«دوخي... تقاسيم الصَبا»... سيرة مجتمع من خلال صوت

طالب الرفاعي يستلهم حكاية الفنان الكويتي الشهير

«دوخي... تقاسيم الصَبا»... سيرة مجتمع من خلال صوت
TT

«دوخي... تقاسيم الصَبا»... سيرة مجتمع من خلال صوت

«دوخي... تقاسيم الصَبا»... سيرة مجتمع من خلال صوت

يتناول الروائي الكويتي طالب الرفاعي في روايته «دوخي... تقاسيم الصَبا» (ذات السلاسل. الكويت 2025) سيرة الفنان الكويتي عوض دوخي، ويذهب إلى أبعد من استعادة شخصية غنائية متميّزة، إذ ينقّب في بنية المجتمع الكويتي والخليجيّ من خلال حكاية صوت، ويعيد بناء تاريخ منسيّ عبر أصداء الأغنية، ويحوّل السيرة الفردية إلى حكاية جماعية تعكس التبدّل الاجتماعيّ والثقافيّ الذي شهدته المنطقة في النصف الثاني من القرن العشرين.

تنطلق الرواية من سنة 1979، لحظة احتضار الفنّان الذي يكون ممدّداً على فراشه، محاطاً بعائلته وأصدقائه، في مواجهة الليل الكويتي العاصف ورياحه الصاخبة. المشهد الافتتاحيّ يعيد القارئ إلى تلك الساعات الأخيرة من حياة الفنان، لكنه لا يقدّمها في صورة تقليدية. ينسجها الرفاعي عبر تقنية المشاهد المتتابعة، حيث يتداخل الزمن الحاضر مع ومضات الذاكرة، وتتجاور الأصوات المتعددة: الطبيب، والإخوة، والأم، والزوجة، والأخوات، والأصدقاء، إلى جانب صوت المقرئ الذي يملأ الغرفة بتلاوته، وصوت البحر الذي يحضر كذاكرة أزلية.

هذا التعدّد الصوتي يشكّل بنية الرواية، ويمنح القارئ انطباعاً بأنّه داخل حفل غنائيّ أخير، حيث تختلط الأصوات البشرية بأصوات الطبيعة، وتتحوّل الغرفة التي يرقد فيها دوخي إلى مسرح واسع يجمع الماضي بالحاضر. هنا يلتقي السرد بالإنشاد، والحكاية باللحن، والذاكرة بالصوت.

الرواية تزخر بشخصيات تتوزّع حول محور واحد هو عوض دوخي. العائلة تحضر بقوة؛ الأم التي تحمل همّ ابنها وتستعيد مرارة فقد الزوج، الأخ يوسف الذي يشكّل مرآة لصوت عوض وحارساً لذاكرته، الزوجة أم فهمي التي تتنقل بين القلق والصبر، والأخت أم بدر التي تترجم بكاءها إلى دعاء. كل شخصية تمثل وجهاً من وجوه التجربة الإنسانية التي عاشها دوخي: الأمومة، الأخوة، الشراكة، القرابة.

غير أن الشخصية الأكثر فرادة هي شخصية «الصاحب» أو «الرفيق» الغامض الذي يرافق عوض منذ ولادته، ويظهر له في الأحلام والرؤى، ويتجلّى عند لحظات المرض والاحتضار. هذا الغامض ليس شبحاً بالمعنى التقليديّ، وإنما صورة رمزية لصوت الفنّ نفسه، لصدى الموسيقى الذي يولد مع الفنان ولا يغادره حتى الموت. هو وجه آخر للذات، وشاهد داخلي على مسيرة الحياة، ما يحوّل السيرة الغنائية إلى تجربة وجودية ذات أبعاد روحية.

الشخصيات الثانوية تظهر لتؤكد الطابع الاجتماعي للرواية، ولتجعل من حياة دوخي مرآة للتحوّلات الكبرى التي عاشتها الكويت، من زمن السفن والغوص إلى زمن الإذاعة والتسجيلات، من مجتمع البحر إلى مجتمع المدينة.

لا يقدَّم الرفاعيّ بطله في الرواية كمطرب عابر في تاريخ الفن الكويتيّ، وإنما أحد الأصوات التي صنعت ملامح الغناء الخليجي، وربطت بين إرث النهّامة على ظهر السفن وبين الأغنية الحديثة التي بدأت تفرض حضورها عبر الإذاعات والأسطوانات.

واحدة من أهم رسائل الرواية أنّ المحلية لا تعني الانغلاق، وإنما تعني الانطلاق من الجذور نحو العالم. تجربة عوض دوخي تعكس هذا البعد بجلاء: ابن بيئة محدودة في الكويت القديمة، لكنه بصوته وأغنياته صار معروفاً في الخليج والعالم العربي، وغدا صوتاً قادراً على أن يتجاوز حدود المكان الصغير ليصل إلى مسامع جمهور واسع.

تصوّر الرواية كيف يتحوّل الصوت المحلي إلى جزء من ذاكرة جماعية أكبر. عوض دوخي لم يغنِّ للبحّارة وحدهم، وإنما غنّى للعاشقين، للمهجّرين، للباحثين عن معنى في زمن التحولات. صوته صار قادراً على حمل هموم الداخل الخليجي والانفتاح على الخارج العربي، ليكون شاهداً على أنّ الفنّ يولد في بيئة محدودة لكنه يتخطّى هذه الحدود بقدرته على التعبير عن الوجدان الإنسانيّ.

بين الواقع والخيال

قدّم ابن الفنان الراحل، باسم عوض دوخي، للرواية بمقدّمة معنونة «نوخذة الطرب». هذا التقديم يفتح النصّ على بعد عاطفي وذاتي، إذ يكتب الابن بصفته شاهداً من داخل العائلة، ووارثاً لذاكرة الأب وصداه. يقدّم الابن باسم والده عوض دوخي بوصفه قطعة نادرة، «أنتيك» لا يتكرّر، وصوتاً لم يتأثر بالزمن، بل ازدادت حلاوته كلما تقدّم في العمر. التسمية «نوخذة الطرب» تنقل صورة الأب كقائد سفينة موسيقية في بحر الحياة، رجل حمل صوته كنهّام أولاً ثم كمطرب راسخ، مبحراً بأغانيه من الكويت إلى الخليج والعالم العربي.

هذا التصدير إعلان عن أن الرواية ستبحر في منطقة شديدة الخصوصية: منطقة التداخل بين السيرة الذاتية والسيرة الفنية والسرد الروائيّ. باسم يضع الأب في موقع الأسطورة الشعبية، فيما يتكفّل طالب الرفاعي بتحويل هذه الأسطورة إلى مادة روائية تُقرأ بوصفها جزءاً من التاريخ الثقافي والاجتماعي الكويتي.

«دوخي... تقاسيم الصَبا» تضع القارئ أمام منطقة حرجة في الكتابة السردية: كيف يمكن للكاتب أن يروي حياة فنّان حقيقيّ، وأن يحوّلها إلى نصّ روائيّ دون أن يسقط في التوثيق الجاف أو في التخييل المفرط الذي يلغي المرجعية الواقعية؟ هذه المعضلة تحوّل النص إلى سؤال بحدّ ذاته: أين يبدأ الخيال وأين ينتهي الواقع؟ وما الذي يمنح السيرة الغيرية طاقتها إذا تحولت إلى رواية؟

طالب الرفاعي اختار أن يكتب عن عوض دوخي بوصفه شخصية تاريخية، لها وجود موثَّق في الذاكرة الكويتية والخليجية، ولها إنتاج فني محفوظ في الإذاعة والتسجيلات، وشهادات معاصريه شاهدة عليها، لكنه لم يتوقف عند حدود السرد التسجيلي، ويطلّ الخيال عبر شخصية «الصاحب» الغامض الذي يرافق دوخي منذ الميلاد وحتى الموت، حضور لا يمكن للوثيقة أن تثبته، لكنه ضروري كي يكتمل العالم الروائي.

هذا التداخل يثير أسئلة عن مشروعية السرد: حين يكتب الروائي عن فنان عاش بين الناس، هل يحقّ له أن يبتكر شخصية ميتافيزيقية لترافقه؟ وهل ما يكتبه يصبح تخييلاً للتاريخ أم إعادة ابتكار له؟ الرواية تقترح أنّ السيرة لا تكتمل دون الخيال، وأن الواقع نفسه هشّ ما لم يُدعَم بالسرد، حيث حضور الطبيب، أو الأم، أو الأخ يوسف، شخصيات حقيقية عُرفت في حياة الفنان، يقابله حضور الآخر الغامض، صاحب الظل الذي لا يراه أحد سوى البطل. بين هذين الحدّين يتأرجح النصّ، فلا يعود القارئ قادراً على أن يفصل بدقة بين الوثيقة والتخييل.

يدفع صاحب «النجديّ» القارئ إلى هذا المأزق عمداً. هو لا يريد أن يقدّم «سيرة حياة» مكتوبة بضمير المؤرّخ، ولا يريد أن يكتب «رواية متخيلة بالكامل». إنما يسعى إلى مزج الاثنين في نسيج واحد، حيث يظل الواقع أرضية لا غنى عنها، وحيث يظل الخيال طاقة لتأويل ذلك الواقع وتوسيعه. بهذا يتحوّل النص إلى كتابة هجينة؛ سيرة غيرية مشبعة بالخيال، ورواية مشدودة إلى الواقع.

هذا الخيار يعيدنا إلى أسئلة أوسع عن وظيفة الأدب: هل يكفي أن نعيد سرد حياة الآخرين كما جرت، أم أن الأدب يفترض أن يملأ الفجوات، أن يحوّل الصمت إلى صوت، والفراغ إلى معنى؟ طالب الرفاعي يذهب إلى الخيار الثاني، فالتاريخ الرسمي يحتفظ بإنجازات عوض دوخي، بأغانيه، بمشاركاته، بظهوره في الإذاعة والتلفزيون، أما الرواية فتدخل إلى المنطقة المعتمة: ما الذي شعر به في طفولته حين فقد والده؟ كيف استوعب فكرة الموت وهو طفل؟ كيف عاش صراعه مع المرض وهو يستعيد صوته الذي كان مصدر قوته وحياته؟ هذه الأسئلة لا يجيب عنها التوثيق، إنّما يقتحمها الخيال الروائيّ.

من هنا يمكن القول إن «دوخي... تقاسيم الصَبا» كتابة تقيم في منطقة حدودية، منطقة تتقاطع فيها الرواية والسيرة، وفي هذه المنطقة تتبدّد الخطوط الفاصلة بين الحقيقة والوهم، وتغدو حياة الفنان مرآة مزدوجة، تعكس ما جرى فعلاً، وتكشف ما كان يمكن أن يقال لو استطاع أن يحكي عن ذاته بنفسه، بحيث يخرج القارئ من النص بذاكرة مركبة، عن فنان واقعي شكّل جزءاً من تاريخ الكويت الموسيقيّ، وعن شخصية روائية ابتكرها الكاتب لتسكن مخيّلته وتستمرّ في مساءلته: أيّهما كان أقرب إلى الحقيقة، الوثيقة أم الخيال؟

ومن اللافت أنّ ما يُنجزه طالب الرفاعي في هذه الرواية هو إعادة تعريف العلاقة بين السيرة الغيرية والرواية، السيرة تسجّل ما وقع، الرواية تستحضر ما كان ممكناً أن يُقال، السيرة توثّق الأثر، الرواية تمنحه روحاً ثانية. وفي هذه الروح الثانية تكمن قيمة الأدب، كفنّ يجرؤ على أن يحاور التاريخ، ويقاوم صمته، ويمنح الشخصيات حياة تتجاوز وجودها الزمنيّ لتظلّ قادرة على مساءلتنا اليوم.


مقالات ذات صلة

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

ثقافة وفنون هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية.

ندى حطيط
ثقافة وفنون إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

يواصل الكاتب المسرحي والروائي ماجد الخطيب، في الجزء الثاني من «ملصقات بيروت»، سرد سيرته الشخصية في بيروت، المبتلية بالحرب،

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

تشكل «الحزام» مفخرة ليس فقط لأحمد أبو دهمان وإنما للأدب السعودي الحديث كله بل وللآداب العربية بأسرها لقد أتاح لي الحظ أن أتعرف على أحمد أبو دهمان لأول مرة

هاشم صالح

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.


حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع
TT

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه، على أهمية النظرة الجماعية للأدب بين التسلية والعمق والدلالات الخطيرة التي تكمن وراء طبيعة نظرة شعب من الشعوب له، وفق هذا المنظور أو ذاك.

ويؤكد العقاد أن اعتبار الأدب أداة لهو وتسلية هو الذي يصرفه عن رسالته العظيمة في فهم النفس البشرية والتعبير الصادق عن الحياة، وغيرهما من عظائم الأمور، ويسقطه في هوة البطالة والفراغ، فينشر حالة من اللامبالاة تجاه الذات والآخرين: «فماذا يُرجى من الفراغ غير السخف والسطحية في النظر للأشياء، فضلاً عن لهو الحديث وافتقاد المعنى؟ وبالتالي يصغي إليه الناس حين يصغون كأنما يستمعون إلى طفل ينطق الكلمات بخطأ مضحك، ويلثغ بالألفاظ المحببة إلى أهله، فلا يحاسبونه على كذب، ولا يطالبونه بطائل في معانيه، ولا يعولون على شيء مما يقوله».

ويذكر العقاد أنه إذا بالغ الأديب في مدح أو هجاء، أو جاوز الحد في صفة من الصفات؛ فمسح الحقائق، ونطق بالهراء، وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة، وخلط بين الصواب والخطأ... غفروا له خطأه وقالوا: لا عليه من بأس، أليس الرجل شاعراً؟ ولو أنصفوا لقالوا: أليس الرجل هازلاً؟ وإنهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم، ولا يرون بينها وبين الأولى فرقاً؛ لأن الهزل والشعر هما في عرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد، ما دام الأدب أداة لهو وتسلية!

ومن شاء التحقق والتثبت من ذلك في تواريخ الآداب، بحسب العقاد، فليرجع إلى تاريخ الأدب في لغتنا العربية، ولينظر في أي عهد هبط بقوة. إنه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية، ولا في عهد الدولة الأموية، ولكنه هبط وتطرق إليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية؛ أي في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تُحمل إلى الملوك والأمراء لإرضائهم وتسليتهم ومنادمتهم في أوقات فراغهم، وكان أول ما ظهر من عيوبه الشطط والمبالغة والطي والنشر والتوشيع وسائر ما تجمعه كلمة «التصنّع». وهذه العيوب التي تجتمع في هذه الكلمة هي في الإجمال الحد الفارق بين الأدب المصنوع والأدب المطبوع، وما نشأ شيء منها إلا حين تحول إلى أداة تستهدف إرضاء فئة خاصة.

ويتابع العقاد: «هكذا كان الشأن في اللغات كافة، فإن انحطاط الآداب في جميع اللغات إنما كان يبدأ في عصور متشابهة هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على إرضاء طائفة محدودة، يعكف على تملقها والتماس مواقع أهوائها العارضة وشهوات فراغها المتقلبة، فتكثر فيه الصنعة والافتعال وتقل الموهبة، فيضعف وينحدر إلى حضيض الابتذال، ثم يجمد على الضعف والإسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتُخرجه من ذلك النطاق الضيق إلى أفق واسع منه وأعلى لاتصاله بشعور الأمم على العموم»، لافتاً إلى أن «هذا ما حدث في الأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر حين شاعت فيه الحذلقة وغلبت التورية والجناس والكناية وغيرها من عيوب الصنعة، ثم بقي على هذه الحال من الضعف والسقوط حتى أدركته بوادر الثورة الفرنسية، فانتشلته من سقوطه بعد اتصاله بشعور الأمة مباشرة دون وساطة الطوائف المتطرفة. وبالتالي يجب أن يفهم أبناء هذا الجيل والأجيال أن الأمم التي تصلح للحياة وللحرية لا يجوز أن يكون لها غير أدب واحد، وهو الأدب الذي ينمي في النفس الشعور بالحرية والحياة».