هذا فنان كان منسياً لحقبة من الزمن ثم أعيد اكتشافه. إنه جورج دولاتور الذي عاش في القرن السابع عشر لأب خباز، وأمضى حياته في مقاطعة اللورين الفرنسية، على الحدود الشرقية للبلاد. واليوم يخصص له متحف «جاكمار أندريه» في باريس معرضاً يستمر حتى بدايات العام المقبل، ويلقي الضوء على إبداع فنان برع في رسم لوحات استقاها من مرويات دينية، لشخصيات نسائية ورجالية تجتمع في غرف معتمة لا يبدد حلكتها سوى الشموع.
يجتاز الزائر عتبة المتحف فينطفئ النهار الذي تركه وراءه في الشارع. يجد نفسه في صالات ذوات التماعات حميمة، كأنها مصابيح زيتية في دهاليز سرية. تتألق الألوان الحمراء والصفراء على استحياء في كل لوحة بفضل شعلة يجيد الرسام تشكيلها وكأنها نار حقيقية. يعجب نقاد الفن من أن دولاتور حبس نفسه في تلك الأجواء من أقبية العصور الوسطى وتخصص في لعبة الظلام والضوء. وهو لم يكن رساماً غزير الإنتاج، استهوته الأجواء الواقعية المبهمة. وحتى أعماله القلائل فإنها لم تعرض للجمهور كثيراً. هذا مع العلم أن بعضها وصل إلى كبريات المتاحف العالمية. ومن بين 40 لوحة هي كل حصيلته فإن هذا المعرض يشتمل على 30 منها.
منح الفنان الاعتبار للأشخاص المهمشين وجعل منهم وجوهاً بارزة في لوحاته. الفلاحون والمسنون والموسيقيون الجوالون والحرفيون الشعبيون. لهذا يوصف بأنه رسام الشعب لا البلاط. حدث هذا في زمن كان الرسامون فيه يعيشون على هبات الملوك. وهو قد كانت له حكايات معهم لكنه لم ينجذب لرسمهم. وإذا كان جورج دولاتور قد لقي اعترافاً طيباً خلال حياته فإن شهرته سرعان ما انطفأت بعد مماته. كأن جنية شريرة نفخت على شعلة لوحاته فأخمدتها. هل احترق ببصيص النار التي أبدع في تصويرها؟ وبلغ الأمر أن مؤرخين نسبوا عدداً من تلك الأعمال لفنانين آخرين. لكن روح الموهبة لا تموت فقد عاد اسمه إلى الضوء مع حلول القرن العشرين بفضل مؤرخ الفن الألماني هيرمان فوس. بل إن لوحاته، وأشهرها «لاعبو النرد» و«المجدلية» ألهمت عدداً من الأدباء والشعراء البارزين أمثال رينيه شار وأندريه مالرو. وله اليوم متحف في البلدة التي رأى النور فيها.




