جمهورية «ماسبيرو» الإعلامية

تضم 40 ألف موظف.. وأرهقتها الديون

مبنى «ماسبيرو» على كورنيش القاهرة (صورة أرشيفية)
مبنى «ماسبيرو» على كورنيش القاهرة (صورة أرشيفية)
TT

جمهورية «ماسبيرو» الإعلامية

مبنى «ماسبيرو» على كورنيش القاهرة (صورة أرشيفية)
مبنى «ماسبيرو» على كورنيش القاهرة (صورة أرشيفية)

عشرات الممرات الدائرية تمشي فيها بلا دليل، تؤدي بك إلى ممرات دائرية جديدة، من طابق إلى طابق، حتى تشعر بالإرهاق وتبحث عن مرشد. أنت الآن في مبنى ماسبيرو. من الصعب على الموظف الجديد أو الضيف الوصول إلى نهاية في متاهة شبه معتمة دون مساعدة.
جرى تأسيس المبنى على هيئة أسطوانية من الخارج والداخل عام 1959. يشرف على كورنيش نيل القاهرة، وله أبواب ضخمة موزعة على الاتجاهات الأربعة، ومجموعة من المصاعد في كل جانب تقريبا. يقول المثل القديم إن من يتحكم في ماسبيرو يتولى السلطة في أكبر بلدان منطقة الشرق الأوسط سكانا. أحاطت به الدبابات والمدرعات في أيام الحروب وأيام الثورات وأيام الفوضى.
وبينما الزمن يجري ويتغير مثل جريان النهر، ظل ماسبيرو، بجيوش الموظفين فيه، واقفا في ثبات، حتى أدركه سيل إعلام القطاع الخاص والفضائيات التلفزيونية والمحطات الإذاعية العابرة للحدود، إضافة للإنترنت. واليوم، وبينما يستعد أول برلمان منتخب في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، لتعديل القوانين المنظمة للعمل الإعلامي، بدأ المبنى ينفض غبار السنين عن نفسه ويبحث عن طريق مغاير في عالم مختلف.
يقدر عدد العاملين في ماسبيرو بنحو 40 ألفا. لهذا أغلب الموظفين في الداخل بلا مكاتب. يتبادلون الوقوف في الممرات لشرب الشاي والتدخين. أما في الشوارع المجاورة، وفي الجراجات الثلاثة القريبة، فإنك لا تجد مكانا لصف السيارة، لدرجة أن البعض يطلق على المبنى «جمهورية ماسبيرو الإعلامية». يبلغ عدد القنوات التلفزيونية التي يديرها ويبثها نحو عشرين قناة، والمحطات الإذاعية نحو عشرين محطة. ومع ذلك يعاني ضعف القدرة على المنافسة، ومن ديون بمئات الملايين من الدولارات.
«الزحام فيه أصبح يخنق الإبداع».. هكذا تقول سكينة فؤاد، وهي عضو في لجنة حاولت إصلاح أوضاع ماسبيرو في مرحلة ما بعد مبارك. كما أنها مستشارة سابقة للرئاسة المصرية. وتضيف: «يجب إعادة الهيكلة وتكوين المؤسسات المعنية بالإعلام التي نص عليها الدستور». وتحتفظ السيدة فؤاد بذكريات كثيرة عن المبنى الذي عملت فيه كإعلامية ورئيسة تحرير لعقود من الزمن: «آن الأوان لكي يشترك الجميع في رسم خريطة لمستقبل ماسبيرو».
الاسم الحقيقي والرسمي لهذا الصرح الذي يصل ارتفاعه اليوم لنحو ثلاثين طابقا، هو «اتحاد الإذاعة والتلفزيون». استمد شهرته من شارع يحمل اسم العالم الفرنسي، جاستون ماسبيرو، الذي كان يشغل قبل 130 سنة منصب مدير مصلحة الآثار المصرية. وبالقرب من منطقة بولاق أبو العلا الفقيرة، وقصور الباشاوات المهجورة، والمتحف المصري ذي اللون الأحمر، جرى وضع أولى لبنات المبنى ليكون، منذ بداية ستينات القرن الماضي، علامة على مرحلة جديدة في عمر المصريين، ولتخرج منه، وتنتقل عبر الأثير، خطب عبد الناصر والسادات ومبارك، وبيانات الثورة والتحرير والحرب والهزيمة والتنحي. واليوم تبدو الأضواء عبر الممرات خافتة وكابية.
وبعد ثورة 2011 جاء للحكم المجلس العسكري، ثم محمد مرسي، ومن بعده الرئيس المؤقت عدلي منصور، إلى أن تولى الرئيس عبد الفتاح السيسي السلطة منتصف العام الماضي. وخلال السنوات الأربع الأخيرة انخفض عدد العاملين في ماسبيرو بمقدار يتراوح بين خمسة آلاف وتسعة آلاف، لسببين؛ الأول تقليص تعيين موظفين جدد، والثاني خروج القدامى للتقاعد. ويقول مسؤول حكومي إنه إذا استمرت الخطة (أي وقف التعيينات) فقد ينخفض العدد ألوفا أخرى.
من ثنايا اللغط الدائر هذه الأيام حول ماسبيرو ومستقبله تستطيع أن تدرك أن قنواته ومحطاته، رغم الفقر، ما زالت المعبِّر الرسمي عن الدولة، لكن الدكتور أحمد كامل، مستشار الإعلام السياسي بالعاصمة المصرية، يقول إنه وعلى عكس الصحف والإذاعات الرسمية، فقد التلفزيون، وهو جزء من ماسبيرو، قدرته على أن يكون مؤثرا على الجمهور في الداخل والخارج.
«رغم كل شيء ما زال في ماسبيرو ما يرمز للسلطة.. إنه أحد مصادر القوة والبريق التي لم تخفت بعد»، يقول الدكتور ياسر عبد العزيز، الذي عمل في السابق مستشارا لدى هيئة الإذاعة البريطانية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويضيف موضحا أن مشكلة ماسبيرو اليوم هي «نتيجة لعقود من التوظيف الدعائي لأدوات الدولة الإعلامية وهيمنة السلطة التنفيذية على تلك الأدوات»، إلى جانب «التوظيف على أسس اجتماعية، أي بالواسطة والمحسوبية والولاء».
منذ غياب مبارك تغيرت أشياء كثيرة، من بينها انفتاح المجال على مصراعيه لقنوات التلفزيون الخاصة، ومنها، وهو الأهم، إلغاء وزارة الإعلام التي ظلت من الوزارات المهمة وذات الحساسية لأنها تشرف على لسان الدولة في الداخل والخارج. وبدلا من ذلك، نصت المادة 213 من الدستور الذي جرى إقراره العام الماضي، على تكوين «هيئة مستقلة تقوم على إدارة المؤسسات الإعلامية المرئية والإذاعية والرقمية المملوكة للدولة، وتطويرها، وتنمية أصولها، وضمان استقلالها وحيادها، والتزامها بأداء مهني، وإداري، واقتصادي رشيد».
وتحتاج المادة الدستورية إلى قانون يحولها إلى واقع. ومن المنتظر أن يقوم البرلمان بهذه المهمة. ومثل ألوف العاملين في اتحاد الإذاعة والتلفزيون، يخشى معد البرامج، محمود، البالغ من العمر 42 عاما، من الإحالة للتقاعد أو النقل إلى وظائف أخرى تابعة للدولة أيضا. وتتضمن تقارير جرى إعدادها من قبل لجان مكلفة من الحكومة ببحث مشكلة ماسبيرو اقتراحات عديدة من بينها المقترح الأصعب، وهو «تخفيض العمالة». لكن موظفين كبارا في المبنى لديهم حلول بسيطة ومعروفة؛ أي «العمل بنفس طريقة القنوات المنافسة».
كما أن التلفزيون والإذاعة كانا قبل 30 سنة يبتكران كل شيء.. المسلسلات، فوازير رمضان، حفلات أضواء المدينة، البرامج الثقافية والسياسية والدينية، فقرات الأطفال التي كان ينتظرها الصغار والكبار.. الخ. ويضيف محمود: «انظر كيف تغير الزمن، بينما أنت تعمل بنفس الآليات القديمة. مثلا حين تتحدث عن انخفاض مستوى ضيوف عدة قنوات تلفزيونية رسمية، يقال لك إن قنوات ماسبيرو لا تعطي مقابل استضافة متحدث سواء كان سياسيا أو معلقا على الأحداث أو خبيرا، بينما القنوات المنافسة، من القطاع الخاص المحلي أو القنوات العربية والأجنبية، تدفع للضيف».
رواتب الإعلاميين والفنيين الزهيدة تدفعهم للعمل مع قنوات أخرى منافسة. «راتبي لا يكفي نفقات المعيشة»، يقول محمود، الذي يعمل بعد دوامه الرسمي، مثل كثيرين من زملائه، لصالح قنوات خاصة تبث برامج دردشة مسائية. ولا يوجد في لوائح ماسبيرو ما يمنع ذلك.
ومن الاقتراحات الأخرى التي تجري دراستها منع موظفي ماسبيرو، من مصورين ومعدين ومخرجين، من التعاقد مع قنوات خاصة طالما هم متعاقدون مع اتحاد الإذاعة والتلفزيون. وتقول السيدة فؤاد إن إحدى مهام المجلس النيابي الجديد «تفعيل القوانين الخاصة بالإعلام.. أتصور أنه يجب النظر أولا في أحوال العاملين، بحيث لا يمكن أن يكون كل من دخل من باب المبنى قد تحول إلى مقدم برامج ومذيع. يجب النظر بحيادية ومهنية بما يحفظ حقوق العاملين والمشاهدين في إعلام حقيقي».
لا أحد ينكر أن ماسبيرو فيه كفاءات كثيرة. بكل بساطة يقال لك إن غالبية المذيعين والعاملين في عشرات القنوات المملوكة للقطاع الخاص هم أبناء ماسبيرو أساسا. وتعلق سكينة فؤاد قائلة: «أرى أن ماسبيرو يمتلئ بالكفاءات، والإعلام الخاص كله أخذ من ماسبيرو، لكن المشكلة تكمن في تنظيم العمل الداخلي.. لا بد من إعادة توزيع العمالة على أسس موضوعية». وتقول: «أثق في وجود القدرة على إعادة الهيكلة وترتيب الأوضاع داخل هذا البيت الضخم».
في الوقت الراهن توجد لجنة وطنية مشكلة من أساتذة وخبراء في الإعلام ومن أبناء المهنة، تقوم بوضع دراسات بشأن ماسبيرو.. «ويجب احترام رأيهم والأخذ به». ومثل كثيرين يرفضون العصف بحقوق العاملين فيه، تقول سكينة فؤاد إن المطلوب ليس المساس بهؤلاء، لكن المشكلة أن كل من يدخل من باب المبنى بصفة وظيفية يتركها ويحمل صفة أخرى.. «هذا أدى لاختلاط الأمور بشدة». وتضيف أن «ما نحتاجه هو أن تتاح فرصة لكل مذيع ولكل مقدم برامج. الزحام يخنق الجميع ويخنق الإبداع. هل هذا يعني العصف بحقوق العاملين؟ لا، لكنْ، مطلوب ترتيب البيت من الداخل بعدالة ومهنية دون واسطة، وألا يكون هناك تمييز إلا بالكفاءة».
من أعلى كوبري السادس من أكتوبر في وسط القاهرة، ومن الكورنيش القريب من مقر وزارة الخارجية المصرية، يمكن أن ترى الهوائي الضخم والأطباق اللاقطة لأجهزة إرسال اتحاد الإذاعة والتلفزيون. وتوجد في مصر ثلاثة أذرع إعلامية رئيسية تعد بمثابة صوت الدولة.. الذراع الأولى تتمثل في «ماسبيرو»، والثانية «وكالة أنباء الشرق الأوسط»، والثالثة «الهيئة العامة للاستعلامات».
وتقدر رواتب العاملين في ماسبيرو فقط بنحو ربع مليار جنيه (الدولار يساوي نحو 8 جنيهات). ويقول الدكتور عبد العزيز إن «ماسبيرو رغم ما فيه من إشكاليات كبيرة فإنه ما زال لديه عدد من مصادر البريق، مثل التعبير عن صوت الدولة وسياستها وقراراتها، لأن ما يقال عبر التلفزيون العام هو يمثل العموم ويخاطب العموم، وهذا الأمر موجود في كل الدول، سواء كانت دولا متقدمة أو غير متقدمة. والمصدر الآخر من مصادر البريق أن ماسبيرو يمتلك ثروة من المصنفات التي تعود لعقود سابقة، وتتميز بالكثير من الأهمية، ولها أبعاد وجدانية ووطنية».
إلا أن «هيكل الموارد البشرية في ماسبيرو لم يتم انتقاؤه وفق أسس أو معايير مهنية»، كما يوضح عبد العزيز، مشيرا إلى أن «آليات الترقي والصعود اعتمدت لسنوات على المحسوبية والولاء. الدولة غضت الطرف عن أساليب الإنفاق الخاطئة، فتراكمت الديون حتى تجاوزت 22 مليار جنيه». وهو يرى أن الدولة أيضا لم تضمن ترقية أدوات التلفزيون العام التنافسية «فبات عاجزا عن الوفاء بدوره الأساسي، وهو أن يكون مصدر الاعتماد الرئيسي للمواطنين في ما يخص الأخبار والمعلومات والتثقيف والترفيه عبر وسائل الإعلام».
رغم كل شيء فإن ماسبيرو ما زال يمتلك دائرة صناعة إعلامية متكاملة، من معدات واستوديوهات، وإشارات البث، وحصص في بعض المشاريع الإعلامية العملاقة مثل «نايل سات»، أو كما يؤكد عبد العزيز: «ما زالت تتوافر فيه بعض مصادر القوة والأهمية، ومنها أن به عددا كبيرا من الإعلاميين المميزين، وإن كانت آليات العمل فيه لا تسمح بإطلاق قدراتهم على النحو المأمول».
و«الحل بسيط»، وفقا للدكتور عبد العزيز، وهو تفعيل المادة 213 من الدستور، لكنه يقول إن تفعيلها «لا بد أن يكون متلائما مع روح الدستور واستحقاقاته في ما يتعلق بوسائل الإعلام العامة، خاصة ما ورد في المادة 72 والتي تنص على التزام الدولة بضمان استقلال وسائل الإعلام المملوكة لها، بما يكفل حيادها، وتعبيرها عن كل الآراء والاتجاهات السياسية والفكرية والمصالح الاجتماعية، ويضمن المساواة وتكافؤ الفرص في مخاطبة الرأي العام». ويضيف: «من الممكن أن تكون قريبة من تجربة (بي بي سي)».
المشكلة أن ماسبيرو ليس جسما عاديا. إنه يشبه الأخطبوط بأذرعه الكثيرة، بغض النظر عن قدرته على التأثير أو الربح.. يوجد ضمن شبكة «التلفزيون المصري» كل من «القناة الأولى» و«القناة الثانية» و«الفضائية المصرية» و«الفضائية الموجهة للولايات المتحدة الأميركية». ومن كثرة الأبواب المطلة على الممرات الدائرية من الصعب أن تعرف من أين دخلت وكيف تخرج. ويقول المعد محمود: «كثيرٌ من الضيوف يتوهون. المشي داخل المبنى يحتاج خبرة». وتبث قنوات هذه الشبكة نحو 34789 ساعة في السنة وفقا للجهاز المركزي للإحصاء. وتشمل شبكة «تلفزيون النيل» عدة قنوات متخصصة هي «النيل»، و«سينما» و«الثقافية» و«المنوعات» و«الأسرة والطفل» و«الرياضة» و«التعليمية» و«البحث العلمي» و«التعليم العالي» و«كوميدي». وتبث القنوات المتخصصة في السنة 76409 ساعات وفقا للمصدر نفسه. ومن قنوات شبكة «تلفزيون المحروسة» (خاصة بالأقاليم المصرية)، قناة «القاهرة» و«الدلتا» و«الإسكندرية» و«القنال» و«الصعيد» و«طيبة». وتبث 35856 ساعة في السنة.
أما المحطات الإذاعية فأهمها «الإذاعة العامة» التي تبث من خلالها إذاعات ذات تاريخ مثل «البرنامج العام» منذ سنة 1934، و«صوت العرب»، و«القرآن الكريم» و«الشرق الأوسط» و«الأغاني» و«راديو مصر» و«البرنامج الثقافي» و«الشباب والرياضة» و«البرنامج الموسيقى» و«البرنامج الأوروبي» و«الأخبار والموسيقى»، و«التعليمية»، بالإضافة إلى إذاعات أخرى إقليمية وموجهة.



استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)
TT

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)

تلعب وسائل الإعلام المرئية المحلية دورها في تغطية الحرب الدائرة اليوم على لبنان.

نوع من «التجنيد الإجباري» فرضته هذه الحالة على المحطات التلفزيونية وموظفيها ومراسليها، فغالبيتهم يمضون نحو 20 ساعة من يومهم في ممارسة مهامهم. وبعضهم يَصِلون ليلهم بنهارهم في نقل مباشر وموضوعي، وآخرون يضعون دمهم على كفّ يدهم وهم يتنقلون بين مناطق وطرقات تتعرّض للقصف. أما رؤساء التحرير ومقدِّمو البرامج الحوارية اليومية، فهم عندما يحوزون على ساعات راحة قليلة، أو يوم إجازة، فإنهم يشعرون كما السمك خارج المياه. ومن باب مواقعهم ومسؤولياتهم الإعلامية، تراهم يفضلون البقاء في قلب الحرب، وفي مراكز عملهم؛ كي يرووا عطشهم وشهيّتهم للقيام بمهامهم.

المشهدية الإعلامية برمّتها اختلفت هذه عن سابقاتها. فهي محفوفة بالمخاطر ومليئة بالصدمات والمفاجآت من أحداث سياسية وميدانية، وبالتالي، تحقن العاملين تلقائياً بما يشبه بهرمون «الأدرينالين». فكيف تماهت تلك المحطات مع الحدث الأبرز اليوم في الشرق الأوسط؟

الدكتورة سهير هاشم (إنستغرام)

لم نتفاجأ بالحرب

يصف وليد عبود، رئيس تحرير الأخبار في تلفزيون «إم تي في» المحلي، لـ«الشرق الأوسط»، حالة الإعلام اللبناني اليوم بـ«الاستثنائية». ويضيف: «إنها كذلك لأننا في لبنان وليس عندنا محطات إخبارية. وهي، بالتالي، غير مهيأة بالمطلق للانخراط ببث مباشر يستغرق ما بين 18 و20 ساعة في اليوم. بيد أن خبراتنا المتراكمة في المجال الإعلامي أسهمت في تكيّفنا مع الحدث. وما شهدناه في حراك 17 أكتوبر (تشرين الأول) الشعبي، وفي انفجار مرفأ بيروت، يندرج تحت (الاستنفار الإعلامي) ذاته الذي نعيشه اليوم».

هذا «المراس» - كما يسميه عبود - «زوّد الفريق الإخباري بالخبرة، فدخل المواكبة الإعلامية للحرب براحة أكبر، وصار يعرف الأدوات اللازمة لهذا النوع من المراحل». وتابع: «لم نتفاجأ باندلاع الحرب بعد 11 شهراً من المناوشات والقتال في جنوب لبنان، ضمن ما عرف بحرب المساندة. لقد توقعنا توسعها كما غيرنا من محللين سياسيين. ومن كان يتابع إعلام إسرائيل لا بد أن يستشفّ منه هذا الأمر».

جورج صليبي (إنستغرام)

المشهد سوريالي

«يختلف تماماً مشهد الحرب الدائرة في لبنان اليوم عن سابقاته». بهذه الكلمات استهل الإعلامي جورج صليبي، مقدّم البرامج السياسية ونشرات الأخبار في محطة «الجديد» كلامه لـ«الشرق الأوسط». وأردف من ثم: «ما نشهده اليوم يشبه ما يحصل في الأفلام العلمية. كنا عندما نشاهدها في الصالات السينمائية نقول إنها نوع من الخيال، ولا يمكنها أن تتحقق. الحقيقة أن المشهد سوريالي بامتياز حتى إننا لم نستوعب بسرعة ما يحصل على الأرض... انفجارات متتالية وعمليات اغتيال ودمار شامل... أحداث متسارعة تفوق التصور، وجميعها وضعتنا للحظات بحالة صدمة. ومن هناك انطلقنا بمشوار إعلامي مرهق وصعب».

وليد عبود (إنستغرام)

المحطات وضغوط تنظيم المهام

وبالفعل، منذ توسع الحرب الحالية، يتابع اللبنانيون أخبارها أولاً بأول عبر محطات التلفزيون... فيتسمّرون أمام الشاشة الصغيرة، يقلّبون بين القنوات للتزوّد بكل جديد.

وصحيحٌ أن غالبية اللبنانيين يفضّلون محطة على أخرى، لكن هذه القناعة عندهم تتبدّل في ظروف الحرب. وهذا الأمر ولّد تنافساً بين تلك المحطات؛ كي تحقق أكبر نسبة متابعة، فراحت تستضيف محللين سياسيين ورؤساء أحزاب وإعلاميين وغيرهم؛ كي تخرج بأفكار عن آرائهم حول هذه الحرب والنتيجة التي يتوقعونها منها. وفي الوقت نفسه، وضعت المحطات جميع إمكاناتها بمراسلين يتابعون المستجدات على مدار الساعات، فيُطلعون المشاهد على آخر الأخبار؛ من خرق الطيران الحربي المعادي جدار الصوت، إلى الانفجارات وجرائم الاغتيال لحظة بلحظة. وفي المقابل، يُمسك المتفرجون بالـ«ريموت كونترول»، وكأنه سلاحهم الوحيد في هذه المعركة التنافسية، ويتوقفون عند خبر عاجل أو صورة ومقطع فيديو تمرره محطة تلفزيونية قبل غيرها.

كثيرون تساءلوا: كيف استطاعت تلك المحطات تأمين هذا الكمّ من المراسلين على جميع الأراضي اللبنانية بين ليلة وضحاها؟

يقول وليد عبود: «هؤلاء المراسلون لطالما أطلوا عبر الشاشة في الأزمنة العادية. ولكن المشاهد عادة لا يعيرهم الاهتمام الكبير. ولكن في زمن الحرب تبدّلت هذه المعادلة وتكرار إطلالاتهم وضعهم أكثر أمام الضوء».

ولكن، ما المبدأ العام الذي تُلزم به المحطات مراسليها؟ هنا يوضح عبود في سياق حديثه أن «سلامة المراسل والمصور تبقى المبدأ الأساسي في هذه المعادلة. نحن نوصيهم بضرورة تقديم سلامتهم على أي أمر آخر، كما أن جميعهم خضعوا لتدريبات وتوجيهات وتعليمات في هذا الشأن... وينبغي عليهم الالتزام بها».

من ناحيته، يشير صليبي إلى أن المراسلين يبذلون الجهد الأكبر في هذه الحرب. ويوضح: «عملهم مرهق ومتعب ومحفوف بالمخاطر. لذلك نخاف على سلامتهم بشكل كبير».

محمد فرحات (إنستغرام)

«إنها مرحلة التحديات»

وبمناسبة الكلام عن المراسلين، يُعد إدمون ساسين، مراسل قناة «إل بي سي آي»، من الأقدم والأشهر في هذه المحطة. وهو لا يتوانى عن التنقل خلال يوم واحد بين جنوب لبنان وشماله. ويصف مهمّته خلال المرحلة الراهنة بـ«الأكثر خطراً». ويشرح من ثم قائلاً: «لم تعُد هناك خطوط حمراء أو نقاط قتال محددة في هذه الحرب. لذا تحمل مهمتنا التحدّي بشكل عام. وهي محفوفة بخطر كبير، لا سيما أن العدو الإسرائيلي لا يفرّق بين طريق ومبنى ومركز حزب وغيره، ويمكنه بين لحظة وأخرى أن يختار أهدافه ويفاجئ الجميع... وهذا ما وضع الفرق الصحافية في خطر دائم، ونحن علينا بالتالي تأمين المعلومة من قلب الحدث بدقة».

وفق ساسين، فإن أصعب المعلومات هي تلك المتعلقة بالتوغّل البرّي للجيش الإسرائيلي، «فحينها لا يمكن للمراسل معرفة ما يجري بشكل سليم وصحيح على الأرض... ولذا نتّكل أحياناً على مصادر لبنانية من جهة (حزب الله)، و(اليونيفيل) (القوات الدولية العاملة بجنوب لبنان) والجيش اللبناني والدفاع المدني، أو أشخاص عاشوا اللحظة. ومع هذا، يبقى نقل الخبر الدقيق مهمة صعبة جداً. ويشمل ما أقوله أخبار الكمائن والأسر، بينما نحن في المقابل نفتقر إلى القدرة على معرفة هذه الأخبار، ولذا نتوخى الحذر بنقلها».

«لبنان يستأهل التضحية»

في هذه الأثناء، يتكلم مراسل تلفزيون «الجديد» محمد فرحات «بصلابة»، عندما يُسأل عن مهمّته الخطرة اليوم.

محمد كان من بين الفريق الإعلامي الذي تعرّض لقصف مباشر في مركز إقامته في بلدة حاصبيا، وخسر يومذاك زملاء له ولامس الموت عن قرب لولا العناية الإلهية، كما يقول. ويتابع: «لقد أُصبت بحالة إنكار للمخاطر التي أتعرّض لها. في تلك اللحظة عشت كابوساً لم أستوعبه في البداية. وعندما فتحت عيني سألت نفسي لبرهة: أين أنا؟»، ويضيف فرحات: «تجربتي الإعلامية ككل في هذه الحرب كانت مفيدة جداً لي على الصعيدين: الشخصي والمهني. من الصعب أن أُشفى من جروح هذه الحرب، ولكني لم أستسلم أو أفكر يوماً بمغادرة الساحة. فلبنان يستأهل منا التضحية».

العلاج النفسي الجماعي ضرورة

أخيراً، في هذه الحرب لا إجازات ولا أيام عطل وراحة. كل الإعلاميين في مراكز عملهم بحالة استنفار. ولكن ماذا بعد انتهاء الحرب؟ وهل سيحملون منها جراحاً لا تُشفى؟

تردّ الاختصاصية النفسية الدكتورة سهير هاشم بالقول: «الإعلاميون يتعرضون لضغوط جمّة، وفي الطليعة منهم المراسلون. هؤلاء قد لا يستطيعون اليوم كشف تأثيرها السلبي على صحتهم النفسية، ولكن عند انتهاء الحرب قد يكون الأمر فادحاً. وهو ما يستوجب الدعم والمساندة بصورة مستمرة من مالكي المحطات التي يعملون بها». وأضافت الدكتورة هاشم: «ثمة ضرورة لإخضاعهم لجلسات علاج نفسية، والأفضل أن تكون جماعية؛ لأن العلاج الموسمي غير كافٍ في حالات مماثلة، خلالها يستطيعون أن يساندوا ويتفهموا بعضهم البعض بشكل أفضل».