثر من ألف مرض
نموذج ذكاء اصطناعي جديد يتمتع بقدرة استثنائية على التنبؤ بأكثر من ألف مرض

في خطوة غير مسبوقة تقرِّب الطب خطوة حقيقية من «قراءة المستقبل»، أعلن فريق بحثي من «مدرسة وُروِك للأعمال (Warwick Business School)» بجامعة وُروِك في المملكة المتحدة، بالتعاون مع جامعة نيويورك، تطوير نموذج ذكاء اصطناعي جديد يتمتع بقدرة استثنائية على التنبؤ بأكثر من ألف مرض يمكن أن يُصاب بها الإنسان خلال العقود المقبلة، مع تحديد المرض التالي المحتمل، وموعد ظهوره على مدى زمني قد يمتد إلى 20 عاماً.

هذا النموذج، الذي يحمل اسم «دلفي-2 إم (Delphi-2M)»، لا يقتصر على رصد المخاطر الصحية التقليدية كما تفعل الأدوات الإحصائية المعتادة، بل يستخدم بنيةً خوارزميةً متقدمةً قادرةً على تحليل المسار الصحي الكامل للإنسان عبر الزمن، لتقديم ما يشبه «الخريطة المستقبلية» لصحة الفرد.

وقد نُشرت نتائج هذا الابتكار في مجلة «نيتشر ميديسن (Nature Medicine)» بتاريخ 1 أكتوبر (تشرين الأول) 2025، في دراسة وُصفت من قبل خبراء بأنها نقطة تحول مفصلية في مسار الطب التنبؤي (Predictive Medicine)، إذ تنقل الرعاية الصحية من مرحلة التدخل العلاجي المتأخر إلى مرحلة الوقاية الاستباقية، حيث يمكن للأطباء والأنظمة الصحية التدخل قبل ظهور المرض بسنوات، وربما إنقاذ حياة ملايين البشر.

الفريق البحثي

شارك في إعداد هذه الدراسة 3 من أبرز الباحثين في مجالَي الذكاء الاصطناعي، والابتكار الطبي.

الأولى هي الباحثة ناتاليا ليفينا، أستاذة في مدرسة وُروِك للأعمال، وباحثة زائرة في جامعة نيويورك، وتُعرف بأعمالها الريادية في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي المفتوحة وتطبيقاتها في البيئات التنظيمية المعقدة، بما في ذلك القطاع الصحي.

أما البروفسورة هيلا ليفشيتز-أساف، فهي من الأسماء البارزة في دراسة تفاعل الإنسان مع الخوارزميات في السياقات الطبية والعلمية، وقد أسهمت أبحاثها في تطوير أطر أخلاقية وتنظيمية لدمج الذكاء الاصطناعي في اتخاذ القرار السريري.

ويأتي البروفسور جواو سيدوك، أستاذ علوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي في جامعة نيويورك، كأحد المتخصصين في بنية الشبكات العميقة (Deep Learning Architectures)، خصوصاً نماذج المحولات (Transformer Models)، وهو صاحب مساهمات مهمة في تطوير خوارزميات قادرة على تحليل بيانات طبية معقدة زمنياً وبُعدياً، وهو الجانب المحوري في بناء نموذج «دلفي-2 إم (Delphi-2M)».

يمثّل هذا الثلاثي البحثي مزيجاً فريداً يجمع بين العمق التقني في الذكاء الاصطناعي، والفهم المؤسسي والتنظيمي للرعاية الصحية، والرؤية المستقبلية لكيفية إعادة تشكيل الطب بواسطة الخوارزميات الذكية.

كيف يعمل نموذج «دلفي-2 إم»

اعتمد الفريق البحثي على بيانات 403000 شخص من «المصرف الحيوي البريطاني (UK Biobank)»، وهي واحدة من أكبر قواعد البيانات الطبية في العالم، لتدريب نموذج الذكاء الاصطناعي على التنبؤ بالمرض التالي المتوقع وموعد ظهوره على مدى زمني طويل.

استند النموذج إلى مجموعة من العوامل الأساسية، من بينها الجنس عند الولادة (Sex at Birth)، ومؤشر كتلة الجسم (BMI)، وعادات التدخين وتناول الكحول، بالإضافة إلى التاريخ المرضي الزمني لكل فرد.

بعد التدريب، حقَّق النموذج دقة نظرية بلغت 0.7 من منحنى المساحة تحت المنحنى (AUC – Area Under the Curve)، أي ما يعادل دقة بنحو 70 في المائة عبر مختلف فئات الأمراض.

الذكاء الاصطناعي يقتحم مجال التنبؤ بالأمراض (رويترز)

وللتأكد من قوة النموذج، تم اختباره لاحقاً على بيانات «المصرف الحيوي الدنماركي (Danish Biobank)»، وأظهر أداءً مماثلاً، مما يعزِّز قدرته على التنبؤ الصحي عبر بيئات طبية مختلفة.

الابتكار التقني

يكمن سر قوة نموذج «دلفي-2 إم (Delphi-2M)» في بنيته الخوارزمية المتطورة، إذ يعتمد على ما تُعرف بشبكة المحوّل (Transformer Network)، وهي التقنية نفسها التي تقوم عليها النماذج اللغوية العملاقة مثل «تشات جي بي تي (ChatGPT)».

لكن بدلاً من تحليل الكلمات والجُمل، تم تعديل هذه البنية لتتعامل مع «الخط الزمني الصحي» لكل إنسان، فتقرأ تسلسل الأمراض والظروف الصحية على مرِّ السنين، وتحاول استنتاج ما يمكن أن يحدث مستقبلاً، ومتى.

تُشبه هذه العملية إلى حد كبير قراءة قصة حياة طبية مكتوبة على صفحات سجلات المريض، لكن ليس بعين طبيب واحد، بل بعقل خوارزمية تتعلم من ملايين القصص الأخرى في آنٍ واحد. هذا ما يتيح للنموذج اكتشاف أنماط معقدة قد لا يلاحظها الأطباء بسهولة، مثل الترابط بين أمراض بعيدة ظاهرياً عن بعضها، أو تسلسل أحداث مرضية نادرة.

وقد تفوّق «دلفي-2 إم» على أدوات أخرى مثل نموذج «ميلتون (Milton)»، الذي يعتمد على تقنيات تعلم الآلة التقليدية (Traditional Machine Learning). فبينما يحتاج «ميلتون» إلى كميات أكبر من البيانات ليحقق دقة أقل، استطاع «دلفي-2 إم» تحقيق نتائج أفضل باستخدام بيانات أقل، بفضل قدرته على التركيز الذكي، والتعلم من العلاقات الزمنية المعقدة بين الأمراض.

بمعنى آخر، لم يعد الأمر مجرد جمع بيانات طبية متفرقة، بل أصبح أشبه ببناء «ذاكرة اصطناعية» واسعة النطاق، قادرة على ربط الماضي بالحاضر لاستشراف المستقبل الصحي للفرد بدقة غير مسبوقة. هذه الذاكرة لا تكتفي بتخزين المعلومات، بل تتعلم منها باستمرار، لتتعرف على أنماط دقيقة قد تفوت حتى على أكثر الأطباء خبرة.

نموذج مفتوح المصدر يحمي الخصوصية

من أبرز ما يميز نموذج «دلفي-2 إم (Delphi-2M)» أنه لا يُعدّ مجرد أداة تنبؤية متقدمة، بل يمثل أيضاً نقلةً نوعيةً في كيفية إتاحة المعرفة الطبية بشكل آمن ومفتوح. فقد صممه الباحثون بحيث يمكن نشره بوصفه مصدراً مفتوحاً (Open Source)، أي أن المؤسسات البحثية أو الطبية حول العالم يمكنها استخدامه وتطويره بحرية، من دون الاضطرار للوصول إلى البيانات الأصلية الحساسة للمشاركين.

صورة مركبة عن الذكاء الاصطناعي (رويترز)

ولتحقيق ذلك، لجأ الفريق إلى تقنية البيانات التركيبية (Synthetic Data)، وهي بيانات يتم توليدها بواسطة خوارزميات ذكية لتُشبه في خصائصها البيانات الحقيقية من حيث التوزيعات والأبعاد والأنماط، لكنها لا تحتوي على أي معلومات شخصية فعلية. وبهذه الطريقة، يمكن للباحثين في أي مكان أن يدربوا النموذج أو يختبروا أداءه دون تعريض خصوصية المرضى للخطر، مع الحفاظ على مستوى الدقة التنبؤية نفسه تقريباً.

إضافة إلى ذلك، يتميز «دلفي-2 إم» بأنه خفيف في استهلاك موارد الحاسب الإلكترونية مقارنة بالنماذج التقليدية، إذ لا يتطلب حواسيب فائقة أو مراكز بيانات ضخمة لتدريبه وتشغيله. وهذا يفتح الباب أمام استخدامه حتى في البيئات البحثية أو الصحية التي لا تمتلك بنية تحتية متقدمة، مثل الجامعات والمستشفيات في الدول النامية، مما يعزِّز مبدأ عدالة الوصول إلى التقنيات الصحية المتقدمة.

وعود كبيرة... وأسئلة صعبة

رغم القوة التنبؤية المذهلة لنموذج «دلفي-2 إم (Delphi-2M)»، فإن استخدامه في العيادات والمستشفيات لا يزال في مراحله المبكرة، ولا يمكن اعتباره بديلاً للقرار الطبي الإكلينيكي بعد. فالنموذج صُمِّم أساساً لإظهار الإمكانات الهائلة للبنية الخوارزمية، وليس ليُستخدَم فوراً مع المرضى.

إحدى القضايا الجوهرية التي يثيرها هذا الابتكار، هي مدى تمثيل البيانات للسكان غير الأوروبيين، إذ إن النموذج دُرّب بالأساس على بيانات من المملكة المتحدة والدنمارك، ما يعني أن خصائصه قد لا تنطبق بدقة على مجتمعات ذات خلفيات وراثية أو أنماط حياة مختلفة، مثل المجتمعات العربية أو الآسيوية أو الأفريقية. كما أن تكييف النموذج مع أنظمة صحية متعددة - بعضها يعتمد على سجلات مركزية، وأخرى على شبكات خاصة متفرقة - يُعدّ تحدياً تقنياً وإدارياً في آنٍ واحد.

ولتبسيط الفكرة، يمكن تخيّل المثال الآتي:

لو أن امرأة في الأربعين من عمرها، تعيش في الرياض، ولديها تاريخ عائلي للإصابة بأمراض القلب، أدخلت بياناتها الصحية في نسخة مطورة من هذا النموذج بعد 10 سنوات من الآن، فقد يتنبأ النموذج باحتمال مرتفع لإصابتها بجلطة قلبية خلال 12 إلى 15 عاماً. عندها يستطيع الطبيب التدخل مبكراً بخطة غذائية وعلاج وقائي، وربما تغيير جذري في نمط الحياة. هذه القدرة على «التحذير المبكر» هي ما يجعل هذه التقنية واعدة إلى حد كبير، لكنها في الوقت نفسه تفتح الباب أمام أسئلة حساسة:

مَن يحق له الاطلاع على هذه التنبؤات؟

وكيف نضمن ألا تُستخدَم ضد المريض في مجالات مثل التأمين أو التوظيف؟

وهل سيصبح كل إنسان مطالباً بمعرفة مستقبله الصحي، حتى لو لم يكن مستعداً نفسياً لذلك؟

كما أن إدخال البيانات الشخصية مستقبلاً سيُحسّن دقة التنبؤات دون شك، لكنه يثير في المقابل تحديات أمنية وأخلاقية معقدة تتعلق بحماية الخصوصية، وضمان ألا تتحول هذه التقنية من أداة إنقاذ إلى أداة مراقبة أو تمييز.

وفي الختام:

قد لا يكون «دلفي-2 إم (Delphi-2M)» جاهزاً بعد ليصبح طبيب المستقبل الذي يهمس في أذن الإنسان بما سيصيبه قبل أن يمرض، لكنه دون شك يمهّد الطريق لعصر جديد من الطب التنبؤي، حيث تصبح المعرفة الصحية المستقبلية جزءاً من قرار الإنسان اليوم. لقد اعتاد الطب عبر التاريخ أن يلاحق المرض بعد ظهوره، أما اليوم فنحن أمام تحول جذري: من مداواة الماضي إلى استبصار المستقبل.

هذا التحول يثير أسئلة تتجاوز التقنية والطب، لتدخل في صميم الفلسفة والاختيار الإنساني. فهل نحن مستعدون نفسياً وأخلاقياً لمعرفة ما ينتظرنا؟ وهل يمكن أن تتحول هذه المعرفة إلى عبء بدل أن تكون فرصة؟ إن امتلاك «مرآة للمستقبل» لا يعني بالضرورة أننا سنحسن استخدامها. فالمعرفة التي لا يرافقها وعي يمكن أن تصبح مصدر قلق أو تمييز أو سوء استخدام.

في جوهر الأمر، لا تكمن القيمة الحقيقية لهذا الابتكار في الخوارزمية ذاتها، بل في الإنسان الذي يقرر كيف يتعامل مع هذه الرؤية المستقبلية. فالذكاء الاصطناعي لا يفرض مصيراً، بل يرسم احتمالات. وبين الاحتمال والقدر مساحة واسعة من الإرادة الإنسانية، يمكن فيها للطبيب والمريض والمجتمع أن يعيدوا صياغة علاقتهم بالمرض والوقاية والحياة نفسها.

وكما قال الفيلسوف سقراط: «اعرف نفسك، تعرفْ مستقبلك». واليوم، بفضل هذه النماذج التنبؤية، أصبح بإمكاننا أن نعرف أنفسنا على مستوى أعمق مما تصوّر القدماء. إنها ليست مجرد معرفة طبية، بل معرفة وجودية تدفعنا إلى إعادة التفكير في علاقتنا بالزمن، بالجسد، وبالاختيار الحر.

فالخوارزميات قد تفتح لنا نافذة على المستقبل، لكنها لا تغلق باب القرار. هذا الباب سيبقى دوماً في يد الإنسان.


مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي الصيني يجذب المستثمرين وسط مخاوف «فقاعة وول ستريت»

الاقتصاد علم الصين فوق لوحة إلكترونية تحمل شعار «صنع في الصين» (رويترز)

الذكاء الاصطناعي الصيني يجذب المستثمرين وسط مخاوف «فقاعة وول ستريت»

يزيد المستثمرون العالميون من رهاناتهم على شركات الذكاء الاصطناعي الصينية، متوقعين نجاح نماذج عدة قادمة على غرار «ديب سيك».

«الشرق الأوسط» (نيويورك-هونغ كونغ)
تكنولوجيا ألعاب الأطفال المدعومة بالذكاء الاصطناعي... تخرج عن السيطرة

ألعاب الأطفال المدعومة بالذكاء الاصطناعي... تخرج عن السيطرة

خبراء يدعون إلى مقاطعة شرائها

كريس ستوكل - والكر (واشنطن)
الاقتصاد سفينة شحن في ميناء كيلونغ بتايوان (رويترز)

بفضل «الذكاء الاصطناعي».. صادرات تايوان تسجل أسرع نمو في 5 سنوات

شهدت طلبات التصدير التايوانية في نوفمبر (تشرين الثاني) أسرع وتيرة نمو منذ نحو خمس سنوات، مدفوعة بالطلب المتزايد على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (تايبيه)
الاقتصاد متداول يراقب شاشات تعرض مؤشرات الأسهم في بورصة نيويورك (إ.ب.أ)

العقود الآجلة الأميركية تصعد مع تجدد الحماس للذكاء الاصطناعي

افتتحت العقود الآجلة لمؤشرات الأسهم الأميركية أسبوع التداول القصير بسبب عطلة عيد الميلاد على ارتفاع مدفوعة بصعود أسهم التكنولوجيا

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
الاقتصاد الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات وإيلون ماسك خلال اللقاء في أبوظبي بحضور الشيخ حمدان بن محمد بن راشد (وام)

ماسك يلتقي قادة الإمارات لبحث فرص الذكاء الاصطناعي

بحث الملياردير الأميركي إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركات تعمل في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، مع قيادة دولة الإمارات آفاق التعاون في الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)

دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
TT

دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة

لطالما كان توقيت وصول الإنسان الحديث إلى أستراليا وكيفية حدوث ذلك واحداً من الأسئلة المثيرة في تاريخ البشرية. وتشير دراسة جينية جديدة إلى أن البشر وصلوا إلى القارة القديمة المعروفة باسم «ساهول» قبل نحو 60 ألف عام، وقد سلكوا في ذلك مسارَيْن مختلفَيْن عبر البحر، في واحدة من أقدم الأدلة المعروفة على الملاحة البحرية المتعمدة.

وقد نُشرت نتائج الدراسة في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 بمجلة «Science Advances»، إذ دعّمت ما يُعرف بفرضية «التسلسل الزمني الطويل» التي تفترض أن أولى موجات الاستيطان البشري في أستراليا حدثت قبل ما بين 60 و65 ألف سنة، وليس في فترة لاحقة، كما افترضت بعض النظريات السابقة.

قارة قديمة ونقاش طويل

كانت «ساهول» (Sahul) قارة واحدة تضم ما يُعرف اليوم بأستراليا وغينيا الجديدة وتسمانيا. ومع ارتفاع مستويات البحار بعد العصر الجليدي الأخير قبل نحو 9 آلاف عام انفصلت هذه اليابسة إلى القارات والجزر الحالية.

وعلى مدى عقود اختلف العلماء حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى هذه المنطقة، ففي حين افترضت بعض الدراسات وصولاً متأخراً نسبياً قبل نحو 47 إلى 51 ألف عام، قدمت الدراسة الجديدة أدلة قوية على استيطان أقدم بكثير.

ويقول عالم الآثار كريستوفر كلاركسون، من جامعة غريفيث في أستراليا الذي لم يشارك في الدراسة، إن هذه أول دراسة شاملة تربط بين علم الآثار والوراثة والمناخ والملاحة البحرية، وتقدم حجة قوية للغاية حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى أستراليا.

تتبع الأصول عبر خط الأم

وقد اعتمد الباحثون على نوع خاص من الحمض النووي (دي إن إيه) DNA يُعرف بالحمض النووي للميتوكوندريا، الذي يُورث غالباً من الأم فقط. وتُعد هذه المادة الوراثية أداة مهمة لتتبع السلالات البشرية عبر آلاف الأجيال.

وحلل الفريق الجينومات الميتوكوندرية لنحو ألف شخص معظمهم من السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة إلى جانب نحو 1500 جينوم منشور سابقاً. ومن خلال تتبع الطفرات الوراثية الصغيرة تمكّن الباحثون من إعادة بناء سلالات بشرية قديمة تعود إلى نحو 60 ألف عام.

مساران للهجرة نحو «ساهول»

ومن أبرز نتائج الدراسة أن البشر الأوائل لم يصلوا إلى «ساهول» عبر طريق واحد فقط بل عبر مسارَين مختلفين في الفترة الزمنية نفسها تقريباً.

كما يرجّح الباحثون أن إحدى المجموعتَين سلكت مساراً شمالياً عبر ما يُعرف اليوم بالفلبين وشرق إندونيسيا، في حين جاءت مجموعة أخرى عبر مسار جنوبي انطلقت فيه من جنوب شرق آسيا القارية مع عبور مساحات من البحر المفتوح.

وتشير النتائج إلى أن معظم السلالات الحية اليوم بين السكان الأصليين لأستراليا وغينيا الجديدة تعود إلى أسلاف اتبعوا المسار الشمالي.

ويقول عالم الآثار، آدم بروم، من جامعة غريفيث الأسترالية الذي لم يشارك أيضاً في الدراسة، إن هذه النتائج تقدم دعماً قوياً لفكرة أن المسار الشمالي كان المفتاح في الاستيطان الأول لأستراليا، مشيراً إلى اكتشافات حديثة لفنون كهوف قديمة جداً في إندونيسيا تدعم هذا الطرح.

أصل أفريقي واحد

وعلى الرغم من اختلاف المسارات تشير الدراسة إلى أن المجموعتَين تنحدران من سلالة بشرية واحدة خرجت من أفريقيا قبل نحو 70 إلى 80 ألف عام. ويُعتقد أن هذا الانقسام حدث في جنوب أو جنوب شرق آسيا قبل 10 إلى 20 ألف عام من الوصول إلى «ساهول».

ويؤكد الباحث المشارك في كلية العلوم التطبيقية بجامعة هدرسفيلد في المملكة المتحدة، مارتن ريتشاردز، أن السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة يمتلكون أقدم سلالة بشرية متصلة خارج أفريقيا دون انقطاع.

دليل مبكر على الملاحة البحرية

ولا تقتصر أهمية الدراسة على الجانب الجيني فحسب، بل تسلط الضوء أيضاً على القدرات التقنية للإنسان القديم، فالوصول إلى «ساهول» تطلّب عبور مسافات طويلة من البحر المفتوح حتى في فترات انخفاض مستوى سطح البحر.

وتقول الباحثة المشاركة هيلين فار، من مركز علم الآثار البحرية بقسم الآثار في جامعة ساوثهامبتون بالمملكة المتحدة، إن هذه الرحلات لم تكن نتيجة انجراف عشوائي بل دليل على استخدام القوارب والقيام برحلات بحرية محددة ومقصودة قبل نحو 60 ألف عام.

إعادة رسم تاريخ الهجرة البشرية

وتشير هذه النتائج مجتمعة إلى أن الإنسان الحديث كان أكثر قدرة على التخطيط والتنقل والاستكشاف عما كان يُعتقد سابقاً، وأن استيطان أستراليا لم يكن حدثاً واحداً بسيطاً بل عملية معقدة شاركت فيها مجموعات متعددة ومسارات مختلفة.

ومع استمرار تطور تقنيات تحليل الحمض النووي واكتشاف مواقع أثرية جديدة يتوقع العلماء أن تتضح صورة أكثر دقة عن بدايات انتشار الإنسان الحديث حول العالم، لتؤكد أن أستراليا كانت من أوائل محطات هذه الرحلة البشرية الكبرى.


اكتشاف علمي لأحد «محركات» سرطان البروستاتا... يمهد لعلاجات أكثر دقة

طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا
طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا
TT

اكتشاف علمي لأحد «محركات» سرطان البروستاتا... يمهد لعلاجات أكثر دقة

طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا
طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا

في خطوة علمية قد تغيِّر أسلوب فهمنا لسرطان البروستاتا وتشخيصه وعلاجه، كشف باحثون من معهد «آرك» وجامعة «كاليفورنيا»، ومركز «فريد هاتشينسون للسرطان» في واشنطن بالولايات المتحدة، عن منظِّم غير متوقع لمسار مستقبل الأندروجين، وهو بروتين لم يحظَ سابقاً بكثير من الاهتمام، وكان يُعتقد أنه مجرد إنزيم بسيط ضمن مسار تصنيع البروستاغلاندين (prostaglandin).

وجاء هذا الكشف الذي نُشر في مجلة «Nature Genetics» في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، نتيجة فحص شامل للجينوم باستخدام «تقنية كريسبر»، وأعاد تعريف الدور البيولوجي لبروتين «PTGES3» كما فتح الباب أمام فئة جديدة محتملة من العلاجات لسرطان البروستاتا المقاوم للعلاج الهرموني.

نافذة على بيولوجيا الورم

يعتمد سرطان البروستاتا على نشاط مفرط لمستقبِل الأندروجين، وهو بروتين ينظِّم نمو الخلايا استجابة لهرمونات الذكورة.

ولفهم الجينات التي تُبقي هذا المستقبِل نشطاً، طوَّر الباحثون نموذجاً متقدماً لخلايا سرطانية يحمل وسماً فلورياً (fluorescent tag) (هو جزيء مرتبط كيميائياً للمساعدة في اكتشاف جزيء حيوي، مثل البروتين أو الأجسام المضادة أو الأحماض الأمينية) يضيء تبعاً لكمية مستقبِل الأندروجين داخل الخلية، ما سمح بتتبُّعه بدقة لحظة بلحظة.

وبالاستفادة من «تقنية كريسبر» عطَّل العلماء آلاف الجينات واحداً تلو الآخر لاكتشاف الجينات التي يعتمد عليها مستقبِل الأندروجين ليبقى مستقراً وموجوداً داخل الخلية.

ثم جاءت النتائج لتؤكد دور جينات معروفة، مثل HOXB13 وGATA2 لكنها كشفت أيضاً مفاجأة كبيرة في PTGES3 وهو بروتين لم يكن محسوباً ضمن قائمة اللاعبين الرئيسيين في هذا المسار.

* لماذا يُعد PTGES3 اكتشافاً مهماً؟ على خلاف البروتينات المماثلة له لم يكن تأثير PTGES3 مرتبطاً بوظيفته المفترضة كإنزيم. بل ظهر أنه يؤدي دوراً مزدوجاً في دعم مستقبل الأندروجين؛ إذ إنه يعمل كمرافق بروتيني Co-chaperone داخل السيتوبلازم ما يساعد على استقرار مستقبل الأندروجين ويمنع تدهوره. ويعمل أيضاً كعامل مساعد داخل النواة؛ حيث يعزز قدرة المستقبل على الارتباط بالحمض النووي وتشغيل الجينات التي تغذي نمو الورم.

وهذا الدور الثنائي يجعل هذا البروتين كأحد «محركات» سرطان البروستاتا التي تعتمد عليها الخلايا السرطانية لمواصلة النمو والانتشار.

آفاق جديدة لعلاج السرطان

• من المختبر إلى المرضى: عند تحليل بيانات مئات المرضى وجد الباحثون أن ارتفاع مستويات PTGES3 يرتبط بانخفاض فعالية العلاج الهرموني، وهو مؤشر مبكر على مقاومة الورم.

وعند اختبار تعطيل هذا البروتين في فئران مصابة بسرطان البروستاتا انخفضت مستويات مستقبل الأندروجين، وتباطأ نمو الورم بشكل كبير، وهو دليل إضافي على دوره الحاسم واستحقاقه أن يكون هدفاً دوائياً جديداً.

ويقول الباحث الرئيسي لوك غيلبرت (وهو باحث رئيسي في معهد «آرك» وأستاذ مشارك في جراحة المسالك البولية في كلية الطب بجامعة «كاليفورنيا») إن هذا العمل يبرهن على قوة الفحص الجيني غير المنحاز عبر «تقنية كريسبر» وقدرتنا على اكتشاف وظائف جديدة لبروتينات ظنَّ العلماء أنهم يعرفونها جيداً.

• تطوير أدوية علاجية: تستهدف العلاجات الحالية مستقبل الأندروجين مباشرة؛ سواء بتقليل الهرمونات الذكرية أو بحجب قدرة المستقبِل على الوصول إلى الحمض النووي.

لكن النتائج الجديدة تقدِّم استراتيجية مختلفة تكمن بالتدخل في استقرار مستقبل الأندروجين نفسه، عبر التأثير على البروتينات التي تحميه وترافقه ومن ضمنها PTGES3.

ويقول الباحث الأول هاولونغ لي من مركز «فريد هاتشينسون للسرطان» وقسم علاج الأورام بالإشعاع بجامعة «كاليفورنيا»: «نتوقع أن يساعد هذا النهج في فهم عوامل نسخ أخرى مهمة في سرطانات تعتمد على الهرمونات، وليس سرطان البروستاتا فقط».

ويعمل الفريق حالياً على فهم البنية الدقيقة لتفاعل PTGES3 مع مستقبل الأندروجين، تمهيداً لتطوير أدوية تستهدف هذا الارتباط، بما في ذلك تقنيات تفكيك البروتينات مثل PROTACs التي حققت نجاحاً في تجارب سريرية لأهداف دوائية أخرى.

ويمثل اكتشاف PTGES3 كمنظم رئيسي لمستقبل الأندروجين تحولاً مهماً في فهم سرطان البروستاتا؛ خصوصاً لدى المرضى الذين يعانون من مقاومة للعلاج الهرموني.

وإلى جانب كشف آليات جديدة وراء نمو الورم يقدِّم هذا الاكتشاف مساراً واعداً لعلاجات أكثر فعالية ودقة قد تغيِّر مستقبل الرعاية للمرضى المصابين بأحد أكثر السرطانات شيوعاً بين الرجال.

إنه مثال حي على كيف يمكن لتقنيات الجينوم الحديثة -كالفحص الشامل باستخدام «كريسبر»- أن تعيد كتابة قواعد علم الأورام وتفتح آفاقاً علاجية لم تكن متاحة من قبل.


نظرة إلى الذكاء الاصطناعي... وصحة الدماغ في 2025

الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته
الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته
TT

نظرة إلى الذكاء الاصطناعي... وصحة الدماغ في 2025

الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته
الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته

إليكم ما يقوله أربعة من الاختصاصيين في حول الجوانب العلمية التي أثارت اهتمامهم في عام 2025.

الذكاء الاصطناعي: محتوى منمق وغير منطقي

نحن نغرق في بحر من المحتوى المُنمّق وغير المنطقي الذي يُنتجه الذكاء الاصطناعي، كما تتحدث الكاتبة أنالي نيويتز، صاحبة عمود «هذا يُغيّر كل شيء»، عن كيفية انتشار المحتوى المُولّد بالذكاء الاصطناعي على نطاق واسع في عام 2025.

لا شك أن 2025 سيُذكَر بوصفه عام المحتوى المُنمّق. وهذا المصطلح الشائع يُطلق على المحتوى غير الصحيح والغريب، بل والقبيح في كثير من الأحيان، الذي يُنتجه الذكاء الاصطناعي، وقد أفسد تقريباً كل منصة على الإنترنت... إنه يُفسد عقولنا أيضاً.

لقد تراكمت كميات هائلة من هذا المحتوى المُنمّق خلال السنوات القليلة الماضية، لدرجة أن العلماء باتوا قادرين على قياس آثاره على الناس بمرور الوقت.

• نشاط دماغي أقل لدى المستخدمين. وجد باحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن الأشخاص الذين يستخدمون نماذج لغوية ضخمة (LLMs)، مثل تلك التي تقف وراء برنامج «تشات جي بي تي»، لكتابة المقالات، يُظهرون نشاطاً دماغياً أقل بكثير من أولئك الذين لا يستخدمونها.

• آثار سلبية على الصحة النفسية. ثم هناك الآثار السلبية المحتملة على صحتنا النفسية، حيث تشير التقارير إلى أن بعض برامج الدردشة الآلية تُشجع الناس على تصديق الأوهام أو نظريات المؤامرة، بالإضافة إلى حثّهم على إيذاء أنفسهم، وأنها قد تُسبب أو تُفاقم الذهان.

• تقنية التزييف العميق. أصبحت تقنية التزييف العميق شائعة؛ ما يجعل التحقق من الحقيقة على الإنترنت أمراً مستحيلاً. ووفقاً لدراسة أجرتها «مايكروسوفت»، لا يستطيع الناس التعرف على مقاطع الفيديو التي يُنشئها الذكاء الاصطناعي إلا في 62 في المائة من الحالات.

وأحدث تطبيقات شركة «اوبن ايه آي» هو «سورا» Sora، وهي منصة لمشاركة الفيديوهات تُنشأ بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي - باستثناء واحد. يقوم التطبيق بمسح وجهك وإدراجك أنت وأشخاص حقيقيين آخرين في المشاهد المزيفة التي يُنشئها. وقد سخر سام ألتمان، مؤسس الشركة، من تبعات ذلك بالسماح للناس بإنشاء فيديوهات يظهر فيها المستخدم وهو يسرق وحدات معالجة الرسومات ويغني في الحمام.

• تقليل الإنتاجية. لكن ماذا عن قدرة الذكاء الاصطناعي المزعومة على جعلنا نعمل بشكل أسرع وأكثر ذكاءً؟ وفقاً لإحدى الدراسات، عندما يُدخل الذكاء الاصطناعي إلى مكان العمل، فإنه يُقلل الإنتاجية، حيث أفادت 95 في المائة من المؤسسات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي بأنها لا تحصل على أي عائد ملحوظ على استثماراتها.

مذنب "سوان" الى يمين تجمّع من النجوم

تدمير الأرواح والوظائف

إن الفساد يُدمر الأرواح والوظائف، ويُدمر تاريخنا أيضاً. أنا أكتب كتباً عن علم الآثار، ويقلقني أن ينظر المؤرخون إلى وسائل الإعلام من تلك الحقبة ويكتشفوا زيف محتوانا، المليء بالخداع والتضليل.

إن أحد أهم أسباب تدويننا الأمور أو توثيقها بالفيديو هو ترك سجل لما كنا نفعله في فترة زمنية محددة. وعندما أكتب، آمل أن أسهم في إنشاء سجلات للمستقبل؛ حتى يتمكن الناس اللاحقون من إلقاء نظرة على حقيقتنا، بكل ما فيها من فوضى.

إن برامج الدردشة الآلية التي تعمل بالذكاء الاصطناعي تُردد كلماتٍ بلا معنى؛ فهي تُنتج محتوًى لا ذكريات. ومن منظور تاريخي، يُعدّ هذا، من بعض النواحي، أسوأ من الدعاية. على الأقل، إن الدعاية من صنع البشر، ولها هدف محدد، وهي تكشف عن الكثير من سياساتنا ومشاكلنا. أما الزيف فيمحونا من سجلنا التاريخي؛ إذ يصعب استشفاف الغاية منه.

ماذا يخبئ لنا المستقبل؟ ماذا سيفعل الذكاء الاصطناعي بالفن؟ كيف سنتعامل مع عالمٍ تندر فيه الوظائف، ويتصاعد فيه العنف، ويتم فيه تجاهل علوم المناخ بشكل ممنهج؟

الحفاظ على صحة الدماغ

كيف تعلمتُ الحفاظ على صحة دماغي؟ تتحدث هيلين تومسون، كاتبة عمود في علم الأعصاب، عن تغييرات بسيطة أحدثت فرقاً كبيراً في صحتها هذا العام.

• غذاء صحي: لقد تعلمت أن أعيش بنمط حياة صحي. كل صباح، أضيف ملعقة من الكرياتين إلى الماء، وأشربه مع الفيتامينات المتعددة، ثم أتناول بعض الزبادي العادي الغني بالبكتيريا. ويتناول أطفالي حبوب الإفطار المنزلية، ويشربون الكفير، ويحاولون التحدث بالإسبانية باستخدام تطبيق «دولينغو». وبعد توصيلهم إلى المدرسة، أغطس في بركة ماء باردة، ثم أستريح في الساونا قبل العمل. لاحقاً، أضيف دائماً ملعقة من مخلل الملفوف إلى غدائي، ولا أفوّت فرصة للمشي قليلاً في الحديقة.

حياتي الجديدة المفعمة بالرضا هي نتيجة مباشرة لقضاء عام كامل في البحث عن طرق مثبتة علمياً للحفاظ على صحة الدماغ - من تعزيز الاحتياطي المعرفي إلى تنمية ميكروبيوم صحي. الآن، وأنا أُقيّم الوضع، أرى أن تغييرات بسيطة أحدثت فرقاً كبيراً.

• تجربة طبية. جاء أحد أبسط الدروس من جو آن مانسون في مستشفى بريغهام والنساء في ماساتشوستس، التي أرسلت إلي تفاصيل تجربة واسعة النطاق على كبار السن تُظهر أن تناول الفيتامينات المتعددة يومياً يُبطئ التدهور المعرفي بأكثر من 50 في المائة. وعندما سألت خبراء آخرين عن المكملات الغذائية، إن وُجدت، التي قد تُعزّز صحة الدماغ، برز الكرياتين في ذهني - فهو يُزود الدماغ بمصدر طاقة عندما يكون في أمس الحاجة إليه. لكن التغيير حدث في سلة مشترياتنا الأسبوعية؛ إذ أقنعتني محادثاتي مع علماء الأعصاب وخبراء التغذية بأهمية العناية المستمرة بميكروبيوم الأمعاء. لذا؛ بدأت عائلتي بتطبيق ذلك: تناول ثلاثة أنواع من الأطعمة المخمرة يومياً بناءً على نصيحة عالم الأوبئة تيم سبيكتور، والامتناع عن تناول الأطعمة فائقة المعالجة في وجبة الإفطار، والحرص على إدخال مزيج متنوع من الأطعمة الكاملة في نظامنا الغذائي.

• التواصل مع البيئة. كما أن التعرّض للبرد والحرارة يُمكن أن يُقلل من الالتهابات والتوتر، ويُعزز التواصل بين الشبكات الدماغية المسؤولة عن التحكم في العواطف واتخاذ القرارات والانتباه؛ ما قد يُفسر ارتباطها بتحسين الصحة النفسية. كما أصبح الخروج إلى الطبيعة أولويةً عائلية. فقد تعلمتُ أن البستنة تُعزز تنوع بكتيريا الأمعاء المفيدة، بينما قد يُفيد المشي في الغابات الذاكرة والإدراك، ويُساعد على الوقاية من الاكتئاب.

والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو سرعة ظهور النتائج. فبينما تُعدّ بعض العادات استثماراً طويل الأمد في الصحة الإدراكية، إلا أنني مقتنعة بأن عادات أخرى كان لها تأثير فوري: أطفال أكثر هدوءاً، وتحسن في التركيز، وطاقة أكبر. ربما يكون تأثيراً وهمياً، لكن هناك ما يُجدي نفعاً.

مذنبات كونية متألقة

أما شاندا بريسكود - وينشتاين، كاتبة عمود في مجلة «سبيس - تايم»، فقد قدمت ملاحظات ميدانية حول كيفية تصدّر المذنبات عناوين الأخبار في عام 2025.

• المذنب «ليمون» لقد كان عام 2025 حافلاً بالمذنبات. فقد اكتُشف المذنب ليمون Lemmon في يناير (كانون الثاني) الماضي، وظلّ حديث الساعة لمدة تسعة أشهر. كانت صور ذيل ليمون الطويل والجميل، الناتج من تسخين الشمس للمذنب، تخطف أنفاسي في كل مرة.

• المذنب «سوان». ثم كان هناك اكتشاف المذنب C/2025 R2 (سوان) في سبتمبر (أيلول)، وهو مذنب شديد السطوع لدرجة أنه حتى عندما كان قريباً من القمر في عيد «الهالوين»، كان لا يزال مرئياً بوضوح للمراقبين. وكان هناك أيضاً المذنب 3I/أطلس، الذي اشتهر بعد أن أعلن عالم فلك في جامعة هارفارد، متخصص في علم الكونيات، أنه مسبار فضائي.

إن رحلتنا مع المذنبات هذا العام ليست سوى أحدث حلقة في سلسلة طويلة من ردود فعل البشر تجاه الأجرام السماوية الغامضة التي تظهر في السماء. وبينما نستذكر العام الماضي، شهدنا أحداثاً كثيرة مخيفة ومُحبطة؛ ما قد يدفعنا للاعتقاد بأن هذه المذنبات ربما نذرت بنهاية العالم كما نعرفه.

«إنسان دينيسوفان»

«إنسان دينيسوفان» قلب مفاهيمنا عن الإنسان القديم رأساً على عقب. وهنا يستعرض مايكل مارشال، كاتب عمود «قصة الإنسان»، أهم اكتشافات «إنسان دينيسوفان» لهذا العام.

يصادف هذا العام مرور 15 عاماً على اكتشافنا «إنسان دينيسوفان»، وهي إنسان من مجموعة من البشر القدماء الذين عاشوا في ما يُعرف اليوم بشرق آسيا قبل عشرات آلاف السنين. وقد أثار هذا الإنسان فضولي منذ ذلك الحين؛ لذا سررتُ هذا العام برؤية سلسلة من الاكتشافات المثيرة التي وسّعت فهمنا لمكان عيشهم وهويتهم.

• أدلة من جزيئات إصبع. كان «إنسان دينيسوفان» أول أشباه البشر الذين تم اكتشافهم بشكل أساسي من خلال الأدلة الجزيئية. وكانت أول أحفورة معروفة عبارة عن عظمة إصبع من كهف دينيسوفا في سيبيريا، التي كانت صغيرة جداً بحيث لا يمكن التعرف عليها من خلال شكلها، ولكنها أسفرت عن تحليل الحمض النووي في عام 2010. وأشارت النتائج الجينية إلى أن «إنسان دينيسوفان» كان مجموعة شقيقة لـ«إنسان نياندرتال»، الذي عاش في أوروبا وآسيا. كما أظهرت النتائج أيضاً أنهم تزاوجوا مع الإنسان الحديث.

واليوم، يمتلك سكان بعض مناطق جنوب شرقي آسيا، مثل بابوا غينيا الجديدة والفلبين، أعلى نسب الحمض النووي لـ«إنسان دينيسوفان» في جينوماتهم.

ومنذ ذلك الحين، سعى الباحثون جاهدين للعثور على المزيد من الأمثلة على «إنسان دينيسوفان»، لكنّ هذه الجهود كانت بطيئة. ولم يظهر مثال ثانٍ إلا في عام 2019: عظم فك من كهف بايشيا كارست في شياخه على هضبة التبت.

• اكتشافات جديدة. ثم جاء عام 2025 وتدفقت الاكتشافات الجديدة. ففي أبريل (نيسان) الماضي، تأكد وجود «إنسان دينيسوفان» في تايوان. وأكد الباحثون هذا الاكتشاف الآن باستخدام البروتينات المحفوظة داخل الأحفورة. ثم في يونيو (حزيران) الماضي عُثر على أول وجه لإنسان، حيث وُصفت جمجمة من مدينة هاربين شمال الصين عام 2021، وسُميت نوعاً جديداً.

حتى الآن، تبدو هذه النتائج منطقية للغاية. كما أنها رسمت صورة متكاملة لـ«إنسان دينيسوفان» كإنسان ضخم البنية.

وكان الاكتشافان الآخران في عام 2025 مفاجأتين كبيرتين. ففي سبتمبر، أُعيد بناء جمجمة مهشمة من يونشيان في الصين. ويبدو أن جمجمة يونشيان 2 تعود إلى «إنسان دينيسوفان» مبكر، وهو اكتشاف مثير للاهتمام؛ نظراً لقدمها التي تبلغ نحو مليون عام. ويشير هذا إلى أن «إنسان دينيسوفان» كان موجوداً مجموعةً منفصلة منذ مليون عام على الأقل، أي قبل مئات آلاف السنين مما كان يُعتقد سابقاً. كما يدل هذا على أن السلف المشترك بيننا وبين «إنسان نياندرتال»، والمعروف باسم السلف العاشر، قد عاش قبل أكثر من مليون عام.

• استخلاص جينوم من سن وحيدة. بعد شهر واحد فقط، أعلن علماء الوراثة عن ثاني جينوم عالي الجودة لـ«إنسان دينيسوفان»، والذي استُخرج من سنّ عمرها 200 ألف عام في كهف دينيسوفا. الأهم من ذلك، أن هذا الجينوم كان مختلفاً تماماً عن الجينوم الأول المُبلغ عنه، والذي كان أحدث عهداً، كما أنه كان مختلفاً عن الحمض النووي للـ«دينيسوفان» لدى البشر المعاصرين.

ويُشير هذا إلى وجود ثلاث مجموعات على الأقل من الـ«دينيسوفان»: مجموعة مبكرة، ومجموعة لاحقة، ومجموعة تزاوجت مع جنسنا البشري. هذه المجموعة الثالثة، من الناحية الأثرية، تظل لغزاً محيراً.

* مجلة «نيو ساينتست» - خدمات «تريبيون ميديا»