الأولوية للتنمية البشرية وليست الإنتاجية
لعقود طويلة، قيل لنا إن التكنولوجيا ستُحررنا من العمل الروتيني، لكننا بطريقة ما أصبحنا أكثر ارتباطاً بمكاتبنا من أي وقت مضى. والآن، يُشير بحثٌ رائدٌ من GoTo إلى أننا قد نصل أخيراً إلى نقطة تحول حيث لا يَعِدنا الذكاء الاصطناعي بالحرية فحسب، بل يُحققها، كما كتبت د. ناتالي نيكسون(*).
لكن الاكتشاف الحقيقي لا يتمثل في أن الذكاء الاصطناعي قد يُلغي أهمية المكاتب، بل إن الذكاء الاصطناعي يُهيئ الظروف لما أسميه «العمل المُركّز على الصقل» -وهو نهج يُعطي الأولوية للتنمية البشرية على الإنتاجية والأداء.
التحرير العظيم لقيود مكان العمل
تُشير الأرقام إلى أحداث مُقنعة، إذ يعتقد 51 في المائة من الموظفين أن الذكاء الاصطناعي سيجعل المكاتب التقليدية في نهاية المطاف مُهملة، فيما يُفضل 62 في المائة العمل من بُعد المُعزز بالذكاء الاصطناعي على بيئات المكاتب التقليدية. لكن ما يجعل هذا التحول عميقاً هو أنه لا يتعلق برفض التواصل الإنساني، بل يتعلق باستعادة استقلالية اختيار متى وأين وكيف نتفاعل بشكل أكثر جدوى مع عملنا وزملائنا.
هذا يتماشى تماماً مع المبادئ الأساسية لكتابي «تحرك. فكر. استرح Move. Think. Rest». عندما يقول 71 في المائة من العاملين إن الذكاء الاصطناعي يمنحهم مرونة أكبر وتوازناً بين العمل والحياة، فإنهم يصفون الظروف اللازمة للتطوير الحقيقي. إنهم يتحدثون عن وجود وقت للتفكير بعمق، ومساحة للتحرك بشكل طبيعي طوال يومهم، وإذن بالراحة عندما تتطلب أجسادهم وعقولهم ذلك.
من الاستخراج إلى التكامل
ما يلفت الانتباه بشكل خاص في بحث GoTo هو كيف يكشف عن قدرة الذكاء الاصطناعي على دعم كامل نطاق التجربة الإنسانية في العمل. وبينما تطلبت نماذج الإنتاجية التقليدية منَّا تقسيم أنفسنا -لنظهر كأدمغة منفصلة تركز فقط على الإنتاج- فإن بيئات العمل المعززة بالذكاء الاصطناعي تخلق مساحة للتكامل.
عندما يُفيد الموظفون بأن الذكاء الاصطناعي يُتيح لهم «العمل في أي مكان دون فقدان الإنتاجية» (66 في المائة)، فإنهم في الواقع يُعبّرون عن حرية مواءمة إيقاعات عملهم مع دورات طاقتهم الطبيعية. إذ يُمكنهم عقد اجتماعات سيراً على الأقدام في الطبيعة، والتفكير في المشكلات في أثناء الحركة، وتهيئة الظروف البيئية التي تُعزز تفكيرهم بشكل أفضل.
فجوة التعلّم
ومع ذلك، يكشف البحث أيضاً عن فجوة مُقلقة يجب على المؤسسات معالجتها. فبينما يعتقد 91 في المائة من قادة تكنولوجيا المعلومات أن شركاتهم تستخدم الذكاء الاصطناعي بفاعلية لدعم الفرق الموزعة، فإن 53 في المائة فقط من الموظفين من بُعد، والعاملين الهجينين، يُوافقون على ذلك. ولا تقتصر هذه الفجوة على نشر التكنولوجيا فحسب، بل تتعلق بفهم الفرق بين استخدام الذكاء الاصطناعي لمحاكاة نماذج الإنتاجية القديمة والاستفادة منه لدعم ازدهار الإنسان.
والشركات التي تُسدّ هذه الفجوة بنجاح هي تلك التي تطرح أسئلة مُختلفة. فبدلاً من «كيف يُمكن للذكاء الاصطناعي أن يجعل الناس أكثر إنتاجية؟»، تتساءل: «كيف يُمكن للذكاء الاصطناعي أن يُهيئ ظروفاً تُمكّن الناس من الازدهار بشكل طبيعي؟». إن تلك الشركات تصمم تطبيقات للذكاء الاصطناعي لكي تدعم الركائز الثلاث للتطوير: الحركة (المرونة في العمل في بيئات مختلفة)، والتفكير (الوقت والمساحة للتأمل العميق)، والراحة (الإذن بالانفصال وإعادة الشحن).
التأثير الذي يتحدى السن
تتحدى إحدى أكثر النتائج المشجعة الافتراضات التمييزية ضد كبار السن حول تبني التكنولوجيا. إذ يُظهر البحث أنه عبر جميع الأجيال -من 90 في المائة من العاملين من بُعد من جيل الشباب الحالي إلى 74 في المائة من جيل طفرة المواليد- يُعلن الناس تحسناً في الإنتاجية من خلال العمل من بُعد المُعزز بالذكاء الاصطناعي. وهذا يُشير إلى أمر بالغ الأهمية: عندما تُلبي التكنولوجيا الاحتياجات البشرية حقاً بدلاً من مطالبة الناس بالتكيف مع إيقاعات الآلة، يُمكن لجميع الأعمار الاستفادة.
تُشير هذه الوحدة الجيلية إلى إمكانات الذكاء الاصطناعي بوصفها قوة مُساوية -ليس بمعنى جعل الجميع مُتشابهين، ولكن في تكريم الطرق المُتنوعة التي يفكر بها الناس ويُعالجون ويُساهمون بها.
ولعل الأمر الأكثر دلالة هو أن 61 في المائة من الموظفين -بمن فيهم العاملون في المكاتب- يعتقدون أن على المؤسسات إعطاء الأولوية للاستثمار في الذكاء الاصطناعي على وسائل الراحة الفاخرة في مكان العمل. والأمر لا يتعلق هنا باختيار التكنولوجيا على حساب التجربة البشرية. بل يتعلق الأمر بإدراك أن تجربة الموظف الحقيقية تنبع من امتلاك الأدوات والمرونة اللازمة لأداء عمل هادف بطرق تُكرّم إنسانيته الكاملة.
الطريق إلى الأمام
مع إعادة صياغة الذكاء الاصطناعي للعمل، لدينا خيار: إما أن نستخدمه لابتكار أشكال أكثر تطوراً من المراقبة واستخلاص الإنتاجية الكبرى، وإما أن نستغله لتحقيق وعد التكنولوجيا في خدمة ازدهار الإنسان. ستجد المؤسسات التي تختار الخيار الأخير نفسها تتمتع بميزة تنافسية عميقة: موظفون ليسوا أكثر إنتاجية فحسب، بل أكثر إبداعاً وتفاعلاً وقدرة على التفكير المُبتكر الذي يُحفّز الابتكار.
السؤال ليس عمّا إذا كان الذكاء الاصطناعي سيُحوّل العمل -فهو يُغيّره بالفعل- وإنما السؤال هو عمّا إذا كنا سنستخدم هذا التحول لإنشاء أماكن عمل تُنمّي الإمكانات البشرية أم يهدف إلى تحسين الإنتاج البشري فحسب. ويُشير بحث GoTo إلى أن الموظفين مُستعدّون للتطوير. السؤال هو: هل قادتهم مستعدون كذلك؟
* اختصاصية في استراتيجية الإبداع ورئيسة شركة «فيغور 8 ثنكنغ»، مجلة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا».

