وُلد معرض «مقاسات كبيرة» (أوفرسايزد) للعراقي رياض نعمة من لحظة عابرة مع ابنه، حين ارتدى الصغير سترة أكبر من حجمه، وضحك قائلاً: «إنها لا تشبهني!». غير أنّ هذه اللحظة العابرة لم تمرّ سريعاً في ذهن الفنان، فحرَّكت في داخله أسئلة عن الطفولة التي تُحمَّل ما لا تحتمل، عن السياسة والسلطة، وواقع يُفرَض على البشر من الخارج، فيبدو دائماً أكبر من مقاسهم... لا يُشبههم، ولا يتيح لهم أن يكونوا على صورتهم.
هكذا تشكَّلت فكرة المعرض، لتتَّسع من واقعة شخصية صغيرة إلى استعارة كبرى عن الوجود الإنساني في زمن قاسٍ.

يقول الفنان المقيم في بيروت لـ«الشرق الأوسط» إنّ وظيفة الفنّ أن «يكشف ما يُحاول الواقع إخفاءه، ويضغط على موضع الألم ليوقظ الإحساس به ويلتقط ما يشذّ عن النسق وما يتفلَّت من العادي والمألوف». يُشبّه ذلك بأنْ يسير المرء في شارع تصطفّ فيه الأشجار منتظمة، لكنّ عينه لا تتوقّف إلا عند شجرة مقطوعة ومرمية على الضفّة الأخرى. بالنسبة إليه: «الفنّ يتغيَّر عبر التاريخ وتتغيَّر وظائفه. فما بدا تمجيداً للقصور، تحوّل بفعل حركة الزمن إلى التقاط هموم الإنسان وضمير الشارع. الزمن يُغيّر وظائف الفنّ، والفنّ بدوره يترك بصمته على الزمن، يُبطئ اندثاره أحياناً أو يفضح قسوته. أنا جزء من هذه الهموم، وفنّي جماعي، تُلازمني فكرة الظلم والظروف غير الإنسانية»

في غاليري «آرت سين» بمنطقة الجميزة البيروتية، يفضح المعرض التناقض بين براءة الطفولة وضخامة المَهمّات الرمزية المُلقاة على كاهلها. يوضح رياض نعمة: «الحقائق الكبرى لا تصل بسهولة إلى الآخرين. حين نُجاهر بالظلم، قد تبقى المُجاهرة محدودة الأثر. لذا على الفنان أن يتحايل على طُرق إيصال صوته عبر الفانتازيا أو الكوميديا السوداء. البحث المتواصل هو ما يجعله يمتلك حلولاً لا تُغيّر بالضرورة نظام البلد أو تفكير السلطات، لكنها تُعزِّز تفاعليته وارتباطه بالإنسان والشارع».

في لوحاته، يطفو اللون البنفسجي مثل صرخة بصرية، ويتوهَّج مثل بقع ضوء وسط طغيان العتمة. يقول: «لا أختار لوناً بقصديّة كاملة. الأمر يرتبط بما أُسمّيه (الميزان البصري الداخلي). أمضيتُ حياتي أُنمّيه من دون حَصْره بتفسير. البنفسجي مثلاً، يخطر لي الآن أنه لون الكدمة، أثر اللكمة، وربما هذا ما حَفِظته ذاكرتي من قراءاتي من دون أن أتعمَّده».
غادر رياض نعمة العراق بعدما أورثته الخرائط جروحاً عميقة، ورأى في الفنّ منبراً يُعوّض عجز الإنسان العادي عن الكلام. لذا يربطه دائماً بالمسؤولية، ويُحمّله هَماً يصفه بالسياسي: «هو وليد اللحظة الجماعية التي يُختَبر فيها المرء بظروفه ومُسببات تحوّلاته، فيصبح الفنّ لغة بديلة عن العجز وصوتاً يتجاوز اليأس المفروض».
ورغم الثقل، يطلُّ البُعد الساخر في أعماله. لكن خلف السخرية يتربّص الوجع؛ فكيف يلتقي الضحك بالجرح؟ يُجيب: «أعمل على إظهار الجانب القوي في الإنسان. أنا آتٍ من تجربة سجن طويلة في العراق، وخلف القضبان، غنّيتُ وأطلقتُ النكات وضحكت. لم أُعبّر عن الألم بمزيد من الألم، وإنما بالفانتازيا والاستهزاء. أراهما مجازاً عن القوة».

التفاعل البيروتي مع المعرض أعاد تأكيد قناعته بأنّ الهَمّ الجماعي واحد؛ فمدينة خبرت الحرب والانهيارات، وارتدت هي أيضاً مقاسات أكبر من جسدها الاجتماعي، تقرأ أعماله على هيئة صوت يتردَّد في فضاء مشترك. يروي أنّ الزائرين لمسوا التناقض المُتعمَّد بين قوة الموضوع وفانتازيا الطرح: «لوحاتي تفيض بالأسى والجرح، لكنّ قوالبها تُهدّئ القسوة».
وبالفعل، تبدو شخصيات رياض نعمة كأنها مُعلَّقة بين الطفولة والرشد، وبين الجسد الضيّق والسترة المُتضخّمة. وجوهٌ نصف مطموسة، أحياناً داكنة كأنها خارجة من الظلمات، وأجساد محشورة في معاطف واسعة تتحوَّل إلى قوقعة أو سجن. الشخصيات لا تحتمل المقاس الذي أُلبِسَت إياه، فتبدو كأنها تقول إنّ الواقع أكبر من قدرتها، ومع ذلك فهي واقفة، شاهقة، تُعلن أنّ المهانة لا تلغي الكرامة. في هذه اللوحات، يمتزج ثقل السترة التي ترمز إلى السلطة والعبء الاجتماعي مع ملامح الوجه التي تستبطن ارتباك الإنسان، ليصير الجسد نفسه استعارة عن السياسة والطفولة المقهورة.

يبقى سؤال: هل يملك الفنّ قدرة على مواجهة «التضخيم» الذي تُمارسه السلطة، خصوصاً في الأوطان المنكوبة؟ فيُجيب: «ثمة فجوة بين الشارع والثقافة تعمل معظم السلطات على تعميقها. مَهمّة الفنان ردمها. هذه ضرورة الفنّ القصوى».
وبعد «مقاسات كبيرة»، أي سؤال سيُطارده في أعماله المقبلة؟ يبتسم: «هو السؤال نفسه: الإنسان وهموم الشارع. كلّ معرض أداة جديدة لتجسيد هذا القلق. موقفي الفنّي واحد، وما يختلف فقط هو مفردات التسمية».



