تقع واحة قُريّة على المنحدرات الشرقية لجبال الحجاز في منطقة تبوك، شمال غربي المملكة العربية السعودية، وهي مستوطنة قديمة مسوّرة بالحجارة، تشكّل اليوم موقعاً أثرياً كبيراً، يحتلّ مكانة رفيعة في خريطة المواقع الأثرية التي تمّ استكشافها في هذه الناحية من جزيرة العرب المترامية الأطراف. خرجت من هذه الواحة الحضرية مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتعدّدة الأنواع والأشكال، تشهد لتاريخ طويل، يمتدّ على مدى أربعة آلاف سنة. تحوي هذه المجموعة قطعاً تبدو فريدة من نوعها في هذا الميدان، منها نصب شبه مجهول، يعود على الأرجح إلى أواخر الألفية الرابعة قبل الميلاد.
عمل على دراسة تاريخ واحة قُريّة فريق مشترك جمع بين هيئة التراث في السعودية وجامعة فيينا النمساوية، وتبيّن أن هذه الواحة تضمّ مستوطنة كبيرة شكّلت في الماضي مركزاً وسيطاً ونقطة وصل مركزيّة على طرق التجارة التي تربط شمال الجزيرة العربية بجنوبها. تخصّصت هذه المستوطنة كما يبدو بصناعة الفخار، كما تشهد بقايا أفران الخزف التي اكتُشفت في المنطقة، وظهرت من نتاج هذه الأفران مجموعة كبيرة من القطع، يعود القسم الأكبر منها إلى القرنين السابع عشر والسادس عشر قبل الميلاد. إلى جانب هذا النتاج الفخاري المحلّي، تحضر مجموعات متنوّعة من الشواهد الأثرية، عمد أهل الاختصاص على تصنيفها وتأريخها. تحوي هذه المجموعات قطعاً يصعب تحديد هويّتها ووظيفتها الأصلية، كما يصعب تحديد تاريخها الافتراضي، ومن أبرز هذه القطع نصب منحوت طويل يبدو أشبه بعمود منحوت يتخذ شكل قامة آدمية منتصبة.
يبلغ طول هذا النصب الآدمي نحو المترين، ويمكن اعتباره من أطول التماثيل المجسّمة التي تمّ اكتشافها في شمال شبه الجزيرة العربية إلى يومنا هذا. يبدو هذا النصب من حيث التكوين العام أشبه بعمود مستطيل طويل تعلوه كتلة بيضاوية كبيرة. تزيّن هذا العمود نقوش ناتئة تظهر على النصف الأعلى من مساحته، فيما يخلو النصف الأسفل من هذه النقوش. تستقرّ الكتلة البيضاوية فوق هذا العمود، وتشكّل رأساً لها، وهو في الأصل رأس آدمي منحوت امّحت ملامحه بشكل كبير، وبقي منها آثار فم وعين وأذنين فحسب. تظهر هذه العين في الجهة اليمنى من الوجه، وهي على شكل قدحة لوزية فارغة، حُدّد إطارها بشكل بسيط. ويظهر الفم وكأنه شدق مفتوح، وهو على شكل شفتين ناتئتين تبدوان أشبه بحلقة بيضاوية ترتسم أفقياً. ثمة بين العين والأنف نتوء بسيط يشهد لحضور أنف اندثر بشكل كامل. في المقابل، تحدّ الأذنان هذا الوجه البيضاوي الضخم، وهما على شكل حلقتين بيضاويتين عموديتين صغيرتين، تماثلان في تكوينهما حلقة الشدق الكبيرة.
يتميّز هذا الوجه بذقن طويل يمتدّ حدودها الظاهرة من أسفل الأذنين المنمنمتين إلى أدنى الفم الضخم. تمتدّ العنق كذلك من أسفل الأذنين، وتشكّل كتلة مربّعة عريضة تتّصل بأعلى العمود. يأخذ هذا العمود طابعاً آدمياً جلياً مع ظهور ساعدين يلتفان حول الخصر في حركة ثابتة. يمتد الساعد الأيمن أفقياً فوق الساعد الأيسر بشكل تعادلي متجانس، وينتهي كلّ منهما بيد مسطّحة تحدّها خمس أصابع متباعدة، تتساوى أربع منها في الحجم، فيما تبدو الخامسة أصغر حجماً، وهي الإصبع التي تقع في أقصى اليد، وتمثّل الخنصر. كما هو معروف، تتكوّن ذراع الإنسان من العضد والساعد واليد. يحضر هنا الساعد واليد، أمّا العضد، فيلتصق بالصدر، ويذوب في كتلته بشكل شبه كلّي. تغيب الكتفان كذلك في هذه الكتلة، وهما كتفان ضيّقتان وصغيرتان، تشكّلان قاعدة لكتلة الرأس الضخمة التي تبدو أشبه بتاج يعلو هذا العمود. تزيّن كتلة الصدر شبكة من النقوش الناتئة، تمثّل طوقين تتدلّى منهما سلسلة من السهام النحيلة، وتظهر في القسم الأسفل من هذه الكتلة آثار كتلة طفيفة، توحي بحضور خنجر طويل يتدلّى عند حدود الخصر. يمثل هذا النصب على الأرجح رجلاً يحضر هنا مع حلّة تمثّل سلاح الصيد، وهي الحلّة التي يحضر فيها نموذج الصياد في العديد من النقوش الحجرية التي تعود إلى تلك الحقبة، ومنها تلك التي كُشف عنها في وادي ضم، نواحي تبوك. من جهة أخرى، يمثّل صياد قُريّة قطعة أثرية فريدة من نوعها في هذه الواحة الأثرية، غير أن هذه القطعة تنتمي إلى تقليد محلّي تشهد له ثلاثة أنصاب من محفوظات المتحف الوطني بالرياض، تُعتبر اليوم من أشهر قطع ميراث السعودية الأثري، وهي تماثيل جنائزية تعود كذلك إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد.
عُثر على تمثالين من هذه المجموعة في قرية الكهفة التابعة لمنطقة حائل، وعُثر على التمثال الثالث في نواحي موقع الحِجر التابع لمحافظة العلا. يماثل نصب قُريّة في تكوينه العام نصب موقع الحِجر، ويشابه وجهه الضخم وجه واحد من التمثالين اللذين خرجا من قرية الكهفة. يتميّز تمثال قرية الكهفة الآخر بحلّة تزيّن قامته، وهي حلّة صيد تبدو بشكل عام شبيهة بحلة صياد قُريّة، مع اختلاف في التفاصيل. في الخلاصة تنتمي هذه القطع الأربع إلى تقليد محلّي جامع، غير أن شواهد هذا التقليد تبقى معدودة إلى يومنا هذا، في انتظار نماذج أخرى قد تكشف عنها حملات التنقيب المتواصلة في هذه البقعة من جزيرة العرب.
