ترحيب سوداني واسع بـ«خريطة الطريق» الدولية لوقف الحرب

الإسلاميون عدّوا بيان «الرباعية» إقصاءً لهم

حرب السودان الدائرة منذ أبريل 2023 تسببت في دمار كبير للمباني والبنية التحتية للبلاد (أ.ف.ب)
حرب السودان الدائرة منذ أبريل 2023 تسببت في دمار كبير للمباني والبنية التحتية للبلاد (أ.ف.ب)
TT

ترحيب سوداني واسع بـ«خريطة الطريق» الدولية لوقف الحرب

حرب السودان الدائرة منذ أبريل 2023 تسببت في دمار كبير للمباني والبنية التحتية للبلاد (أ.ف.ب)
حرب السودان الدائرة منذ أبريل 2023 تسببت في دمار كبير للمباني والبنية التحتية للبلاد (أ.ف.ب)

في تزامن يبدو محسوباً بعناية، رسم البيان المشترك لدول «الرباعية الدولية»، إلى جانب عقوبات أميركية صارمة، وتجديد مجلس الأمن الدولي للعقوبات على السودان، ملامح مسار دولي جديد في السودان، يهدف بوضوح إلى إبعاد التيار الإسلامي عن الحكم، وإعادة هيكلة مستقبل السلطة تحت مظلة انتقال مدني محمي إقليمياً ودولياً.

البيان أثار ردود فعل متباينة داخل السودان، إذ قوبل بترحيب واسع من قوى سياسية ومدنية ونقابية، أبرزها تحالف «صمود»، بقيادة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، في حين رفضه الإسلاميون، وسط انتقادات خافتة تركَّزت على اتهام البيان بالمساواة بين «الجيش والميليشيات»، في إشارة إلى «قوات الدعم السريع».

ورأى تحالف «صمود» المدني في بيان «الرباعية» (وهي السعودية وأميركا والإمارات ومصر) خطة عملية متكاملة لوقف الحرب، تبدأ بهدنة إنسانية لمدة 3 أشهر، تمر عبرها المساعدات، وتتطور إلى وقف دائم لإطلاق النار، تمهيداً لعملية انتقال شاملة وشفافة تستغرق 9 أشهر، وتنتهي بتشكيل حكومة مدنية ذات شرعية واسعة ومساءلة.

وقال التحالف، في بيان، إن الإشارة الصريحة في متن بيان «الرباعية» إلى الإسلاميين بوصفهم عقبة أمام السلام، تُمثل «تشخيصاً دقيقاً لجذور الأزمة»، في حين رأى الإسلاميون أن المقصود هو إقصاء ممنهج لهم من المشهد السياسي. وكان بيان «الرباعية» قد ذكر أن: «مستقبل السودان لا يمكن أن يُملى من قبل الجماعات المتطرفة العنيفة المرتبطة بجماعة (الإخوان المسلمين)».

ترحب مدني واسع

رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك يتوسط قيادات مدنية خلال مؤتمر سابق في لندن (الشرق الأوسط)

ورحب أيضاً «التجمع الاتحادي» بالبيان، وعدّه خطوة صائبة لتثبيت سيادة السودان ووحدته، مؤكداً أن استبعاد الحلول العسكرية ووقف الدعم الخارجي، اللذين وردا في البيان، يُمثلان أساساً قوياً للضغط نحو التفاوض، واصفاً تحميل الإسلاميين مسؤولية الحرب بأنه «توصيف دقيق».

كما رحّب «حزب المؤتمر السوداني»، بالبيان، عادّاً أنها خطوة محورية نحو وقف الحرب، وشدد على أولوية معالجة الأوضاع الإنسانية، معلناً رفضه لما سمّاه «رهن مستقبل البلاد لمصالح القوى العسكرية وجماعة (الإخوان المسلمين) الآيديولوجية المتطرفة»، ودعا الحزب إلى تبني التزامات جادة وضغط حقيقي لوقف القتال فوراً.

من جانبه، ثمّن «التحالف الديمقراطي للمحامين»، وهو كيان نقابي مستقل، البيان وعدّه إشارة إيجابية إلى جدية المجتمع الدولي في حل الأزمة السودانية، وطالب بانتقال سياسي بقيادة مدنية تضمن آليات شفافة للعدالة والمساءلة.

من جانبهم، فقد شدد «محامو الطوارئ»، و«تنسيقية المهنيين»، وعدد من النقابات، على أن مستقبل السودان ملك للشعب، وليس لـ«أمراء الحرب أو الجماعات المتطرفة»، داعين إلى محاسبة مرتكبي الانتهاكات والجرائم في حق المدنيين.

انزعاج الإسلاميين

وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم زعيم حركة «العدل والمساواة» الحليفة للجيش (رويترز)

في المقابل، أبدى الإسلاميون انزعاجهم من بيان «الرباعية» وعدّوه أنه «يسعى إلى إقصاء متعمّد للمؤسسة العسكرية».

وأبدى كتاب محسوبون على الإسلاميين رفضهم القاطع للبيان، من بينهم الصحافي الإسلامي، الهندي عز الدين، الذي وصف البيان بأنه «مؤامرة تُساوي بين الجيش والميليشيات»، وعدّه «مرفوضاً بالكامل». وكذلك الوزير الإسلامي السابق في عهد البشير، عبد الماجد عبد الحميد، الذي وصف البيان بأنه «وقاحة تعاقب مَن يُدافع عن شرفه ووطنه، وتغض الطرف عن الذي يرعى الذئب ويطعمه في فمه».

وفي تحرك موازٍ مثير للانتباه، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية، الجمعة الماضي، عن فرض عقوبات على وزير المالية جبريل إبراهيم، رئيس حركة «العدل والمساواة» المعروف بانتمائه للإسلاميين، وكذلك ميليشيات «البراء بن مالك» الإسلامية، متهمة الطرفين بعرقلة جهود السلام وبناء تحالفات أمنية مع إيران.

وقال جون هيرلي، وكيل وزارة الخزانة لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية: «الجماعات الإسلامية السودانية أقامت تحالفات خطيرة مع النظام الإيراني»، متوعداً: «لن نقف مكتوفي الأيدي ونسمح لهم بتهديد الأمن الإقليمي والعالمي».

ووصف هيرلي الإسلاميين السودانيين بأنهم ظلوا «قوة مدمّرة لعقود»، ولعبوا دوراً رئيسياً في تقويض الحكومة الانتقالية، ودعم الجيش في الحرب.

واستهدفت العقوبات جبريل إبراهيم بدعوى إسهامه بآلاف المقاتلين في الحرب إلى جانب الجيش، الذين شاركوا في تدمير عدد من البلدات وأدّوا إلى مقتل ونزوح آلاف المدنيين. أمّا «لواء البراء بن مالك»، فاتهم بإرسال أكثر من 20 ألف مقاتل إلى جبهات القتال، باستخدام تدريب وتسليح وفّره «الحرس الثوري» الإيراني.

موقف دولي موّحد

ممثلون لطرفَي النزاع السوداني خلال توقيع «اتفاق جدة» في مايو 2023 (رويترز)

وتزامن مع كل ذلك، أن مجلس الأمن الدولي جدّد العقوبات المفروضة على السودان لسنة إضافية، خاصة تلك المتعلقة بتجميد الأصول وحظر السفر وحظر بيع الأسلحة، ومدد ولاية مجموعة الخبراء حتى 12 أكتوبر (تشرين الأول) 2026.

وقال محللون سودانيون إن التزامن بين بيان «الرباعية» والعقوبات الأميركية وتجديد مجلس الأمن الدولي للعقوبات على السودان يُبرز خطاً سياسياً دولياً واحداً يقوم على ركيزتين واضحتين: «أولاً، إقصاء الإسلاميين، ومنع عودتهم عبر تحالفات عسكرية أو سياسية، وثانياً، فرض انتقال مدني يبدأ بهدنة إنسانية، ويقود إلى حكومة ديمقراطية مدنية بإشراف وحماية دولية».

وأضافوا أن في هذا السياق يلعب البيان دور الضغط السياسي، في حين تُشكل العقوبات أداة ردع اقتصادية وقانونية تستهدف عزل الإسلاميين والجهات المسلحة المرتبطة بهم، لا سيما ذات الصلة بإيران.

وقال المحلل السياسي محمد لطيف لـ«الشرق الأوسط»: «لأول مرة، يبدو أن المجتمع الدولي أدرك جوهر الأزمة السودانية»، مضيفاً: «الحديث الصريح عن عدم السماح بالعودة إلى ما قبل ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2019، وقطع الطريق أمام الكيانات والعناصر الإرهابية، ليس مجرد موقف عابر، بل هو لبّ الأزمة التي ظللنا نحذر منها طويلاً».

وأكد أن ما يجري «هو حرب تشنها الحركة الإسلامية لاستعادة السلطة، مستخدمة أدواتها القديمة والجديدة في التمويه والتغلغل داخل المؤسسات، وتحريك الصراع العسكري لتحقيق غاياتها السياسية».

ورأى لطيف أن اتضاح الصورة وكشف طبيعة الصراع أمام المجتمع الدولي يُمثّلان فرصة للمجتمع المدني السوداني للانطلاق منها وتأكيدها، بوصفها منصة أولى لأي عملية انتقال سياسي أو تفاوض مستقبلي.

وترى التحليلات أن المجتمع الدولي لن يكتفي بالدعوة إلى وقف الحرب، بل سيعمل على فرض هندسة سياسية جديدة تستثني الإسلاميين من مستقبل السلطة في السودان، مشروطة بتجاوب الأطراف المحلية مع الضغوط الدولية، وقدرة القوى المدنية على تقديم بديل مقنع، وتخلي القوى المسلحة عن الرهان على الحرب بوصفها أداة سياسية.


مقالات ذات صلة

السودان: ضربة لـ«الدعم السريع» توقع عشرات القتلى في جنوب كردفان

شمال افريقيا عناصر من «قوات الدعم السريع» (أرشيفية - أ.ب) play-circle

السودان: ضربة لـ«الدعم السريع» توقع عشرات القتلى في جنوب كردفان

أسفر هجوم نفَّذته «قوات الدعم السريع» بمسيّرة على بلدة كلوقي في ولاية جنوب كردفان في السودان عن مقتل عشرات المدنيين، بينهم أطفال.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)
خاص المزارع أصبحت مرتعاً للحيوانات بعد أن هجرها أصحابها بسبب الحرب (الشرق الأوسط)

خاص كيف دمّرت الحرب والسياسة أكبر مشروع زراعي في السودان؟

يواجه مشروع الجزيرة في السودان أكبر مشروع زراعي في العالم تحت إدارة واحدة (2.2 مليون فدان) أزمة مُركبة بسبب السياسات الخاطئة، والحرب التي دمّرت بنيته التحتية.

بهرام عبد المنعم (الخرطوم)
شمال افريقيا سيدة سودانية أصيبت في معارك الفاشر بالسودان تجلس في خيمتها مخيم طويلة (أ.ب)

الأمم المتحدة: نقدم مساعدات للفارين من الفاشر بالسودان رغم التحديات

قال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إنه يقدم مساعدات للفارين من العنف في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور في السودان «رغم التحديات الهائلة».

«الشرق الأوسط» (دارفور)
شمال افريقيا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره الروسي فيلاديمير بوتين خلال تدشين تركيب وعاء ضغط المفاعل الأول بمحطة الضبعة النووية الشهر الماضي (الرئاسة المصرية)

محادثات مصرية - روسية تتناول المستجدات في السودان وسوريا ولبنان وغزة

أعرب بدر عبد العاطي عن اعتزاز مصر بـ«الشراكة الاستراتيجية» مع روسيا، التي تمثل إطاراً حاكماً للتعاون الثنائي في مختلف القطاعات.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
شمال افريقيا نازحون سودانيون فروا من الفاشر بعد سقوط المدينة في قبضة «قوات الدعم السريع» في 26 أكتوبر (أ.ف.ب) play-circle

تقارير: «الدعم السريع» تحتجز ناجين من الفاشر للحصول على فِدى

قال شهود لـ«رويترز» إن «قوات الدعم السريع»، التي حاصرت مدينة الفاشر في دارفور قبل اجتياحها، تحتجز ناجين من الحصار، وتطلب فدى لإطلاق سراحهم.

«الشرق الأوسط» (الطينة (تشاد))

السودان: ضربة لـ«الدعم السريع» توقع عشرات القتلى في جنوب كردفان

عناصر من «قوات الدعم السريع» (أرشيفية - أ.ب)
عناصر من «قوات الدعم السريع» (أرشيفية - أ.ب)
TT

السودان: ضربة لـ«الدعم السريع» توقع عشرات القتلى في جنوب كردفان

عناصر من «قوات الدعم السريع» (أرشيفية - أ.ب)
عناصر من «قوات الدعم السريع» (أرشيفية - أ.ب)

أسفر هجوم نفَّذته «قوات الدعم السريع» بمسيّرة على بلدة كلوقي في ولاية جنوب كردفان في السودان عن مقتل عشرات المدنيين، بينهم أطفال، بحسب ما أفاد مسؤول محلي «وكالة الصحافة الفرنسية»، الأحد.

وقال عصام الدين السيد، الرئيس التنفيذي لوحدة كلوقي الإدارية، للوكالة الفرنسية في اتصال عبر «ستارلينك» إن المسيّرة قصفت 3 مرات، الخميس، «الأولى في روضة الأطفال، ثم المستشفى، وعادت للمرة الثالثة لتقصف والناس يحاولون إنقاذ الأطفال».

وحمّل «قوات الدعم السريع» وحليفتها «الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال» بقيادة عبدالعزيز الحلو، مسؤولية الهجوم.

وقالت «قوات الدعم السريع»، السبت، إن الجيش قصف قافلة مساعدات إنسانية تابعة لبرنامج الأغذية العالمي في ولاية شمال كردفان بوسط البلاد.

وذكرت، في بيان، أن الجيش استهدف قافلة المساعدات بطائرة مسيّرة في منطقة جبرة الشيخ بشمال كردفان، مشيرة إلى أن القافلة مكونة من 39 شاحنة تحمل مساعدات غذائية.

كان مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، قد حذر يوم الخميس من أن السودان يواجه خطر اندلاع موجة أخرى من الفظائع، مع تصاعد القتال في إقليم كردفان بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع».


تصاعد القتال في كردفان ومسيّرات تستهدف المدنيين

سيدة سودانية أصيبت في معارك الفاشر بالسودان تجلس في خيمتها مخيم طويلة (أ.ب)
سيدة سودانية أصيبت في معارك الفاشر بالسودان تجلس في خيمتها مخيم طويلة (أ.ب)
TT

تصاعد القتال في كردفان ومسيّرات تستهدف المدنيين

سيدة سودانية أصيبت في معارك الفاشر بالسودان تجلس في خيمتها مخيم طويلة (أ.ب)
سيدة سودانية أصيبت في معارك الفاشر بالسودان تجلس في خيمتها مخيم طويلة (أ.ب)

تصاعدت حدة القتال مجدداً بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في ولايات كردفان؛ حيث شنت مسيّرات الجانبين هجمات طالت قافلات مساعدات وروضة أطفال، وسط تحذيرات أممية من أن السودان يواجه خطر اندلاع موجة أخرى من الفظائع.

وبينما أفادت تقارير بأن مسيّرة تابعة لـ«الدعم السريع» قصفت «روضة أطفال» في بلدة كلوقي بولاية جنوب كردفان، أدت إلى مقتل 114 شخصاً، بينهم 20 طفلاً، وإصابة العشرات، قالت «قوات الدعم السريع» إن مسيّرة تابعة للجيش قصفت قافلة مساعدات إنسانية تابعة لبرنامج الأغذية العالمي في ولاية شمال كردفان، وذكرت في بيان أن القافلة مكونة من 39 شاحنة «تحمل مساعدات غذائية عاجلة للأسر النازحة التي تعاني انعدام الأمن الغذائي»، وعدّته استمراراً لما أطلقت عليه «الاستهداف الممنهج» للقوافل الإنسانية، ونهجاً خطيراً لتعطيل إيصال المساعدات الضرورية، والاعتداءات المتكررة على المنظمات الدولية العاملة في الإقليم، الأمر الذي يفاقم الأزمة الإنسانية ويضاعف معاناة المدنيين.


كيف دمّرت الحرب والسياسة أكبر مشروع زراعي في السودان؟

الحشائش تملأ قنوات الري مما يصعب وصول المياه إلى المزارع (الشرق الأوسط)
الحشائش تملأ قنوات الري مما يصعب وصول المياه إلى المزارع (الشرق الأوسط)
TT

كيف دمّرت الحرب والسياسة أكبر مشروع زراعي في السودان؟

الحشائش تملأ قنوات الري مما يصعب وصول المياه إلى المزارع (الشرق الأوسط)
الحشائش تملأ قنوات الري مما يصعب وصول المياه إلى المزارع (الشرق الأوسط)

يواجه مشروع الجزيرة في السودان (أكبر مشروع زراعي يعمل بالري الانسيابي في العالم، تحت إدارة واحدة) أزمة مُركبة بسبب السياسات الخاطئة التي خرّبته، والحرب التي اندلعت منتصف أبريل (نيسان) 2023، ودمّرت بنيته التحتية من قنوات الري والسكك الحديدية ونهب الآليات والمعدات الزراعية والمخازن ومحالج القطن والمصانع.

والمشروع الذي أنشأه الإنجليز عام 1925 على مساحة تبلغ 2.2 مليون فدان (نحو مليون هكتار)، ويعمل فيه نحو 140 ألف مزارع، يُعدّ شرياناً حيوياً للإنتاج الزراعي في البلاد، لكنه بات يعاني إهمالاً واضحاً، ما أدّى إلى التوقف الكامل لبعض المواسم الزراعية فيه، وتكبّد المزارعين المرتبطين به خسائر فادحة.

وقدَّرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) أن أكثر من 1.8 مليون أسرة سودانية تعمل في الزراعة والرعي داخل المشروع، وأنه يشكّل مصدر دخل أساسياً لها.

المزارع أصبحت مرتعاً للحيوانات بعد أن هجرها أصحابها بسبب الحرب (الشرق الأوسط)

وفي ظل الحرب بات المزارعون يجدون صعوبة في الوصول إلى مزارعهم لأسباب أمنية، أو الحصول على المواد الأولية للزراعة.

خسائر بالمليارات

ووفقاً لوزير الزراعة السوداني، البروفسور عصمت قرشي عبد الله، فإن خسائر القطاع الزراعي تتجاوز 100 مليار دولار، وهي أرقام أولية، وأنهم ماضون في عمل إحصاءات دقيقة مصحوبة بدراسات متخصصة لتقديمها للجهات الداعمة.

وشكا المزارع عمر يوسف من الانهيار الكامل جرّاء تدمير البنية التحتية للري ونهب المؤسسات الحكومية والآليات الزراعية والمخازن والمصانع وخطوط السكك الحديدية ما أدّى إلى خسائر مالية كبيرة.

وقال يوسف في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «هناك غياب كامل لمؤسسات الدولة، ونحن نشاهد مسؤولي الإدارة والري في أيام الحصاد فقط، وليس لديهم أي دور سوى جمع الضرائب (الجبايات) وتحصيل الأموال الهائلة دون معرفة أوجه صرفها».

أحد المزارعين يقوم بإصلاح مساحات شاسعة في أرضه يدوياً (الشرق الأوسط)

وأوضح يوسف أن «المزارعين يعتمدون على الجهد الذاتي دون دعم أو عون من الدولة أو من إدارة المشروع».

وأضاف: «التجار والبنوك الزراعية يتحكمون في المزارع البسيط... نتمنى أن تنعكس الضرائب التي تجبى على المزارعين في تطهير قنوات الري وإنشاء الكباري». لافتاً إلى أن «80 في المائة من سكان ولاية الجزيرة يعتمدون على الزراعة، لكن ولاية الجزيرة تعاني استشراء الفساد، ونريد وضع حدٍّ للفساد والنهوض بالزراعة».

فشل حكومي

من جهته، يقول المزارع، فخر الدين يوسف، إن تدمير مشروع الجزيرة ليس مجرد فشل حكومي أو خطأ إداري، بل جريمة منظمة تسببت في فقدان البلاد ثروة اقتصادية كبيرة.

وأوضح يوسف في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن كبرى المشكلات التي تواجه المزارعين «تتمثّل في توزيع التقاوي والأسمدة منتهية الصلاحية، فيما يعاني الذين يموّلون زراعتهم على نفقتهم الخاصة غلاء الأسعار وجشع التجار، إلى درجة انعدام التوافق بين التكلفة والإنتاج».

وشدّد يوسف على ضرورة تأهيل قنوات الري وعودة السكك الحديدية وتأهيل المخازن والمصانع، ومحاسبة الفاسدين، وإعادة نظام التمويل الحكومي بكل عدالة ومساواة وشفافية للمزارعين، وإرجاع المهندسين والخبراء الزراعيين الذين هجروا المشروع، وتعيين إدارة جديدة مستقلة بعيداً عن السياسة.

الحشائش تملأ قنوات الري مما يصعب وصول المياه إلى المزارع (الشرق الأوسط)

بدوره، أوضح المزارع أحمد علي أن المشروع، الذي يتمدّد على مساحة شاسعة بوصفه أكبر مشروع ريّ انسيابي تحت إدارة واحدة، ويضم 18 قسماً، ويعتمد على صغار المزارعين الذين يُقدّر عددهم بنحو 140 ألف مزارع، قد تعرّض لأكبر نكسة منذ إنشائه بسبب انهياره كلياً، وأصبح ساحة للنهب والدمار.

وقال علي في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «الحرب دمّرت المشروع، وأصبح ساحة للفوضى، ونُهبت مؤسسات المشروع الإدارية والخدمية والسكنية، واحترق بعضها إبّان سيطرة (قوات الدعم السريع) على أجزاء واسعة من ولاية الجزيرة». لافتاً إلى أن عملية التخريب شملت خطوط السكك الحديدية التي كانت تسير عليها القاطرات لمسافة تزيد على 1200 كيلومتر، لتغطي كامل منطقة الجزيرة والمناقل بطاقة 34 قاطرة و1100 عربة ترحيل تعمل أساساً في نقل السلع والحبوب، وتبلغ قيمة البنية الأساسية للسكك الحديدية التي بيعت خردة ما يقارب 200 مليون دولار.

امتصاص الصدمة

محافظ مشروع الجزيرة، المهندس إبراهيم مصطفى، سبق أن أقرّ في تصريحات إعلامية بمواجهة مشكلات في عملية الري، فضلاً عن وجود الحشائش والطمي وقنوات الري التي تحتاج إلى الصيانة، وتمثّل هاجساً كبيراً. وأكّد أن إدارة المشروع تسعى، بالتنسيق مع وزارة الري، إلى تجاوز المشكلة، وتوفير كلّ الإمكانات لإصلاح عملية الري.

المزارع علي أحمد في حقله (الشرق الأوسط)

وأوضح المحافظ أن المساحة المزروعة في الموسم الصيفي الماضي بلغت 500 ألف فدان، وأن إدارة المشروع تبذل قصارى جهدها لدعم المزارعين والإسهام في امتصاص الصدمة والعودة إلى العملية الإنتاجية، رغم الضربات القوية الموجعة التي تلقّاها المشروع. وأشار مصطفى إلى سريان حالة من الخوف في المشروع، لكنه أوضح أن الأمور مضت بسلام بفضل مساعي الإدارة والمزارعين.

الخبير الاقتصادي د. محمد الناير يقول إن مشروع الجزيرة يُعد ركيزة أساسية للاقتصاد السوداني، ويُعتبر من أكبر المشروعات على مستوى العالم، ويمتلك مساحة كبيرة، ويُروى انسيابياً عبر أنظمة الري المعتمدة. وأوضح الناير في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن المشروع يضم 2.2 مليون فدان، ما يعادل 900 ألف هكتار، الأمر الذي يجعله من أكبر المشروعات الزراعية على مستوى العالم، إذ يمتلك رقعة زراعية في مكان واحد ويُروى انسيابياً، وهي ميزة كبيرة لهذا المشروع الضخم الذي ظل يدعم الاقتصاد السوداني بصورة كبيرة من خلال زراعة محصولات مهمة مثل محاصيل القطن والقمح والذرة وغيرها من المحاصيل الأخرى.

المزارع فخر الدين يوسف وسط مزرعته (الشرق الأوسط)

وأضاف الناير: «هذا المشروع تراجع أداؤه بصورة كبيرة بسبب قانون 2005، الذي أعطى المزارع حرية مطلقة في زراعة أرضه بما يشاء، وقد أثّر ذلك سلباً بصورة كبيرة. ففي السابق كانت هناك رؤية زراعية متكاملة من قبل الدولة، يتم من خلالها تحديد المساحات المزروعة من القطن والقمح والمحاصيل الأخرى، ما يسهّل مكافحة الآفات الزراعية».

وتابع: «المزارع الآن يقوم بتنويع المحاصيل في رقعة زراعية واحدة، وبالتالي يصعب مكافحة الآفات. وعندما حاولت الدولة التدخل لإصلاحات لم تنجح بسبب فقدان المشروع للسكك الحديدية، ومحالج القطن ومصانع الزيوت التي كانت مكملة له بصورة كبيرة. وتعرض المشروع للنهب والتدمير الممنهج».

وأضاف: «هناك عقبات تواجه المشروع في استزراع المساحات الكبيرة، مثل نظافة قنوات الري، وعمليات تمويل المزارعين، وتوفير التقاوي والأسمدة، وإعادة مؤسسة الأقطان السودانية التي كانت تشتري محصول القطن بأسعار مجزية، وإعادة صيانة المحالج ومعاصر الزيوت الملحقة بالمشروع، لتضيف قيمة مضافة له حتى يعود أفضل مما كان عليه في السابق».