القشعمي: لم أكتب إلا لمن يستحق التبجيل

كاتب سير الرواد السعوديين يرى أن صحافة الأفراد تمثل العصر الذهبي

محمد القشعمي
محمد القشعمي
TT

القشعمي: لم أكتب إلا لمن يستحق التبجيل

محمد القشعمي
محمد القشعمي

يعرف الباحث والمؤلف السعودي محمد بن عبد الرزاق القشعمي باشتغاله على جمع ورصد عدد كبير من سير رواد وأعلام الصحافة السعودية، وتوثيق سير أكثر من 370 شخصية ضمن مشروع التاريخ الشفهي في السعودية.
وهو مؤلف أثرى المكتبة العربية بمؤلفات لامست الثلاثين، مع مؤلفات أخرى شارك بها وصلت إلى 28 مؤلفا، كما أشرف على إصدار العشرات من الكتب وقدم لها، وكتب مقالات ودراسات في الصحف والمجلات تناولت موضوعات أدبية وثقافية وسيرا لشخصيات ورصدا للتحولات في بلاده، وتاريخ الصحافة، فيما يمكن تسميته بالرصد الببليوغرافي الموثق، والتاريخ الشفهي الغائب، ليصبح القشعمي راصدا دقيقا لتاريخ أهمله التاريخ. التقينا الباحث محمد عبد الرزاق القشعمي في الرياض حيث يقيم وأجرينا معه الحوار التالي:
* كيف ترد على من يقول إن أغلب كتبك عن السير هي (سيرة تبجيلية) وأحيانا انتقائية.. فهي لا تتضمن المحطات السلبية أو الأخطاء التي وقعت فيها الشخصية.. وبالتأكيد لا تتضمن نقدا لأي محطة من مشوارها؟
- قلت في مقدمة كتابي عن أستاذنا الفاضل عابد خزندار إنني لا أكتب عن أحد إلا لمن أحب، ومن حقي أن أبجل من أحب.. ولم أكتب إلا لمن يستحق التبجيل لما قدمه لمجتمعه ولوطنه. قل لي من كتبت عنه وهو لا يستحق. لقد كتبت عن سليمان الدخيل وعبد الكريم الجهيمان وأحمد السباعي وعبد الله الوهيبي ومحمد صالح نصيف وعبد الرحمن منيف وعابد خزندار وأخيرا حمود البدر. فأنا لا أمدح لمجرد المدح بل أعرض ما تيسر لي من معلومات عن الرجل وأقدمها للقارئ، فله أن يأخذها أو يرفضها، فأنا ما زلت معجبا بمن كتبت عنه وفي النية غيرهم إذا كان في العمر بقية.
* حدثنا عن مشروع تسجيل «التاريخ الشفهي للسعودية» إذ أجريت لقاءات مع كبار الأدباء ورجال العلم والتعليم والمال والسياسة. كم بلغ حجم السير التي وثقتها؟
- التاريخ الشفهي بدأت به قبل عشرين سنة عند التحاقي بمكتبة الملك فهد الوطنية وبمجهود وتشجيع من أول أمين لها الدكتور يحيى محمود بن جنيد (الساعاتي) جرى التسجيل مع من وافق؛ إذ غيرهم وعد وأخلف أو تعذر. بدأت بأستاذنا الراحل عبد الكريم الجهيمان سجلت معه في الاستديو بالمكتبة وأكملت معه في مكتبته بالمنزل ثم دعوت معجب الزهراني وعبد الله المعيقل وعبد الله حسين آل عبد المحسن في شكل ندوة كل واحد تولى جانب من أعمال وإبداع الجهيمان، وبعد سنوات سمعت منه أشياء لم يبح بها فدعوته مرة أخرى وسجلت معه، وكنت أنوى أن يكون التعامل مع الآخرين على هذا المنوال، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، المهم سجلت مع نحو 370 شخصا من مختلف أنحاء المملكة منهم من قدم للرياض ومنهم من سافرت له في مكة وجدة وحائل والقصيم وغيرها، ثم كانت الفرص في من يحضر في المناسبات (معارض، مهرجانات، احتفالات) نستغل الفرصة ونسجل معه قدر المستطاع. نصف من سجلت معهم قد رحلوا.

* ترحال الطائر النبيل
* تتبعت سيرة الروائي الراحل عبد الرحمن منيف، وضمنت سيرته في كتابك «ترحال الطائر النبيل» حدثنا عن هذه التجربة؟
- عرفت الروائي الراحل عبد الرحمن منيف في معرض دمشق الدولي للكتاب عام 1991 وكنت قد قرأت له وعنه وتوثقت العلاقة وبدأت أجمع ما كتب عنه وما كتبه في الصحافة ولم يجمع في كتاب واستفدت من كتابه «الكاتب والمنفى» ففيه لمحات من سيرته وهجرة والده من القصيم إلى الشام ثم وجدت في روايته «سيرة مدينة» ما شجعني أكثر.. والحمد لله أنجز العمل في حياته «ترحال الطائر النبيل»، وقال لي شاكرا إنني أسديت إليه خدمة، فعندما يسأله أحد عن بداياته أو سيرته يكتفي بإعطائه الكتاب. وفي هذا العام ستجد الطبعة الرابعة من الكتاب الذي يحمل عنوانا آخر هو «عبد الرحمن منيف في ذكراه العاشرة»، إذ مضى على رحيله عشر سنوات، بمقدمة وافية من شقيقته حصة التي تؤكد أن والدتهما «نورة السليمان الجمعان» فوالدها من قرية (روض العيون) بقصيبا – القصيم، وليس كما يقال إنه من أب نجدي وأم عراقية.
* كانت لديك ورقة عن عبد الرحمن منيف كنت تعتزم طرحها في ملتقى نادي القصيم الأدبي في أكتوبر (تشرين الأول) 2012 عنوانها «عبد الرحمن منيف والتحولات الثقافية»، استبدلت بها ورقة أخرى بعنوان «رائد الصحافة النجدية.. سليمان الدخيل».
- هذه الورقة التي حيل بيني وبين إلقائها في ملتقى النادي الأدبي بالقصيم ألقيتها في الملتقى الثقافي الثاني عشر لـ«مجلة العربي» بالكويت في العام الماضي، وستجدها بالطبعة الجديدة.
* ما رأيك أنت باعتراض عبد الرحمن منيف على نشر هاشم الجحدلي سلسلة لقاءاته مع منيف، إذ أصدر بعد نشر الحلقة الثالثة بيانا ساخطا ينتقد ما نشر ويطالب بوقفها فورا ويهدد باللجوء إلى القضاء، في حين قال هاشم الجحدلي لـ«الشرق الأوسط» إن لقاءاته مع منيف «شهد عليها محمد القشعمي وآخرون»؟
- بالنسبة إلى اعتراض منيف على ما بدأ بنشره هاشم الجحدلي في جريدة «عكاظ» من سلسلة مقالات عن سيرته ومسيرته، ونشره خبرا يعترض فيه ويهدد برفع دعوى عليه، فهذا لم يكن من منيف نفسه بل من زوجته؛ إذ كان وقتها مريضا بالمستشفى ولم يكن فيما نشر ما يستفز، إلا أنها غير راضية من البداية، ولهذا نشرت باسمه ما فهم منه أنه شكوى واعتراض، وكنت صالح بوحنية مدير جمعية الثقافة والفنون بالدمام برفقة الجحدلي عند مقابلته له بمنزله بدمشق قبل وفاته بعدة أشهر.

* بدايات جيل الصحافة
* سجلت سلسلة من سيرة «البدايات»، وتتبعت أعلام الصحافة السعودية في مختلف مناطقها.. كيف تمايزت تجربة الصحافة السعودية؟
- أميل بل أكاد أتهم بأنني منحاز لفترة «صحافة الأفراد» 1343 - 1383هـ، كان ذلك هو العصر الذهبي للصحافة المبكرة؛ إذ كانت تترجم الواقع وتنشر ما يؤمن به كاتبها دون رقيب، وكان سقفها عاليا. وهدفها رفع مستوى الوعي لدى المواطن، والمطالبة له بما ينقصه من خدمات صحية وثقافية وعلمية ومواصلات وغيرها.. وأتذكر قبل ستين سنة أن أهم صفحة في جريدة «اليمامة» هي التي تحمل عنوان «مطالب المدن والأقاليم»، فكان أدباء اليوم، وقسم قد رحل، يتبارون في نشر ما ينقص مدنهم وقراهم.
* لماذا تقدمت التجربة الصحافية في أماكن كالمنطقة الغربية عن بقية المناطق؟
- سبقت المنطقة الغربية (مكة وجدة والمدينة) بقية المناطق بسنوات طويلة لأسباب أهمها: وجود الحرمين الشريفين، وقرب البحر، ووجود مقرات السلك الدبلوماسي والقنصليات الأجنبية في جدة، ودخول المطابع لمكة من عام 1300هـ وبداية صدور الصحف والمجلات في العهد التركي وعهد الأشراف، وفور دخول الملك عبد العزيز لمكة في 7-5-1343هـ صدرت جريدة «أم القرى» في 15-5-1443هـ بديلا لجريدة «القبلة» التي كانت تصدر أيام الأشراف وقبلها جريدة «حجاز» في العهد التركي.
* كيف ساهم التواصل مع الجوار العربي (العراق ومصر والشام) في إثراء النهضة الأدبية وحركة الصحافة في السعودية؟
- لا شك أن دخول صحافة الجوار (العراق، الشام، مصر وغيرها) إلى الحجاز في وقت مبكر، وسفر البعثات الدراسية الأولى لمصر وغيرها أكسبا الرعيل الأول خبرة ومعرفة بالسلطة الرابعة، ونقلوا ما شاهدوه إلى واقعهم، فعلى سبيل المثال أثر ذلك في شخصيات بينها: عبد الله عريف، وحمد الجاسر، وأحمد عبد الغفور عطار.
فقد كان العريف قد أعجب بالصحافيين المشهورين وقتها بمصر: محمد التابعي («آخر ساعة») وفكري أباظة («المصور») وبمجرد نهاية الحرب، نجده يتولى رئاسة تحرير «البلاد السعودية» التي صدرت بديلا لما كان يصدر قبل الحرب «صوت الحجاز» ويدخل مفاهيم جديدة لم تكن مألوفة ويأخذه الحماس ليحولها من أسبوعية إلى مرتين فثلاث فيومية، فهي أول جريدة تصدر يوميا قبل ستين سنة.
ومن الطريف أن أذكر أنه مر بالحرم ووجد عبد الله بن خميس وعبد العزيز المسند (الطالبين بكلية الشريعة) عام 1372هـ يذاكران في الحصوة فطلب منهما أن يزوراه في مقر الجريدة فوق باب «الزيادة» حيث طلب منهما أن يقتطعا جزءا من وقتهما ليصححها المقالات «البروفات» قبل الطبع مقابل صحن فول وخبزة تميس، ولم يكن هناك مكان سوى «كسرة الدرجة» ليعملا تحتها.
* هل كان هذا هو المدخل الذي ولج منه ابن خميس إلى صحيفة «اليمامة»؟
- نعم.. لقد كسب الشيخ ابن خميس خبرة من خلال عمله مصححا في جريدة «البلاد السعودية» أهلته للإشراف على طبع مجلة «اليمامة» عند انتقال طباعتها إلى مكة بعد أن كانت عند صدورها تطبع في القاهرة، فكان ابن خميس يشرف على طباعتها وهو في السنة الأخيرة من الكلية عام 1953، وجرى ذلك بعد أن وجد الشيخ حمد الجاسر فيه ضالته إذ قرأ له مواضيع منها كتابته في البلاد السعودية عن بلدته (الدرعية) وقصائد المناسبات؛ فكان يكتب افتتاحية «اليمامة» ويوقعها بالحرفين الأولين من اسمه (ع. خ).
* لكن مسيرة الصحافة السعودية لم تكن على وتيرة واحدة، فهناك مناطق كان لها السبق.
- طبعا المنطقة الغربية سبقت الشرقية والوسطى بسنوات طويلة إذ لم تطبع «اليمامة» في الرياض إلا في شهر رمضان 1374هـ قبل أن تتحول إلى جريدة وفي الوقت نفسه تصدر جريدة «أخبار الظهران» في 1-5-1374هـ برئاسة عبد الله الملحوق ثم عبد الكريم الجهيمان بالدمام.
وبالنسبة لأداء هذه الصحف فقد كان متفاوتا.. فلا ننسى جرأة بعض الصحف، مثل «الأضواء» بجدة و«الفجر الجديد» بالخبر وفضحهما لبعض ممارسات الشركات وبالذات «أرامكو»، وعدم إنصافها للعمال السعوديين بمساواتهم بغيرهم وبتوفير السكن والمواصلات والإعاشة المناسبة، مما سبب إيقافهما عن الصدور.
* هل هناك أسباب محددة أثرت في ظهور الصحافة هناك..؟
- بالنسبة للمنطقة الشرقية أدى وجود التجمعات العمالية والشركات الجديدة إلى ظهور صحف في وقت متقارب مثل «الفجر الجديد» و«الإشعاع» و«الخليج العربي» بالخبر، و«أخبار الظهران». ولا شك أن وجود الجاسر والجهيمان في الحجاز للدراسة وبداية نشرهما في صحفها في وقت مبكر، ثم سفر الجاسر إلى القاهرة للدراسة في كلية الآداب قبل الحرب العالمية الثانية وسفر الجهيمان برحلة طويلة إلى لبنان ومصر ثم أوروبا وبالذات باريس لأشهر تقرب من السنة قد أكسبتهما خبرة ومعرفة أهلتهما لريادة هذا المنبر الإعلامي.
صحيح أن هناك من أبناء نجد من سبق من ذُكر مثل سليمان الدخيل الذي غادر بريدة شابا يافعا إلى حيث عمه جار الله ببغداد وتعلم على يد العالم الألوسي ثم سافر إلى الهند فعمل وتعلم لدى التاجر عبد الله الفوزان، وبعد عودته إلى بغداد رغب عمه وشجعه على إصدار جريدة «الرياض» عام 1910 وتوقفت عند بداية الحرب العالمية الأولى، وغيره مثل سليمان الزهير وعبد اللطيف الثنيان.. إلخ.



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.