لعقود، ظلَّ العلماء يفكرون في مشكلة أساسية، وهي كيف يتخلَّص مخّ الإنسان من النفايات التي يُفرزها في أثناء العمل والتفكير طوال اليوم، والتي تتضمَّن بروتينات وجزيئات زائدة قد تتحوّل إلى مواد سامّة في حال عدم التخلُّص منها، ومن بينها بروتينات الأميلويد بيتا وتاو التي تُعدّ من المسبّبات الأساسية لمرض ألزهايمر. وبالنسبة إلى باقي أعضاء الجسم، يتخلّص الجهاز الليمفاوي من هذه الفضلات، فتنتقل السوائل الزائدة إلى الطحال والعقد الليمفاوية وأجزاء أخرى من الجهاز الليمفاوي قبل أن تمرّ إلى مجرى الدم ليجري التخلّص منها. لكن هذه العملية الحيوية لا يمكن أن تجرى بالطريقة نفسها داخل المخّ بسبب ما يُعرف باسم الحاجز الفاصل بين المخّ والدم، وهو غلاف واقٍ يمنع انتقال العدوى إلى الخلايا العصبية داخل المخّ، لكنه بالمثل يمنع أيضاً انتقال أي شيء خارجه.
في هذا السياق، ذكرت «وكالة الأنباء الألمانية» أنه في عام 2012، توصَّل فريق بحثي بجامعة روشستر الأميركية برئاسة اختصاصية طب الأعصاب مايكن نيدرغارد إلى وجود نظام دوري لم يكن معروفاً من قبل لطرد الفضلات السامّة من المخّ. وتبيَّن من خلال بحوث على فئران التجارب تدفّق السائل النخاعي داخل أنفاق حول الأوعية الدموية في المخّ، إذ تمرّ هذه القنوات على نوع من خلايا المخّ تُعرف بالخلايا النجمية وتختلط بما يُعرف باسم «السوائل الخلالية»، إذ تجمع الفضلات وتحمّلها خارج المخّ عبر المساحات المحيطة بالأوعية الدموية. وعام 2013، نشرت نيدرغارد دراسة مهمّة مفادها أنّ عملية «التنظيف المنزلي» تنشط خلال الليل. وتقول الباحثة في تصريحات للموقع الإلكتروني «ساينتفيك أميركان» المتخصّص في البحوث العلمية: «خلال الاستيقاظ، تتوقف عملية التنظيف، ويرجع السبب في ذلك على الأرجح إلى أنّ دقة عمل الأنظمة العصبية اللازمة لمعالجة مؤثرات العالم الخارجي لا تتوافق مع عملية الاغتسال».
وتؤكد هذه النتائج أنّ عملية اغتسال المخّ التي اكتُشفت حديثاً هي واحدة من أهم فوائد النوم. وتوضح: «عندما تستيقظ وأنت تشعر بالنشاط بعد مدّة من النوم الهادئ، فإنّ ذلك يعود، على الأرجح، إلى أنّ المخّ تعرّض لعملية إعادة ضبط شبيهة بما يحدث في حالة صيانة السيارة».
لكن تلك الدراسات السابقة أُجريت على الفئران، التي تتّسم أدمغتها بأنها أصغر وأقلّ تعقيداً من عقول البشر، كما أنّ مدّة نومها عادة متقطّعة وليست متصلة مثل الإنسان، وبالتالي كان كثير من العلماء يرفضون نظرية اغتسال العقل البشري خلال النوم. ويقول اختصاصي علم المناعة العصبية في كلية طب جامعة واشنطن الأميركية، جوناثان كيبنيس: «قبل 10 سنوات، كان الحديث عن تدفّق السوائل داخل المخّ يبدو مثل الهرطقة». وقد أمضى الباحثون السنوات الـ10 الماضية في دراسة ما إذا كانت عملية اغتسال المخّ تحدُث لدى الإنسان على غرار ما يحدُث لدى الفئران، وقد توصّلت البحوث إلى إثبات صحة هذه النظرية، بل وإنّ الموجات الكهربائية التي تتحرّك داخل المخّ خلال النوم تدفع السائل النخاعي داخله وخارجه.
ومن جانبه، يؤكد أستاذ طب النفس والأعصاب بجامعة واشنطن، جيفري إيليف، أهمية ما يُعرف باسم النظام «الغليمفاوي» الذي يقصد به آلية تنظيف المخ وإزالة الفضلات التي تجري أثناء نوم الإنسان. ويقول لموقع «ساينتفيك أميركان» إنّ تعطّل هذه المنظومة يؤدّي على الأرجح إلى الإصابة باضطرابات عصبية ونفسية، من بينها مرض ألزهايمر؛ ويرى أنّ تعطل النظام الغليمفاوي قد يفسّر سبب اختزان المخّ لبروتينات الأميلويد وتاو في مرحلة الشيخوخة.
وذكر إيليف أنّ المتخصّصين في مجال النوم ظلّوا لسنوات يركزون على أهمية النوم في عملية اختزان الذكريات، كما أنّ الأطباء الذين درسوا المساحات المحيطة بالأوعية الدموية لم يتبينوا الغرض منها بشكل واضح، بل واستبعدوا إلى حدّ كبير إمكان أن تكون هذه المساحات في حقيقتها قنوات لمرور السوائل، مضيفاً أنهم «لم يدركوا مدى ديناميكية هذه القنوات». ويقول الباحثون إنّ الجسم البشري ينتج ما بين 3 إلى 4 أمثال مخزونه من السوائل النخاعية كل يوم ثم يتخلّص منها. وقد أدركت بعض الدراسات المبكرة ارتباط تدفّق هذه السوائل بنبضات القلب، ولكن لم يتّضح خلال الدراسات السابقة التغيّر الذي يطرأ على تدفّق هذه السوائل خلال النوم.
وخلال التجربة التي أجرتها الباحثة نيدرغارد لقياس معدّلات التخلّص من بروتينات الأميلويد في أثناء استيقاظ الفئران ونومها وتخديرها، حقن الباحثون متتبعات فلورية داخل أدمغة الفئران لمتابعة تدفّق السوائل النخاعية داخل المساحات حول الأوعية الدموية. وتبيَّن لهم أنّ تدفّق تلك السوائل يتراجع بنسبة 95 في المائة في أثناء الاستيقاظ، مقارنة بما يحدث خلال النوم، وأن حجم هذه القنوات بين الأوعية يتّسع بنسبة 60 في المائة عندما تكون الفئران نائمة أو في حالة تخدير، وهو ما يؤكد أنّ الجسم يتعرّض لتغيّرات فسيولوجية خلال الغياب عن الوعي تزيد من قدرة المخّ على التخلُّص من فضلاته.
وفي دراسة مماثلة على البشر أُجريت عام 2021، حقن جراح الأعصاب بيير كريستيان إيدي من مستشفى جامعة أوسلو النرويجية متتبعات فلورية لمتابعة تدفّق السوائل النخاعية لدى مجموعة من المرضى المتطوّعين، مع تقسيمهم إلى مجموعتين، إذ سُمح لأفراد المجموعة الأولى بالنوم بشكل طبيعي طوال الليل، بينما أُبقي أفراد المجموعة الثانية مستيقظين خلال المدّة نفسها. وأُجري تصوير بالرنين المغناطيسي لأفراد المجموعتين مرّتين خلال الليل ثم في اليوم التالي.
وتبيَّن خلال التجربة أنّ حركة المتتبعات الفلورية التي ترصد تدفُّق السائل النخاعي كانت بطيئة بشكل كبير لدى المتطوّعين الذين لم يُسمح لهم بالنوم، وظهر أيضاً أنه حتى بعد السماح لهم بالنوم في الليلة التالية، ظلَّ معدل تدفُّق السائل النخاعي لديهم بطيئاً مقارنة بأفراد المجموعة الأخرى، مما يدل على أنّ آثار الحرمان من النوم لا يمكن تعويضها بسهولة بمجرّد نوم ليلة واحدة. وأكد إيدي أنه «رغم اختلاف آلية عمل النظام الغليمفاوي بين البشر والفئران بشكل عام، إذ تحدُث التغيّرات في العقل البشري خلال ساعات وليس دقائق كما في الفئران، فمن المؤكد أن العقل البشري أيضاً يغتسل في أثناء النوم، وأن نقص النوم يؤثّر بالفعل سلبياً على آلية عمل هذه المنظومة».



