بعد هجوم قطر... ما الملاذات الآمنة لقادة «حماس»؟

مصادر من الحركة: إسرائيل لا تأبه بأي دولة بسبب الدعم الأميركي القوي

أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يشارك الخميس في صلاة الجنازة على ضحايا الهجوم الإسرائيلي على الدوحة (رويترز)
أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يشارك الخميس في صلاة الجنازة على ضحايا الهجوم الإسرائيلي على الدوحة (رويترز)
TT

بعد هجوم قطر... ما الملاذات الآمنة لقادة «حماس»؟

أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يشارك الخميس في صلاة الجنازة على ضحايا الهجوم الإسرائيلي على الدوحة (رويترز)
أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يشارك الخميس في صلاة الجنازة على ضحايا الهجوم الإسرائيلي على الدوحة (رويترز)

على مدار نحو عامين من الحرب على غزة، صعَّدت إسرائيل عمليات استهدافها قيادات حركة «حماس»، سواء داخل القطاع أو في بلدان بعضها لم يكن تنفيذ محاولات من هذا النوع على أراضيها متوقعاً.

وكانت أحدث تلك المحاولات في العاصمة القطرية الدوحة، التي كانت تستضيف وفداً من الحركة لبحث مساعي التهدئة بقطاع غزة. وفي حين أكدت «حماس» نجاة كبار مسؤوليها من الهجوم الذي وقع الثلاثاء الماضي، قُتل خمسة من أعضائها إضافةً إلى عنصر في قوات الأمن القطرية.

واستهدفت الغارات الإسرائيلية مجمعاً خاصاً بقيادة «حماس» في منطقة القطيفية بالعاصمة القطرية، وتسببت في مقتل همام الحية نجل عضو المجلس القيادي للحركة خليل الحية، ومدير مكتبه جهاد لبَّاد، إضافةً إلى مرافقيه أحمد مملوك وعبد الله عبد الواحد ومؤمن حسّون. كذلك قُتل الوكيل عريف القطري بدر سعد محمد الحميدي الدوسري.

إقامة صلاة الجنازة يوم الخميس على ضحايا الهجوم الإسرائيلي على الدوحة (رويترز)

ووفقاً للمصادر، فإن المجمع المستهدف يضم مكاتب ومنازل، وجميعها تخص قيادات ومسؤولين من «حماس» وحراس أمنهم، ومن بينها فيلا متوسطة الحجم تعود لخليل الحية، وبداخلها مكتب خاص وهو الذي تعرض للهجوم الأكثر كثافة من بين 4 ضربات تقريباً.

والدول التي شهدت محاولات اغتيال إسرائيلية لقيادات من «حماس» منها ما اعتاد لفترات على تلقي ضربات مثل لبنان وسوريا، ومنها ما كان وقوع عمليات فيه غير معتاد، مثل إيران وقطر؛ كما وقعت سابقاً محاولات مشابهة في تركيا، ومرة في الإمارات، وكانت هناك محاولة واحدة على الأقل منذ عقود في العاصمة الأردنية عمان.

ولعل أبرز تلك العمليات عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية، في 31 يوليو (تموز) 2024، داخل العاصمة الإيرانية طهران، فيما سبقه في الثاني من يناير (كانون الثاني) من العام نفسه، نائبه صالح العاروري خلال هجوم استهدفه في الضاحية الجنوبية بلبنان.

وفي داخل قطاع غزة، وقعت سلسلة اغتيالات لقيادات من الحركة وجناحها العسكري، من أبرزهم محمد الضيف، ونائبه مروان عيسى، وكذلك محمد السنوار، إضافة إلى يحيى السنوار قائد الحركة في قطاع غزة سابقاً، ثم قائدها العام بعد اغتيال هنية، هذا إلى جانب أعضاء بارزين بالمكتب السياسي، مثل روحي مشتهى وسامح السراج وغيرهما.

«عملية تغرير»

بعد العمليات المستمرة من قبل إسرائيل وأجهزتها الأمنية لملاحقة قادة «حماس» في الداخل والخارج، وخاصةً بعد عملية الدوحة، إحدى دول الوساطة بين إسرائيل وقيادات «حماس»، يتساءل كثيرون: هل من ملاذات آمنة يمكن أن تحتضن قيادات الحركة؟

صورة بالأقمار الاصطناعية للمجمع السكني الذي استهدفته غارة جوية إسرائيلية يوم الثلاثاء الماضي في الدوحة (أ.ب)

وقال مصدر قيادي من «حماس» في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إن اغتيال القيادات واستهدافهم متوقعان، «لكن عملية الدوحة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن إسرائيل لا تأبه بأي دولة، ولا تعمل حساباً لتلك الدول، ولا للمجتمع الدولي، طالما أن هناك إدارة أميركية تدعمها بقوة».

وذكرت مصادر من الحركة أن قيادات «حماس» باتت تدرك منذ اغتيال هنية أنه لم يعد هناك «مكان محصن»، مشيرة إلى أن القيادات كانت كثيراً ما تتنقل بين الدوحة وإسطنبول، وكانت تعلم جيداً أنه يمكن استهدافها، لكن حدوث ذلك في قطر في وقت تجري فيه مفاوضات «ينم عن أن العملية حصلت في إطار عملية تغرير اعتمدتها إسرائيل بالتنسيق مع الولايات المتحدة».

وتقول المصادر إنه من غير المعروف في هذه اللحظة أين سيستقر قادة الحركة بعد استهدافهم، وما إذا كانوا سينتقلون إلى دول أخرى، مضيفة أن هذا الأمر سيُبحث لاحقاً، وأنهم قد يبقون في قطر أو يتنقلون منها إلى تركيا، أو ربما إلى «مكان آخر يرونه أكثر أماناً».

ولم تستبعد المصادر أن ينتقل بعض قادة الحركة المؤثرين إلى دول مثل الجزائر أو موريتانيا، مشيرةً إلى أنه جرى في فترة من الفترات بحث نقل بعض القيادات إلى الجزائر، وانتقال آخرين إلى ماليزيا، قبل أن يتم استبعاد الأخيرة لظروف أمنية معينة لم تكشف عنها المصادر.

المبنى الذي استهدفته الغارات الإسرائيلية في العاصمة القطرية الدوحة الثلاثاء الماضي (رويترز)

وعما إذا كانت مصر أو دول عربية أخرى من ضمن الخيارات المطروحة لانتقال قيادة الحركة، قالت المصادر: «لا شيء مستبعد، وستبقى كل الخيارات مفتوحة».

وأشارت إلى أنه في فترة من الفترات كانت مصر ملاذاً آمناً، تحت حماية أجهزة الأمن المصرية، لقيادات من الحركة بينهم موسى أبو مرزوق الذي كان له منزل ومكتب بالقاهرة، ولا يزال حتى الآن هذا المكان بمثابة مقر لقيادة الحركة وتعقد فيه بعض الاجتماعات، كما أنه استضاف مؤخراً بعض اللقاءات الفصائلية خلال بحث مقترح الوسطاء الأخير الذي وافقت عليه الحركة دون شروط.

وقال مصدر: «قيادة الحركة لا تخشى الاغتيال والموت، لكنها تسعى لأن تكون بأمان لمواصلة مشروع التحرير».

مدن طالتها مخططات «الموساد»

لم يكن استهداف إسرائيل لقيادات في «حماس» وغيرها من الفصائل في دول خارج الأراضي الفلسطيني أمراً مستغرباً، بل وكانت بعض الدول مثل لبنان وسوريا أرضاً خصبة لهجماتها، لكن حدوث ذلك في بعض العواصم والمدن كان خارج نطاق التوقعات.

ففي العاصمة الأردنية عمان، حاول عناصر من جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد)، في 25 سبتمبر (أيلول) 1997، اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» آنذاك خالد مشعل، وذلك بإلقاء مادة سامة عليه خلال مروره بالطريق متجهاً صوب مكاتب الحركة، وأصيب مشعل حينها بجروح خطيرة. وجرت مساومة بين الأردن وإسرائيل، تضمنت الإفراج عن عناصر «الموساد» الذين نفذوا الهجوم مقابل إطلاق سراح مؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين و70 أسيراً فلسطينياً، وتسليم مادة مضادة للسم لإنقاذ حياة مشعل؛ وتمت الصفقة.

خالد مشعل يتحدث خلال مقابلة في الدوحة في 16 أكتوبر 2014 (رويترز)

وفي مدينة دبي بالإمارات، نفذ جهاز «الموساد» في 19 يناير 2010 عملية داخل أحد الفنادق قُتل فيها محمود المبحوح، القيادي في «كتائب القسام» الجناح المسلح لحركة «حماس»، خنقاً وصعقاً بالكهرباء. وتعود أصول المبحوح لمخيم جباليا بشمال قطاع غزة، وقد أقام في الخارج لعقود، وكان مسؤولاً عن نقل أسلحة وصواريخ من إيران إلى داخل القطاع.

وبين عامي 2021 و2022، حاول عملاء يعملون لصالح «الموساد» اغتيال أسرى محررين من قيادة «حماس» في أثناء وجودهم في تركيا، بعد إطلاق سراحهم في صفقة الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط عام 2011، وكُشف عن مخطط للعمليات التي كانوا يعتزمون تنفيذها.

سبق ذلك في 21 أبريل (نيسان) 2018 اغتيال عملاء من «الموساد» فادي البطش، أحد المهندسين السريين الذين يعملون في «كتائب القسام» وتحديداً لتطوير سلاح الطائرات المسيّرة؛ وذلك بإطلاق النار عليه في ماليزيا، ولكن «القسام» لم تتحدث رسمياً حتى الآن عن أنه أحد مهندسيها، لكنها نعته وأقامت له سرادق عزاء كبيراً ببلدته في جباليا.

وفي يناير 2024، أعلن الجيش الإسرائيلي أنه اغتال حسن عكاشة بمحافظة ريف دمشق بسوريا، قائلاً إنه كان مسؤولاً عن إطلاق صواريخ «حماس» من الأراضي السورية باتجاه إسرائيل. ولم يذكر كيفية الاغتيال.

وفي أواخر سبتمبر (أيلول) من العام نفسه، أعلن جيش إسرائيل عن تنفيذ غارة جوية جنوب سوريا قال إنه اغتال فيها أحمد محمد فهد، مشيراً إلى أنه كان قائداً ميدانياً في حركة «حماس» ووراء إطلاق قذائف صاروخية نحو هضبة الجولان.


مقالات ذات صلة

خليفة «أبو شباب» يتعهد بمواصلة مقاومة «حماس»

المشرق العربي ياسر أبو شباب في صورة نشرتها صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية (أرشيفية)

خليفة «أبو شباب» يتعهد بمواصلة مقاومة «حماس»

أكدت «القوات الشعبية» التي كان يتزعمها ياسر أبو شباب، مقتله خلال محاولته فض نزاع عائلي، مشددةً على أنه لم يكن لحركة «حماس» أي علاقة بظروف مقتله.

«الشرق الأوسط» (غزة)
خاص المبنى المتضرر من الهجوم الإسرائيلي على قادة «حماس» في الدوحة سبتمبر الماضي (رويترز) play-circle

خاص إجراءات أمنية جديدة في «حماس» خشية اغتيال قادتها بالخارج

باتت حركة «حماس» تتحسب لعملية اغتيال إسرائيلية جديدة، محتملة لبعض قياداتها في خارج الأراضي الفلسطينية، وتحدثت مصادر كبيرة عن قلق من حدوثها في دولة غير عربية.

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي مقاتلون من «كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس» يقفون حراساً أثناء البحث عن جثث رهائن إسرائيليين إلى جانب عمال الصليب الأحمر وسط أنقاض مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة يوم 1 ديسمبر 2025 (إ.ب.أ) play-circle

إسرائيل تعلن مقتل 40 مسلحاً محاصراً من «حماس» في أنفاق تحت رفح

قال الجيش الإسرائيلي، اليوم (الخميس)، إنه قُتل نحو 40 من مسلحي حركة «حماس» الذين كانوا محاصرين في أنفاق تحت رفح بجنوب قطاع غزة داخل منطقة تسيطر عليها إسرائيل.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
المشرق العربي القيادي الفلسطيني ياسر أبو شباب (وسائل التواصل) play-circle

مقتل ياسر أبو شباب في غزة

قالت إذاعة الجيش الإسرائيلي، اليوم (الخميس)، نقلاً عن مصادر أمنية، إن ياسر أبو شباب أبرز زعماء العشائر المناهضة لحركة «حماس» في قطاع غزة توفي متأثراً بجراحه.

«الشرق الأوسط» (غزة)
شمال افريقيا تُظهر هذه الصورة المأخوذة من مخيم النصيرات للنازحين الفلسطينيين مباني مدمرة وأعمدة دخان تتصاعد في الأفق إثر غارات إسرائيلية شرق مدينة غزة (أ.ف.ب) play-circle

مصر: لا مجال للحديث عن تقسيم غزة... والانتقال للمرحلة الثانية من خطة ترمب ضرورة

أكد وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي أنه «لا مجال للحديث عن تقسيم غزة».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

«أونروا»: تمديد الأمم المتحدة عمل الوكالة يعكس تضامناً عالمياً مع اللاجئين الفلسطينيين

خيام تؤوي النازحين الفلسطينيين وسط الدمار الذي خلفه الهجوم الجوي والبري الإسرائيلي على مدينة غزة (أ.ب)
خيام تؤوي النازحين الفلسطينيين وسط الدمار الذي خلفه الهجوم الجوي والبري الإسرائيلي على مدينة غزة (أ.ب)
TT

«أونروا»: تمديد الأمم المتحدة عمل الوكالة يعكس تضامناً عالمياً مع اللاجئين الفلسطينيين

خيام تؤوي النازحين الفلسطينيين وسط الدمار الذي خلفه الهجوم الجوي والبري الإسرائيلي على مدينة غزة (أ.ب)
خيام تؤوي النازحين الفلسطينيين وسط الدمار الذي خلفه الهجوم الجوي والبري الإسرائيلي على مدينة غزة (أ.ب)

وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة، اليوم (الجمعة)، على تمديد عمل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) لمدة 3 سنوات إضافية، في خطوة قال مفوض الوكالة، فيليب لازاريني، إنها تعكس تضامناً عالمياً واسعاً مع اللاجئين الفلسطينيين.

وقال لازاريني، في منشور على «إكس»، إن قرار الأمم المتحدة «هو أيضاً إقرار بمسؤولية المجتمع الدولي في دعم الاحتياجات الإنسانية والتنموية للاجئي فلسطين، إلى حين التوصُّل إلى حل عادل ودائم لمعاناتهم المستمرة منذ عقود».

وزعمت إسرائيل، أوائل العام الماضي، أن 12 من موظفي «أونروا» شاركوا في الهجوم الذي شنَّته حركة «حماس» على جنوب إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وأشعل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة؛ مما دفع دولاً عدة، من بينها الولايات المتحدة إلى تعليق تمويل الوكالة.

وخلصت مراجعة، صدرت في وقت لاحق من ذلك العام أجرتها مجموعة عمل أممية، إلى أن إسرائيل لم تقدِّم أدلةً على مزاعمها بأنَّ موظفين في «أونروا» أعضاء في جماعات إرهابية.

وتأسست «أونروا» في 1949 بعد إعلان قيام إسرائيل على الأراضي الفلسطينية في العام السابق، وتقدم خدمات تعليمية وصحية، ومساعدات للاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية والأردن ولبنان وسوريا.


تقرير: سفير أميركا لدى الأمم المتحدة يبدأ غداً جولة تشمل إسرائيل والأردن

السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة مايك والتز (أ.ف.ب)
السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة مايك والتز (أ.ف.ب)
TT

تقرير: سفير أميركا لدى الأمم المتحدة يبدأ غداً جولة تشمل إسرائيل والأردن

السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة مايك والتز (أ.ف.ب)
السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة مايك والتز (أ.ف.ب)

أوردت وكالة «بلومبرغ» أن السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة، مايك والتز، سيبدأ، غداً (السبت)، جولة في الشرق الأوسط تستمر أربعة أيام تشمل إسرائيل والأردن.

وقالت الوكالة إن والتز سيلتقي أثناء زيارته لإسرائيل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والرئيس إسحاق هرتسوغ.

ويلتقي أثناء زيارته للأردن بالملك عبد الله الثاني ووزير الخارجية أيمن الصفدي لمناقشة دور الأردن في تسهيل دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة.


فرنسا: نظرة إيجابية إلى التحولات في سوريا رغم النواقص والصعوبات

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره السوري أحمد الشرع يتصافحان بعد انتهاء مؤتمرهما الصحافي المشترك في قصر الإليزيه يوم 7 مايو الماضي (أرشيفية - أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره السوري أحمد الشرع يتصافحان بعد انتهاء مؤتمرهما الصحافي المشترك في قصر الإليزيه يوم 7 مايو الماضي (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT

فرنسا: نظرة إيجابية إلى التحولات في سوريا رغم النواقص والصعوبات

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره السوري أحمد الشرع يتصافحان بعد انتهاء مؤتمرهما الصحافي المشترك في قصر الإليزيه يوم 7 مايو الماضي (أرشيفية - أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره السوري أحمد الشرع يتصافحان بعد انتهاء مؤتمرهما الصحافي المشترك في قصر الإليزيه يوم 7 مايو الماضي (أرشيفية - أ.ف.ب)

في قراءتها للوضع في سوريا، بعد مرور عام على سقوط نظام الرئيس بشار الأسد وفراره إلى موسكو، تختار باريس المقاربة الإيجابية، رغم وجود تحفظات وعلامات استفهام حول مستقبل البلاد. هي تفضل قطعاً رؤية الكأس نصف الملآنة على الكأس نصف الفارغة. وتريد باريس أن تؤكد، بداية، أنها كانت سبّاقة في مواكبة الوضع في سوريا منذ الأيام الأولى؛ حيث أرسلت وفداً دبلوماسياً إلى سوريا بعد 9 أيام فقط على سقوط دمشق بأيدي فصائل المعارضة السابقة، فيما كان وزير خارجيتها، جان نويل بارو، أول من زار العاصمة السورية (مع نظيرته الألمانية) يوم 3 يناير (كانون الثاني). وكانت المحطة الثالثة في تحرك باريس باتجاه دمشق انعقاد مؤتمر لدعم سوريا في العاصمة الفرنسية بداية شهر فبراير (شباط).

تُوّج الحراك الدبلوماسي الفرنسي بزيارة الرئيس أحمد الشرع إلى باريس يوم 7 مايو (أيار)، وكان الرئيس إيمانويل ماكرون أول رئيس غربي يلتقيه الشرع. وخلاصة كل ذلك أن باريس «قررت الانخراط إلى جانب النظام الجديد في دمشق رغبة منها في التأثير عليه ودفع العملية الانتقالية في الاتجاه الصحيح المتلائم مع مصالح السوريين والمصالح الفرنسية الأمنية والإقليمية». وتشدد باريس على أهمية إضفاء نوع من الشرعية على الشرع من خلال استقباله في قصر الإليزيه ومناشدة ماكرون لرفع العقوبات التي كانت تخنق سوريا.

الأولويات الفرنسية في سوريا

بناءً على ما سبق، دارت الأولويات الفرنسية حول 4 محاور أولها المحور الأمني وأول مكوناته العمل على دفع سوريا إلى الانضمام إلى التحالف الدولي في الحرب ضد «داعش»، الأمر الذي تم رسمياً في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. والغرض من ذلك منع عودة الحركات والتنظيمات المتشددة. ويتوازى ذلك مع اهتمامين: التخلص من الأسلحة الكيماوية التي ما زالت تمتلكها سوريا ومحاربة إنتاج وتهريب المخدرات. ورغم أن هذا النشاط ما زال قائماً جزئياً، فإن باريس ترى أن السلطات السورية حققت «نتائج مهمة» في محاربته.

يتمثل المحور الثاني في دعم العملية الانتقالية، وأبرز معالمها تمسك باريس بأن تشمل جميع المكونات المجتمعية الإثنية والدينية، انطلاقاً من مبدأ قوامه أن الاستقرار «لا يمكن توافره إن لم يشعر كل مكوّن بالأمن ويتمتع بكامل الحقوق». وفي هذا السياق، تؤكد باريس أنها لعبت دوراً مهماً في التقريب بين «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) المُشكَّلة في غالبيتها من الأكراد، وبين نظام الحكم في دمشق، وكان باكورة مساهمتها توقيع اتفاق مارس (آذار) الماضي الذي أُلحق باتفاق آخر نهاية الشهر الماضي. لكن باريس تعترف بأن «الوضع لم يسوَّ» كلياً بين الجانبين، رغم أنه تم تجنب وقوع اشتباكات واسعة بينهما. وتنظر باريس بكثير من الأسى، من جهة، لما حصل في شهر مارس الماضي من انتهاكات في منطقة الساحل العلوية، وما تبعها في يوليو (تموز) في محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية. وفي الحالتين كان هناك دور لعناصر من السلطات السورية في هذه الأحداث التي أدانتها باريس وأكدت ضرورة محاسبة المسؤولين عنها انطلاقاً من مبدأ عدم الإفلات من العقاب.

متظاهرون في مدينة حماة الجمعة 5 ديسمبر بمناسبة الذكرى الأولى لسقوط نظام الرئيس بشار الأسد (رويترز)

ويندرج تحت المحور الأمني الانتهاكات المتلاحقة التي تقوم بها إسرائيل في الأراضي السورية، وهي انتهاكات تدينها فرنسا. وأشارت المصادر الدبلوماسية إلى أن باريس دعمت الجهود الأميركية للتوصل إلى اتفاقات أمنية بين سوريا وإسرائيل، وأنها، لهذا الغرض، استضافت لقاءات متعددة جمعت وزير الخارجية أسعد الشيباني ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، بحضور المبعوث الأميركي توم برّاك. ولا تنسى باريس الدور الذي تقوم به لترسيم الحدود اللبنانية ــ السورية التي لم ترسّم منذ استقلال البلدين عن فرنسا في أربعينات القرن الماضي. يبقى أن باريس تشدد على أمرين إضافيين: الدعم الذي وفّرته للسكان إنسانياً وتربوياً واقتصادياً، من جهة، ومن جهة ثانية تفعيل التعاون الثقافي.

عقدة «المشاركة الجماعية»

رغم النظرة الإيجابية الإجمالية الفرنسية، فإن باريس لا تكتم قلقها سواء بشأن الأحداث الأمنية المتنقلة أو لصعوبة إعادة إطلاق الاقتصاد وعدم اكتمال عملية الانتقال السياسية. كذلك تتوقف باريس مطولاً عند عقدة «المشاركة الجماعية» لكل الأطراف في بنية الدولة السورية الجديدة وعلاقة المكوّنات ببعضها، وهي تنطلق من مبدأ تحديد «المعايير» الواجب الأخذ بها. وبرأيها أن الأخذ بالمعايير الأوروبية يبيّن بلا شك النواقص والعيوب وهذه كثيرة أكان بالنسبة لعلاقة المركز مع الأقليات أو بالنسبة للتعيينات في المراكز الحكومية والعسكرية أو بالنسبة لآلية الانتخاب النيابية والسلطات المعطاة للرئاسة أو لحضور المرأة أو لسيطرة السلطات على الأجهزة الأمنية وكذلك بالنسبة للعمل من أجل العدالة الانتقالية الضرورية.

ورغم ذلك كله تعتبر باريس أن العملية الانتقالية بكل شوائبها جاءت أقل درامية مما كان متوقعاً، وأن المخاوف من قيام «جمهورية إسلامية» لا تحترم الأقليات وحقوق المرأة ولا التوجهات الليبرالية لم تتحقق. والخلاصة التي كونتها باريس هي أنه يمكن النظر إلى الوضع السوري من مختلف الزوايا وهي نظرة تؤكد أن ثمة «أموراً إيجابية في العملية الانتقالية».

وتؤكد المصادر أن باريس على حوار متواصل مع السلطات السورية، بما في ذلك ما يخص استكمال أعضاء مجلس النواب والمقاعد المخصصة للنساء والدستور الانتقالي والعدالة الانتقالية وقانون الأحزاب... وكلها مسائل بالغة الأهمية في نظر فرنسا.

وتنظر باريس بقلق، بحسب المصادر الدبلوماسية، لما تقوم به إسرائيل في سوريا. وتؤكد المصادر أن موقف باريس «واضح ويقوم على دعوة إسرائيل لسحب قواتها من الأراضي التي احتلتها بعد سقوط نظام الأسد والعودة إلى خط فك الاشتباك لعام 1974». وتضيف المصادر أن باريس أعربت مراراً عن قلقها من التطورات الجارية وأن هناك مصادر قلق للطرفين يتعين التعامل معها. وتبدو باريس سعيدة بأن الملف السوري يحظى بنوع من الإجماع الدولي باعتبار أن «سوريا مستقرة تعد ضرورة للتوازنات الإقليمية والدولية». وتبدو باريس كذلك سعيدة بالانخراط الأميركي إلى جانب استقرار سوريا بما في ذلك ما تقوم به إسرائيل في هذا البلد والذي يهدد الحكومة السورية.