3 خرافات تُقوّض نجاح الذكاء الاصطناعي

ضرورة توظيف وحدات الابتكار كمحفزات… وخلق ثقافة عمل جديدة للتواؤم معها

3 خرافات تُقوّض نجاح الذكاء الاصطناعي
TT

3 خرافات تُقوّض نجاح الذكاء الاصطناعي

3 خرافات تُقوّض نجاح الذكاء الاصطناعي

لا تتعلق قصة الذكاء الاصطناعي الحقيقية في معظم المؤسسات بالخوارزميات؛ بل بالعادات السائدة فيها.

روتين الأعمال يقضي على الإبداع

في حين تظهر أدوات جديدة مصحوبة بعروض مبهرة ووعود واثقة، فإن الروتين اليومي هو الذي يُحدد ما النظام وما الأمر الذي يجذب الانتباه، ومن الذي يُمكنه المخاطرة؛ لذا فإن ما يُعدّ «عملاً جيداً» يميل إلى البقاء على حاله، كما كتب فيصل حق (*).

وبينما يُنشئ القادة وحدات خاصة، أو يُطلقون دورات تدريبية، أو يبحثون عن مكاسب سريعة، فإنهم يجدون أن الثقافة القديمة تُعيد ضبط الشروط والظروف بهدوء. وعندما يحدث ذلك، تتلاشى المكاسب المبكرة، ويتوقف التبني للأدوات الجديدة، ويزداد التشكيك.

3

خرافات

تستند هذه المقالة إلى كتابي القادم للنظر في ثلاث خرافات متكررة تُساعد في دعم الثقافات القائمة، وتمنع التحولات العميقة اللازمة لدعم تطبيقات الذكاء الاصطناعي الناجحة.

إن تحويل الأعمال لتحقيق أقصى استفادة من الذكاء الاصطناعي يعني تجاوز هذه الجوانب المُريحة وتغيير الظروف التي تعمل في ظلها المؤسسة بأكملها.

1. الخرافة الأولى: «وحدات الابتكار ستنقذنا». بعد خمس سنوات من التشغيل، بدت خدمة الحكومة الرقمية Government Digital Service (GDS) في المملكة المتحدة قوية، فمنذ أن أُنشئت عام 2011، أحدثت ثورة في الخدمات الرقمية البريطانية. وبهدف إعادة تصوّر «الحكومة منصةً»؛ جمعت مئات المواقع الإلكترونية في بوابة واحدة سهلة الاستخدام، وخفّضت الهدر بإجبار الإدارات على توحيد منصاتها، وأثبتت أنه، بالنهج الصحيح، فإن حتى الهيئات الحكومية قادرة على التحرك بسرعة مشابهة للشركات الناشئة. وفي عام 2016، صُنّفت الخدمات الرقمية في المملكة المتحدة بوصفها أفضل الخدمات الرقمية في العالم. ومع ذلك، بحلول عام 2020، اختفت خدمة الحكومة الرقمية كقوة مؤثرة داخل حكومة المملكة المتحدة.

وحدات نخبوية... تتلاشى

يتكرر هذا النمط بانتظام في مختبرات الابتكار المؤسسية: إنشاء وحدة نخبة، ومنحها قواعد خاصة، والاحتفال بالإنجازات المبكرة، ثم تركها تتلاشى. يمكن لوحدة الابتكار أن تحقق نتائج استثنائية ما دام أنها تتمتع بحماية القيادة العليا، وموارد متدفقة بحرّية، وثقافة داخلية تجذب المواهب الاستثنائية. لكن هذا النموذج يحمل في طياته أيضاً بذور انهياره، فوضعية المؤسسة كجهة خارجية تُمكّن إدخال الابتكارات الرائدة تجعل الاستدامة واسعة النطاق شبه مستحيلة. وعندما يرحل الرعاة التنفيذيون، يسقط الدرع، وتبدأ الأجسام المضادة التنظيمية في إعادة تأكيد المعايير الثقافية السبقة.

وحدات الابتكار بصفتها محفزات... ومواءمة ثقافة العمل معها

لتنطبق دورة الحياة المتوقعة هذه على الفرق التي تُركز على الذكاء الاصطناعي بقدر ما تنطبق على الفرق التي تُحرك أي نوع آخر من التغيير التكنولوجي.

الدرس المستفاد من هذا ليس التخلي عن وحدات الابتكار، بل استخدامها استراتيجياً ومتابعة المكاسب التي تحققها. يجب النظر إلى وحدات الابتكار بصفتها محفزات، وليست حلولاً دائمة. وبينما تمضي هذه الفرق قُدماً بتحقيق مكاسب سريعة وإثبات مناهج جديدة، تحتاج المؤسسات أيضاً إلى تحويل ثقافتها الأوسع بالتوازي.

لا ينبغي أن يكون الهدف حماية وحدة الابتكار إلى أجل غير مسمى، بل مواءمة الثقافة التنظيمية مع المناهج المبتكرة التي تُطورها. فإذا كانت وحدات الابتكار بمثابة شرارات، فإن الثقافة هي الأكسجين. أنت في حاجة إلى كليهما معاً، وإلا انطفأت شعلة التغيير.

التدريب في أجواء الإبداع الفكري

2. الخرافة الثانية: «موظفونا في حاجة فقط إلى التدريب». تنفق الشركات الملايين لتعليم موظفيها استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، ثم تتساءل لماذا لا تحدث التحولات المطلوبة أبداً. والسبب هو أن المشكلة الأساسية لا تتعلق بالمهارات فحسب، بل بالخيال (الإبداع الفكري) اللازم لاستخدامها بفاعلية.

يمكنك تدريب قوى العمل لديك على استخدام التكنولوجيا الجديدة، لكن لا يمكنك تدريبها على الحماس لها أو الاهتمام بمستقبل العمل. وهذا يتطلب تغييراً على المستوى الثقافي.

الذكاء الاصطناعي شريكاً

عندما يتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعي، فإن الفجوة الحقيقية تكمن في المفاهيم، وليست في التقنية. يحتاج الموظفون إلى التحول من عدّ الذكاء الاصطناعي أداةً أفضل إلى فهم دوره بصفته شريكاً فكرياً. وهذا يتطلب أكثر من مجرد دروس تعليمية. إنه يعني عرض كيفية مساهمة الذكاء الاصطناعي في تحويل سير العمل، ثم مكافأة استخدامه الإبداعي.

أظهِِر لفريق المبيعات كيف يمكن للذكاء الاصطناعي التنبؤ باحتياجات العملاء قبل المكالمات، وليس مجرد نسخها لاحقاً. وضِّح كيف يمكن للفرق القانونية التحول من مراجعة المستندات إلى الاستشارات الاستراتيجية. وعندما تطلب المؤسسات من موظفيها «استخدام الأدوات» دون تغيير الأعراف الاجتماعية المحيطة باستخدامها، قد يُعاقب الأفراد على قيامهم بما طلبته القيادة بالضبط.

ضعف تقييم العاملين مستخدمي الذكاء الاصطناعي

وجدت تجربة حديثة أجريت على 1026 مهندس برمجيات أنه عندما اعتقد المراجعون أن الرموز الكومبيوترية قد أُنتجت بمساعدة الذكاء الاصطناعي، فقد قيّموا كفاءة المبرمج المؤلف لها بنسبة أقل بنحو 9 في المائة على الرغم من أن نوع العمل كان متطابقاً. والأكثر إثارة للقلق هو أن العقوبة كانت أكبر للنساء والمهندسين الأكبر سناً، وهما فئتان لطالما عوملتا بمعاملة سلبية في التقييمات.

في استطلاع مصاحب شمل 919 مهندساً، أفاد الكثيرون بترددهم في استخدام الذكاء الاصطناعي؛ خوفاً من أن يُفهم تبنيه على أنه نقص في المهارة - ما يوضح سبب عدم ترجمة إتاحة الأدوات الذكية والتدريب عليها إلى إقبال كبير، في جو تشير فيه الثقافة السائدة إلى أن الاستخدام الواضح للذكاء الاصطناعي سيضر بالمصداقية.

إزاحة القوة العاملة

3. الخرافة الثالثة: «الذكاء الاصطناعي يُسهّل تقليص القوى العاملة».

هناك وعود مغرية تُسوق للشركات حالياً. يكمن السبيل لتحقيق قيمة كبرى للذكاء الاصطناعي ببساطة في استبدال أكبر عدد ممكن من الموظفين. إذن سرّح نصف موظفيك، واحتفظ بالمدخرات، ودع الآلات تُدير الباقي. حسابات بسيطة للعقول البسيطة.

الحقيقة المُربكة هي أن الذكاء الاصطناعي قادر، وسيُحلّ محلّ الكثير من الوظائف البشرية، لكنه لن يقوم بذلك بسلاسة، ولن يكون ذلك سهلاً. كما أن فكرة استبدال العنصر البشري في معظم الحالات بآلة، ببساطة لا تُجدي نفعاً.

تسريع الأتمتة سيقوض ركائز هيكل العمل

يعمل البشر معاً كأجزاء من هياكل اجتماعية متعددة الطبقات تطورت كنظم في وسطها المحيط. وغالباً ما يكون لتغيير جزء واحد عواقب وخيمة على جزء آخر. إذا تسرّعنا في الأتمتة، فإننا نُخاطر بتفكيك الركائز التي تُسند الهيكل بأكمله.

فكّر في الساعات المُرهقة التي يقضيها المُحللون المُبتدئون في تنظيف البيانات، وتدقيق الأرقام، وبناء النماذج من الصفر. أو العمل الذي سيقوم به المدير المُعيّن حديثاً، وهو الإشراف على الأداء وملء المستندات. نُسمّيه عملاً روتينياً، ولكنه في الواقع الطريقة التي يُطوّر بها البشر المهارات التي سيحتاجون إليها في المناصب العليا.

وظيفة المبتدئين... مسار يتخرج فيه القادة الكبار

إذا استغنيتَ عن وظائف المبتدئين، ستفقد المسار الوظيفي الذي يُخرّج قادةً كباراً ذوي مهارات عالية تحتاج إليهم. وإذا سمحتَ بـ«إعادة هيكلة المهارات» المدعومة بالذكاء الاصطناعي، فستفقد الحكمة البشرية والإشراف اللذين تعتمد عليهما المؤسسات.

مثال على قوة العمل البشري

وإليك هذا المثال: يُظهر مسار «كلارنا» Klarna كلا جانبي هذه المعادلة. في أوائل عام 2024، تعامل مساعد الذكاء الاصطناعي الخاص بها مع ثلثي محادثات العملاء، مُقدّماً أوقاتاً للحلول خلال أقل من دقيقتين، مع انخفاض بنسبة 25 في المائة في تكرار الاستفسارات. وبحلول عام 2025، أقرّت قيادة «كلارنا» علناً بحدود هذا النهج المُعتمد على الذكاء الاصطناعي فقط، وبدأت في إعادة فتح الأدوار البشرية، مُركّزة على تجربة خدمة العميل البشرية إلى جانب الأتمتة.

السؤال الحقيقي ليس عدد الأشخاص الذين يُمكنك الاستغناء عنهم. لتطبيق الذكاء الاصطناعي بفاعلية، عليك أن تُدرك أن البشر يُقدّمون مساهمات أساسية لا تظهر في توصيف وظائفهم.

دليل التحول الثقافي: تصحيح الخرافات

يعتمد تغيير الثقافة على العادات والحوافز والتوقعات، وليس مجرد إضافة أدوات جديدة. يقدم الدليل التالي خطوات ملموسة يمكن للقادة اتخاذها الآن لتجنب المخاطر التي تقع فيها كثير من الشركات.

• تنفيذ تحولات موازية (تصحيح الخرافة الأولى). تحقق وحدة الابتكار مكاسب سريعة، بينما تُحدث المبادرات المنفصلة عنها تحولاً في الثقافة الأوسع. يجب أن يحدث هذا في وقت واحد، وليس بالتتابع.

استخدم وضع وحدة الابتكار المحمي وانتصاراتها المبكرة لبناء ثقة مؤسسية بالتغيير، مع الاستثمار بالتساوي في إعداد الثقافة الرئيسية لما هو قادم. وبدون مسارات متوازية، تصبح وحدة الابتكار جزيرة معزولة من التميز، وستزول في النهاية.

• تغيير الطبقة الوسطى (تصحيح الخرافة الثانية). المدراء المتوسطون هم الحراس الحقيقيون لتغيير الثقافة. توقفوا عن إهدار الطاقة في محاولة تغيير المتشككين. بدلاً من ذلك، حددوا الفضوليين (أي الذين لديهم حب الاطلاع) وامنحوهم سلطة التجربة، وخصصوا ميزانية للفشل، وتجنّبوا الالتزام بالمعايير التقليدية.

حاولوا منح مدراء محددين ميثاقاً مصغراً لتطبيق التغيير في فرقهم، إلى جانب جلسة أسبوعية لعرض نتائج العمل (ما هو الذكاء الاصطناعي المستخدم، وما هو المقبول أو المرفوض، ولماذا؟) لمشاركة ما تعلموه مع زملائهم.

• بناء مسارات تعلم بديلة (تصحيح الخرافة الثالثة). إذا ألغى الذكاء الاصطناعي التجارب التي تبني الحكمة، فتجب عليك إعادة إنشائها بوعي. تُصبح عمليات المحاكاة عالية الدقة، وبرامج التدوير، و«أيام العمل البشرية» من دون الذكاء الاصطناعي ضروريات وجودية. حافظ صراحةً على الأنشطة التي تُنمّي القدرة على التعرّف على الأنماط وحس العمل. قد يبدو الاستثمار مُبذراً حتى تُدرك أن البديل هو قوة عاملة قادرة على تشغيل الأدوات، ولكنها لا تستطيع الاستجابة عند حدوث أي عطل.

الخيار الرئيسي

يُعدّ تغيير الثقافة أصعب من تطبيق التكنولوجيا. إنه أكثر تعقيداً وبطءً، ويستحيل التحكم فيه بالكامل. ستختار معظم الشركات المسار السهل: شراء الذكاء الاصطناعي، والتدريب على الأدوات، وإنشاء مختبر ابتكار، والأمل في الأفضل.

القلة التي تختار المسار الصعب - التحول المتوازي، والتطور الثقافي، والحفاظ على تجارب التعلم - ستكتسب مزايا تنافسية قوية. سيكون لديهم قوى عاملة لا تكتفي باستخدام الذكاء الاصطناعي، بل تفكر به، وثقافات لا تكتفي بتقبل التغيير، بل تتوقعه، ومنظمات لا تكتفي بالنجاة من التغيير، بل تقوده.

* مجلة «فاست كومباني» - خدمات «تريبيون ميديا»


مقالات ذات صلة

الاقتصاد سفينة شحن في ميناء كيلونغ بتايوان (رويترز)

بفضل «الذكاء الاصطناعي».. صادرات تايوان تسجل أسرع نمو في 5 سنوات

شهدت طلبات التصدير التايوانية في نوفمبر (تشرين الثاني) أسرع وتيرة نمو منذ نحو خمس سنوات، مدفوعة بالطلب المتزايد على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (تايبيه)
الاقتصاد متداول يراقب شاشات تعرض مؤشرات الأسهم في بورصة نيويورك (إ.ب.أ)

العقود الآجلة الأميركية تصعد مع تجدد الحماس للذكاء الاصطناعي

افتتحت العقود الآجلة لمؤشرات الأسهم الأميركية أسبوع التداول القصير بسبب عطلة عيد الميلاد على ارتفاع مدفوعة بصعود أسهم التكنولوجيا

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
الاقتصاد الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات وإيلون ماسك خلال اللقاء في أبوظبي بحضور الشيخ حمدان بن محمد بن راشد (وام)

ماسك يلتقي قادة الإمارات لبحث فرص الذكاء الاصطناعي

بحث الملياردير الأميركي إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركات تعمل في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، مع قيادة دولة الإمارات آفاق التعاون في الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
تحليل إخباري الكمبيوتر العملاق «أندروميدا» من شركة «سيريبراس سيستمز» في مركز للبيانات في سانتا كلارا بولاية كاليفورنيا الأميركية (رويترز)

تحليل إخباري العولمة الجديدة وخطر السقوط في هاوية الاستبداد

خفت كثيراً وهج التعدد والتمايز، وصارت مجتمعات عديدة تتشابه إلى حد «الملل» مع ضمور العديد من العادات والتقاليد إلى حد تهديد الهويات.

أنطوان الحاج

دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
TT

دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة

لطالما كان توقيت وصول الإنسان الحديث إلى أستراليا وكيفية حدوث ذلك واحداً من الأسئلة المثيرة في تاريخ البشرية. وتشير دراسة جينية جديدة إلى أن البشر وصلوا إلى القارة القديمة المعروفة باسم «ساهول» قبل نحو 60 ألف عام، وقد سلكوا في ذلك مسارَيْن مختلفَيْن عبر البحر، في واحدة من أقدم الأدلة المعروفة على الملاحة البحرية المتعمدة.

وقد نُشرت نتائج الدراسة في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 بمجلة «Science Advances»، إذ دعّمت ما يُعرف بفرضية «التسلسل الزمني الطويل» التي تفترض أن أولى موجات الاستيطان البشري في أستراليا حدثت قبل ما بين 60 و65 ألف سنة، وليس في فترة لاحقة، كما افترضت بعض النظريات السابقة.

قارة قديمة ونقاش طويل

كانت «ساهول» (Sahul) قارة واحدة تضم ما يُعرف اليوم بأستراليا وغينيا الجديدة وتسمانيا. ومع ارتفاع مستويات البحار بعد العصر الجليدي الأخير قبل نحو 9 آلاف عام انفصلت هذه اليابسة إلى القارات والجزر الحالية.

وعلى مدى عقود اختلف العلماء حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى هذه المنطقة، ففي حين افترضت بعض الدراسات وصولاً متأخراً نسبياً قبل نحو 47 إلى 51 ألف عام، قدمت الدراسة الجديدة أدلة قوية على استيطان أقدم بكثير.

ويقول عالم الآثار كريستوفر كلاركسون، من جامعة غريفيث في أستراليا الذي لم يشارك في الدراسة، إن هذه أول دراسة شاملة تربط بين علم الآثار والوراثة والمناخ والملاحة البحرية، وتقدم حجة قوية للغاية حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى أستراليا.

تتبع الأصول عبر خط الأم

وقد اعتمد الباحثون على نوع خاص من الحمض النووي (دي إن إيه) DNA يُعرف بالحمض النووي للميتوكوندريا، الذي يُورث غالباً من الأم فقط. وتُعد هذه المادة الوراثية أداة مهمة لتتبع السلالات البشرية عبر آلاف الأجيال.

وحلل الفريق الجينومات الميتوكوندرية لنحو ألف شخص معظمهم من السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة إلى جانب نحو 1500 جينوم منشور سابقاً. ومن خلال تتبع الطفرات الوراثية الصغيرة تمكّن الباحثون من إعادة بناء سلالات بشرية قديمة تعود إلى نحو 60 ألف عام.

مساران للهجرة نحو «ساهول»

ومن أبرز نتائج الدراسة أن البشر الأوائل لم يصلوا إلى «ساهول» عبر طريق واحد فقط بل عبر مسارَين مختلفين في الفترة الزمنية نفسها تقريباً.

كما يرجّح الباحثون أن إحدى المجموعتَين سلكت مساراً شمالياً عبر ما يُعرف اليوم بالفلبين وشرق إندونيسيا، في حين جاءت مجموعة أخرى عبر مسار جنوبي انطلقت فيه من جنوب شرق آسيا القارية مع عبور مساحات من البحر المفتوح.

وتشير النتائج إلى أن معظم السلالات الحية اليوم بين السكان الأصليين لأستراليا وغينيا الجديدة تعود إلى أسلاف اتبعوا المسار الشمالي.

ويقول عالم الآثار، آدم بروم، من جامعة غريفيث الأسترالية الذي لم يشارك أيضاً في الدراسة، إن هذه النتائج تقدم دعماً قوياً لفكرة أن المسار الشمالي كان المفتاح في الاستيطان الأول لأستراليا، مشيراً إلى اكتشافات حديثة لفنون كهوف قديمة جداً في إندونيسيا تدعم هذا الطرح.

أصل أفريقي واحد

وعلى الرغم من اختلاف المسارات تشير الدراسة إلى أن المجموعتَين تنحدران من سلالة بشرية واحدة خرجت من أفريقيا قبل نحو 70 إلى 80 ألف عام. ويُعتقد أن هذا الانقسام حدث في جنوب أو جنوب شرق آسيا قبل 10 إلى 20 ألف عام من الوصول إلى «ساهول».

ويؤكد الباحث المشارك في كلية العلوم التطبيقية بجامعة هدرسفيلد في المملكة المتحدة، مارتن ريتشاردز، أن السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة يمتلكون أقدم سلالة بشرية متصلة خارج أفريقيا دون انقطاع.

دليل مبكر على الملاحة البحرية

ولا تقتصر أهمية الدراسة على الجانب الجيني فحسب، بل تسلط الضوء أيضاً على القدرات التقنية للإنسان القديم، فالوصول إلى «ساهول» تطلّب عبور مسافات طويلة من البحر المفتوح حتى في فترات انخفاض مستوى سطح البحر.

وتقول الباحثة المشاركة هيلين فار، من مركز علم الآثار البحرية بقسم الآثار في جامعة ساوثهامبتون بالمملكة المتحدة، إن هذه الرحلات لم تكن نتيجة انجراف عشوائي بل دليل على استخدام القوارب والقيام برحلات بحرية محددة ومقصودة قبل نحو 60 ألف عام.

إعادة رسم تاريخ الهجرة البشرية

وتشير هذه النتائج مجتمعة إلى أن الإنسان الحديث كان أكثر قدرة على التخطيط والتنقل والاستكشاف عما كان يُعتقد سابقاً، وأن استيطان أستراليا لم يكن حدثاً واحداً بسيطاً بل عملية معقدة شاركت فيها مجموعات متعددة ومسارات مختلفة.

ومع استمرار تطور تقنيات تحليل الحمض النووي واكتشاف مواقع أثرية جديدة يتوقع العلماء أن تتضح صورة أكثر دقة عن بدايات انتشار الإنسان الحديث حول العالم، لتؤكد أن أستراليا كانت من أوائل محطات هذه الرحلة البشرية الكبرى.


اكتشاف علمي لأحد «محركات» سرطان البروستاتا... يمهد لعلاجات أكثر دقة

طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا
طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا
TT

اكتشاف علمي لأحد «محركات» سرطان البروستاتا... يمهد لعلاجات أكثر دقة

طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا
طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا

في خطوة علمية قد تغيِّر أسلوب فهمنا لسرطان البروستاتا وتشخيصه وعلاجه، كشف باحثون من معهد «آرك» وجامعة «كاليفورنيا»، ومركز «فريد هاتشينسون للسرطان» في واشنطن بالولايات المتحدة، عن منظِّم غير متوقع لمسار مستقبل الأندروجين، وهو بروتين لم يحظَ سابقاً بكثير من الاهتمام، وكان يُعتقد أنه مجرد إنزيم بسيط ضمن مسار تصنيع البروستاغلاندين (prostaglandin).

وجاء هذا الكشف الذي نُشر في مجلة «Nature Genetics» في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، نتيجة فحص شامل للجينوم باستخدام «تقنية كريسبر»، وأعاد تعريف الدور البيولوجي لبروتين «PTGES3» كما فتح الباب أمام فئة جديدة محتملة من العلاجات لسرطان البروستاتا المقاوم للعلاج الهرموني.

نافذة على بيولوجيا الورم

يعتمد سرطان البروستاتا على نشاط مفرط لمستقبِل الأندروجين، وهو بروتين ينظِّم نمو الخلايا استجابة لهرمونات الذكورة.

ولفهم الجينات التي تُبقي هذا المستقبِل نشطاً، طوَّر الباحثون نموذجاً متقدماً لخلايا سرطانية يحمل وسماً فلورياً (fluorescent tag) (هو جزيء مرتبط كيميائياً للمساعدة في اكتشاف جزيء حيوي، مثل البروتين أو الأجسام المضادة أو الأحماض الأمينية) يضيء تبعاً لكمية مستقبِل الأندروجين داخل الخلية، ما سمح بتتبُّعه بدقة لحظة بلحظة.

وبالاستفادة من «تقنية كريسبر» عطَّل العلماء آلاف الجينات واحداً تلو الآخر لاكتشاف الجينات التي يعتمد عليها مستقبِل الأندروجين ليبقى مستقراً وموجوداً داخل الخلية.

ثم جاءت النتائج لتؤكد دور جينات معروفة، مثل HOXB13 وGATA2 لكنها كشفت أيضاً مفاجأة كبيرة في PTGES3 وهو بروتين لم يكن محسوباً ضمن قائمة اللاعبين الرئيسيين في هذا المسار.

* لماذا يُعد PTGES3 اكتشافاً مهماً؟ على خلاف البروتينات المماثلة له لم يكن تأثير PTGES3 مرتبطاً بوظيفته المفترضة كإنزيم. بل ظهر أنه يؤدي دوراً مزدوجاً في دعم مستقبل الأندروجين؛ إذ إنه يعمل كمرافق بروتيني Co-chaperone داخل السيتوبلازم ما يساعد على استقرار مستقبل الأندروجين ويمنع تدهوره. ويعمل أيضاً كعامل مساعد داخل النواة؛ حيث يعزز قدرة المستقبل على الارتباط بالحمض النووي وتشغيل الجينات التي تغذي نمو الورم.

وهذا الدور الثنائي يجعل هذا البروتين كأحد «محركات» سرطان البروستاتا التي تعتمد عليها الخلايا السرطانية لمواصلة النمو والانتشار.

آفاق جديدة لعلاج السرطان

• من المختبر إلى المرضى: عند تحليل بيانات مئات المرضى وجد الباحثون أن ارتفاع مستويات PTGES3 يرتبط بانخفاض فعالية العلاج الهرموني، وهو مؤشر مبكر على مقاومة الورم.

وعند اختبار تعطيل هذا البروتين في فئران مصابة بسرطان البروستاتا انخفضت مستويات مستقبل الأندروجين، وتباطأ نمو الورم بشكل كبير، وهو دليل إضافي على دوره الحاسم واستحقاقه أن يكون هدفاً دوائياً جديداً.

ويقول الباحث الرئيسي لوك غيلبرت (وهو باحث رئيسي في معهد «آرك» وأستاذ مشارك في جراحة المسالك البولية في كلية الطب بجامعة «كاليفورنيا») إن هذا العمل يبرهن على قوة الفحص الجيني غير المنحاز عبر «تقنية كريسبر» وقدرتنا على اكتشاف وظائف جديدة لبروتينات ظنَّ العلماء أنهم يعرفونها جيداً.

• تطوير أدوية علاجية: تستهدف العلاجات الحالية مستقبل الأندروجين مباشرة؛ سواء بتقليل الهرمونات الذكرية أو بحجب قدرة المستقبِل على الوصول إلى الحمض النووي.

لكن النتائج الجديدة تقدِّم استراتيجية مختلفة تكمن بالتدخل في استقرار مستقبل الأندروجين نفسه، عبر التأثير على البروتينات التي تحميه وترافقه ومن ضمنها PTGES3.

ويقول الباحث الأول هاولونغ لي من مركز «فريد هاتشينسون للسرطان» وقسم علاج الأورام بالإشعاع بجامعة «كاليفورنيا»: «نتوقع أن يساعد هذا النهج في فهم عوامل نسخ أخرى مهمة في سرطانات تعتمد على الهرمونات، وليس سرطان البروستاتا فقط».

ويعمل الفريق حالياً على فهم البنية الدقيقة لتفاعل PTGES3 مع مستقبل الأندروجين، تمهيداً لتطوير أدوية تستهدف هذا الارتباط، بما في ذلك تقنيات تفكيك البروتينات مثل PROTACs التي حققت نجاحاً في تجارب سريرية لأهداف دوائية أخرى.

ويمثل اكتشاف PTGES3 كمنظم رئيسي لمستقبل الأندروجين تحولاً مهماً في فهم سرطان البروستاتا؛ خصوصاً لدى المرضى الذين يعانون من مقاومة للعلاج الهرموني.

وإلى جانب كشف آليات جديدة وراء نمو الورم يقدِّم هذا الاكتشاف مساراً واعداً لعلاجات أكثر فعالية ودقة قد تغيِّر مستقبل الرعاية للمرضى المصابين بأحد أكثر السرطانات شيوعاً بين الرجال.

إنه مثال حي على كيف يمكن لتقنيات الجينوم الحديثة -كالفحص الشامل باستخدام «كريسبر»- أن تعيد كتابة قواعد علم الأورام وتفتح آفاقاً علاجية لم تكن متاحة من قبل.


نظرة إلى الذكاء الاصطناعي... وصحة الدماغ في 2025

الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته
الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته
TT

نظرة إلى الذكاء الاصطناعي... وصحة الدماغ في 2025

الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته
الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته

إليكم ما يقوله أربعة من الاختصاصيين في حول الجوانب العلمية التي أثارت اهتمامهم في عام 2025.

الذكاء الاصطناعي: محتوى منمق وغير منطقي

نحن نغرق في بحر من المحتوى المُنمّق وغير المنطقي الذي يُنتجه الذكاء الاصطناعي، كما تتحدث الكاتبة أنالي نيويتز، صاحبة عمود «هذا يُغيّر كل شيء»، عن كيفية انتشار المحتوى المُولّد بالذكاء الاصطناعي على نطاق واسع في عام 2025.

لا شك أن 2025 سيُذكَر بوصفه عام المحتوى المُنمّق. وهذا المصطلح الشائع يُطلق على المحتوى غير الصحيح والغريب، بل والقبيح في كثير من الأحيان، الذي يُنتجه الذكاء الاصطناعي، وقد أفسد تقريباً كل منصة على الإنترنت... إنه يُفسد عقولنا أيضاً.

لقد تراكمت كميات هائلة من هذا المحتوى المُنمّق خلال السنوات القليلة الماضية، لدرجة أن العلماء باتوا قادرين على قياس آثاره على الناس بمرور الوقت.

• نشاط دماغي أقل لدى المستخدمين. وجد باحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن الأشخاص الذين يستخدمون نماذج لغوية ضخمة (LLMs)، مثل تلك التي تقف وراء برنامج «تشات جي بي تي»، لكتابة المقالات، يُظهرون نشاطاً دماغياً أقل بكثير من أولئك الذين لا يستخدمونها.

• آثار سلبية على الصحة النفسية. ثم هناك الآثار السلبية المحتملة على صحتنا النفسية، حيث تشير التقارير إلى أن بعض برامج الدردشة الآلية تُشجع الناس على تصديق الأوهام أو نظريات المؤامرة، بالإضافة إلى حثّهم على إيذاء أنفسهم، وأنها قد تُسبب أو تُفاقم الذهان.

• تقنية التزييف العميق. أصبحت تقنية التزييف العميق شائعة؛ ما يجعل التحقق من الحقيقة على الإنترنت أمراً مستحيلاً. ووفقاً لدراسة أجرتها «مايكروسوفت»، لا يستطيع الناس التعرف على مقاطع الفيديو التي يُنشئها الذكاء الاصطناعي إلا في 62 في المائة من الحالات.

وأحدث تطبيقات شركة «اوبن ايه آي» هو «سورا» Sora، وهي منصة لمشاركة الفيديوهات تُنشأ بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي - باستثناء واحد. يقوم التطبيق بمسح وجهك وإدراجك أنت وأشخاص حقيقيين آخرين في المشاهد المزيفة التي يُنشئها. وقد سخر سام ألتمان، مؤسس الشركة، من تبعات ذلك بالسماح للناس بإنشاء فيديوهات يظهر فيها المستخدم وهو يسرق وحدات معالجة الرسومات ويغني في الحمام.

• تقليل الإنتاجية. لكن ماذا عن قدرة الذكاء الاصطناعي المزعومة على جعلنا نعمل بشكل أسرع وأكثر ذكاءً؟ وفقاً لإحدى الدراسات، عندما يُدخل الذكاء الاصطناعي إلى مكان العمل، فإنه يُقلل الإنتاجية، حيث أفادت 95 في المائة من المؤسسات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي بأنها لا تحصل على أي عائد ملحوظ على استثماراتها.

مذنب "سوان" الى يمين تجمّع من النجوم

تدمير الأرواح والوظائف

إن الفساد يُدمر الأرواح والوظائف، ويُدمر تاريخنا أيضاً. أنا أكتب كتباً عن علم الآثار، ويقلقني أن ينظر المؤرخون إلى وسائل الإعلام من تلك الحقبة ويكتشفوا زيف محتوانا، المليء بالخداع والتضليل.

إن أحد أهم أسباب تدويننا الأمور أو توثيقها بالفيديو هو ترك سجل لما كنا نفعله في فترة زمنية محددة. وعندما أكتب، آمل أن أسهم في إنشاء سجلات للمستقبل؛ حتى يتمكن الناس اللاحقون من إلقاء نظرة على حقيقتنا، بكل ما فيها من فوضى.

إن برامج الدردشة الآلية التي تعمل بالذكاء الاصطناعي تُردد كلماتٍ بلا معنى؛ فهي تُنتج محتوًى لا ذكريات. ومن منظور تاريخي، يُعدّ هذا، من بعض النواحي، أسوأ من الدعاية. على الأقل، إن الدعاية من صنع البشر، ولها هدف محدد، وهي تكشف عن الكثير من سياساتنا ومشاكلنا. أما الزيف فيمحونا من سجلنا التاريخي؛ إذ يصعب استشفاف الغاية منه.

ماذا يخبئ لنا المستقبل؟ ماذا سيفعل الذكاء الاصطناعي بالفن؟ كيف سنتعامل مع عالمٍ تندر فيه الوظائف، ويتصاعد فيه العنف، ويتم فيه تجاهل علوم المناخ بشكل ممنهج؟

الحفاظ على صحة الدماغ

كيف تعلمتُ الحفاظ على صحة دماغي؟ تتحدث هيلين تومسون، كاتبة عمود في علم الأعصاب، عن تغييرات بسيطة أحدثت فرقاً كبيراً في صحتها هذا العام.

• غذاء صحي: لقد تعلمت أن أعيش بنمط حياة صحي. كل صباح، أضيف ملعقة من الكرياتين إلى الماء، وأشربه مع الفيتامينات المتعددة، ثم أتناول بعض الزبادي العادي الغني بالبكتيريا. ويتناول أطفالي حبوب الإفطار المنزلية، ويشربون الكفير، ويحاولون التحدث بالإسبانية باستخدام تطبيق «دولينغو». وبعد توصيلهم إلى المدرسة، أغطس في بركة ماء باردة، ثم أستريح في الساونا قبل العمل. لاحقاً، أضيف دائماً ملعقة من مخلل الملفوف إلى غدائي، ولا أفوّت فرصة للمشي قليلاً في الحديقة.

حياتي الجديدة المفعمة بالرضا هي نتيجة مباشرة لقضاء عام كامل في البحث عن طرق مثبتة علمياً للحفاظ على صحة الدماغ - من تعزيز الاحتياطي المعرفي إلى تنمية ميكروبيوم صحي. الآن، وأنا أُقيّم الوضع، أرى أن تغييرات بسيطة أحدثت فرقاً كبيراً.

• تجربة طبية. جاء أحد أبسط الدروس من جو آن مانسون في مستشفى بريغهام والنساء في ماساتشوستس، التي أرسلت إلي تفاصيل تجربة واسعة النطاق على كبار السن تُظهر أن تناول الفيتامينات المتعددة يومياً يُبطئ التدهور المعرفي بأكثر من 50 في المائة. وعندما سألت خبراء آخرين عن المكملات الغذائية، إن وُجدت، التي قد تُعزّز صحة الدماغ، برز الكرياتين في ذهني - فهو يُزود الدماغ بمصدر طاقة عندما يكون في أمس الحاجة إليه. لكن التغيير حدث في سلة مشترياتنا الأسبوعية؛ إذ أقنعتني محادثاتي مع علماء الأعصاب وخبراء التغذية بأهمية العناية المستمرة بميكروبيوم الأمعاء. لذا؛ بدأت عائلتي بتطبيق ذلك: تناول ثلاثة أنواع من الأطعمة المخمرة يومياً بناءً على نصيحة عالم الأوبئة تيم سبيكتور، والامتناع عن تناول الأطعمة فائقة المعالجة في وجبة الإفطار، والحرص على إدخال مزيج متنوع من الأطعمة الكاملة في نظامنا الغذائي.

• التواصل مع البيئة. كما أن التعرّض للبرد والحرارة يُمكن أن يُقلل من الالتهابات والتوتر، ويُعزز التواصل بين الشبكات الدماغية المسؤولة عن التحكم في العواطف واتخاذ القرارات والانتباه؛ ما قد يُفسر ارتباطها بتحسين الصحة النفسية. كما أصبح الخروج إلى الطبيعة أولويةً عائلية. فقد تعلمتُ أن البستنة تُعزز تنوع بكتيريا الأمعاء المفيدة، بينما قد يُفيد المشي في الغابات الذاكرة والإدراك، ويُساعد على الوقاية من الاكتئاب.

والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو سرعة ظهور النتائج. فبينما تُعدّ بعض العادات استثماراً طويل الأمد في الصحة الإدراكية، إلا أنني مقتنعة بأن عادات أخرى كان لها تأثير فوري: أطفال أكثر هدوءاً، وتحسن في التركيز، وطاقة أكبر. ربما يكون تأثيراً وهمياً، لكن هناك ما يُجدي نفعاً.

مذنبات كونية متألقة

أما شاندا بريسكود - وينشتاين، كاتبة عمود في مجلة «سبيس - تايم»، فقد قدمت ملاحظات ميدانية حول كيفية تصدّر المذنبات عناوين الأخبار في عام 2025.

• المذنب «ليمون» لقد كان عام 2025 حافلاً بالمذنبات. فقد اكتُشف المذنب ليمون Lemmon في يناير (كانون الثاني) الماضي، وظلّ حديث الساعة لمدة تسعة أشهر. كانت صور ذيل ليمون الطويل والجميل، الناتج من تسخين الشمس للمذنب، تخطف أنفاسي في كل مرة.

• المذنب «سوان». ثم كان هناك اكتشاف المذنب C/2025 R2 (سوان) في سبتمبر (أيلول)، وهو مذنب شديد السطوع لدرجة أنه حتى عندما كان قريباً من القمر في عيد «الهالوين»، كان لا يزال مرئياً بوضوح للمراقبين. وكان هناك أيضاً المذنب 3I/أطلس، الذي اشتهر بعد أن أعلن عالم فلك في جامعة هارفارد، متخصص في علم الكونيات، أنه مسبار فضائي.

إن رحلتنا مع المذنبات هذا العام ليست سوى أحدث حلقة في سلسلة طويلة من ردود فعل البشر تجاه الأجرام السماوية الغامضة التي تظهر في السماء. وبينما نستذكر العام الماضي، شهدنا أحداثاً كثيرة مخيفة ومُحبطة؛ ما قد يدفعنا للاعتقاد بأن هذه المذنبات ربما نذرت بنهاية العالم كما نعرفه.

«إنسان دينيسوفان»

«إنسان دينيسوفان» قلب مفاهيمنا عن الإنسان القديم رأساً على عقب. وهنا يستعرض مايكل مارشال، كاتب عمود «قصة الإنسان»، أهم اكتشافات «إنسان دينيسوفان» لهذا العام.

يصادف هذا العام مرور 15 عاماً على اكتشافنا «إنسان دينيسوفان»، وهي إنسان من مجموعة من البشر القدماء الذين عاشوا في ما يُعرف اليوم بشرق آسيا قبل عشرات آلاف السنين. وقد أثار هذا الإنسان فضولي منذ ذلك الحين؛ لذا سررتُ هذا العام برؤية سلسلة من الاكتشافات المثيرة التي وسّعت فهمنا لمكان عيشهم وهويتهم.

• أدلة من جزيئات إصبع. كان «إنسان دينيسوفان» أول أشباه البشر الذين تم اكتشافهم بشكل أساسي من خلال الأدلة الجزيئية. وكانت أول أحفورة معروفة عبارة عن عظمة إصبع من كهف دينيسوفا في سيبيريا، التي كانت صغيرة جداً بحيث لا يمكن التعرف عليها من خلال شكلها، ولكنها أسفرت عن تحليل الحمض النووي في عام 2010. وأشارت النتائج الجينية إلى أن «إنسان دينيسوفان» كان مجموعة شقيقة لـ«إنسان نياندرتال»، الذي عاش في أوروبا وآسيا. كما أظهرت النتائج أيضاً أنهم تزاوجوا مع الإنسان الحديث.

واليوم، يمتلك سكان بعض مناطق جنوب شرقي آسيا، مثل بابوا غينيا الجديدة والفلبين، أعلى نسب الحمض النووي لـ«إنسان دينيسوفان» في جينوماتهم.

ومنذ ذلك الحين، سعى الباحثون جاهدين للعثور على المزيد من الأمثلة على «إنسان دينيسوفان»، لكنّ هذه الجهود كانت بطيئة. ولم يظهر مثال ثانٍ إلا في عام 2019: عظم فك من كهف بايشيا كارست في شياخه على هضبة التبت.

• اكتشافات جديدة. ثم جاء عام 2025 وتدفقت الاكتشافات الجديدة. ففي أبريل (نيسان) الماضي، تأكد وجود «إنسان دينيسوفان» في تايوان. وأكد الباحثون هذا الاكتشاف الآن باستخدام البروتينات المحفوظة داخل الأحفورة. ثم في يونيو (حزيران) الماضي عُثر على أول وجه لإنسان، حيث وُصفت جمجمة من مدينة هاربين شمال الصين عام 2021، وسُميت نوعاً جديداً.

حتى الآن، تبدو هذه النتائج منطقية للغاية. كما أنها رسمت صورة متكاملة لـ«إنسان دينيسوفان» كإنسان ضخم البنية.

وكان الاكتشافان الآخران في عام 2025 مفاجأتين كبيرتين. ففي سبتمبر، أُعيد بناء جمجمة مهشمة من يونشيان في الصين. ويبدو أن جمجمة يونشيان 2 تعود إلى «إنسان دينيسوفان» مبكر، وهو اكتشاف مثير للاهتمام؛ نظراً لقدمها التي تبلغ نحو مليون عام. ويشير هذا إلى أن «إنسان دينيسوفان» كان موجوداً مجموعةً منفصلة منذ مليون عام على الأقل، أي قبل مئات آلاف السنين مما كان يُعتقد سابقاً. كما يدل هذا على أن السلف المشترك بيننا وبين «إنسان نياندرتال»، والمعروف باسم السلف العاشر، قد عاش قبل أكثر من مليون عام.

• استخلاص جينوم من سن وحيدة. بعد شهر واحد فقط، أعلن علماء الوراثة عن ثاني جينوم عالي الجودة لـ«إنسان دينيسوفان»، والذي استُخرج من سنّ عمرها 200 ألف عام في كهف دينيسوفا. الأهم من ذلك، أن هذا الجينوم كان مختلفاً تماماً عن الجينوم الأول المُبلغ عنه، والذي كان أحدث عهداً، كما أنه كان مختلفاً عن الحمض النووي للـ«دينيسوفان» لدى البشر المعاصرين.

ويُشير هذا إلى وجود ثلاث مجموعات على الأقل من الـ«دينيسوفان»: مجموعة مبكرة، ومجموعة لاحقة، ومجموعة تزاوجت مع جنسنا البشري. هذه المجموعة الثالثة، من الناحية الأثرية، تظل لغزاً محيراً.

* مجلة «نيو ساينتست» - خدمات «تريبيون ميديا»